بابنوسة سُرًّة كردفان.. قصة مدينة سودانية صُلِبت مرتين

 أمير بابكر عبد الله

موقع ألترا صوت

بابنوسة.. تلك المدينة كانت بمثابة قلب الدورة الصغرى للسودان الكبير قبل إنفصال الجنوب وإعلان دولة جنوب السودان، إذ مثلت أهم مدن البلاد وهي التي ربطت مدن الغرب في أقصى إقليم دارفور بوصول خط السكك الحديد إلى مدينة نيالا، وعمق الجنوب وهي تمد زراعيها لمدينة واو في عمق إقليم بحر الغزال في جنوب السودان.

 وكأنما تآمرت عليها الأحداث مرتين، أو كما قتل شخوص الروائي اليوناني كزانتزاكس المسيح مرتين؛ فالمدينة التي تقع في إلى الغرب من إقليم كردفان اكتسبت أهميتها ليس من موقعها الجغرافي الاستراتيجي فحسب، بل لعوامل أخرى إذ تعتبر المركز الحضري الثالث لقبيلة المسيرية، بعد مدينتي المجلد والفولة والتي تقف على رأسها أسرة القيادي الأهلي، الناظر بابو نمر. كما أنها تتوسط حزام الصمغ العربي مما يعزز من موقعها الاقتصادي والتجاري، وتعتبر مركز لتجارة المحاصيل الزراعية مثل الفول السوداني والكركديه وحب البطيخ والذرة. هذا غير أهميتها العسكرية، في ظل دولة ظلت غارقة في الحروب منذ استقلالها.

كيف صُلِبت المرة الأولى

اختيار مدينة بابنوسة لتكون تقاطعاً لخطوط السكة الحديد بين الوسط والغرب والجنوب، نقلها إلى مصاف المدن الحضرية وطبائعها، بعد أن كانت مجرد قرية من جملة القرى المنتشرة في أرجاء كردفان، بل لم تكن معروفة بهذا الإسم حتى العام 1948.

 يقول الدكتور صلاح الأمين، وتعود جذوره إلى تلك المنطقة، "كان اسمها القديم (القبة). والقبة هي قبة الشيخ الولي أبو سماعين وهو جد القيادي في حزب الأمة. حتى الآن اسم الحي القديم في بابنوسة يسمى حي أبوإسماعين. في ديسمبر عام 1948 افتتح خالنا الزعيم عبدالرحمن عبدالكريم أول متجر في المنطقة باقتراح من والده الفكي عبدالكريم جبريل. لاحقاً تحول الإسم إلى ال (بابنوسة ) وينطقها أهلها (البابنوصة)، وتعني شجرة الأبنوس أو البابنوس لانتشاره حول المنطقة." تتميز سيقان شجرة الأبنوس باللون الأسود اللامع.

 بدأ مد خطوط السكة الحديد في مع بداية استقلال السودان، ووصلت إلى بابنوسة بين عامي 1956 و1957، لتصبح أهم تقاطع للسكة الحديد بعد مد خط حديدي منها إلى مدينة نيالا في أقصى الغرب بين عامي 1957 و1959 وبعد ذلك تفرع منها خط إلى مدينة واو بدأ في العام 1959 وانتهى غي العام 1962، وبذلك اكتمل ربط كل السودان بخطوط السكة الحديد.

 هذا التطور العام رفع بابنوسة إلى مصاف المدن، وصارت السكة الحديد بمثابة الرئة التي تضخ الاوكسجين في أنحاء المدينة، وتحولت إلى مركز بعد أن توافد إليها السكان من مختلف أنحاء البلد بسبب الطفرة التنموية، حتى اطلق عليها اسم "القميرة".

 يقول العمدة محمد الفاتح مصطفى، عمدة التبون إحدى إداريات محلية بابنوسة، لـ"الترا صوت" إن المدينة أصبحت نموذجاً للتمازج الاجتماعي والثقافي بين مختلف أبناء السودان وإن كان غالبية السكان من قبيلة المسيرية. وأضاف بأن إنشاء مصنع بابنوسة للألبان ووجود قيادة للفرقة العسكرية بالمدينة إلى جانب صرح السكة الحديد الذي كان سبباً في كل هذا الحراك.

 هذا ما أكده الأمين بقوله " شهدت الستينات التحول السريع في المدينة مع وصول شريط السكة حديد المتجه إلى نيالا والمتجه إلى واو لتكون بابنوسة رئاسة للقسم الغربي لسكك حديد السودان ولتكون ايضا منفى للمناضلين من نقابيين وناشطين يساريين ،فعملوا على بناء مراكز للقوى الديمقراطية بالمدينة والمنطقة".

 بإنقلاب الجبهة الإسلامية على الحكم في السودان في يونيو 1989، حدثت تحولات كبرى خاصة بعد استهداف نظام الحكم لهيئة السكة الحديد وخصخصتها، ضمن سياسات الخصخصة التي انتهجتها. وعملت السلطات على تكسيرها باعتبارها أكبر مركز لبث الوعي والمعارضة والمقاومة وضمها لأقوى النقابات العمالية المؤثرة ولتأثيرها على اقتصاد النقل وحركة السلع بين أطراف السودان المختلفة.

 كانت هذه السياسات التي قادت كثير من المدن إلى منصة الصَلب والتدمير ومن أبرز المدن التي تأثرت بهذه السياسات كانت مدينة بابنوسة، وبدأت في التراجع عن دورها الاستراتيجي في الاقتصاد، وجاء انفصال الجنوب وإعلان استقلال دولة جنوب السودان ليعيد المدينة إلى جذورها، وليس لها من تأثير سوى تموضعها ضمن انتشار الفرق العسكرية في البلاد.

  الحرب.. منصة الصَلْب الثانية

مثل كثير من مدن السودان الواقعة داخل أتون نيران الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في أبريل 2023، أو تلك المدن الواقعة على خط النار، تأثرت مدينة بابنوسة بنيران الحرب قبل أن تصلها.

 فهي ضمن أهم المدن التي تنتشر فيها قبيلة المسيرية، وهي من القبائل التي تغذي طرفي الحرب في السودان. فهم يعتبرون الفرقة 22 مشاه، التابعة للجيش السوداني وتتخذ من بابنوسة مقر لها، فرقة خاصة بالمسيرية، باعتبارها في منطقة نفوذهم القبلي، هذا غير وجودهم ضمن الجيش كمقاتلين معروفين منذ تأسيس القوات المسلحة. كما أن لهم وجود مقدر كقبيلة ضمن قوات الدعم السريع، ويتحركون ضمن هذه القوات في مناطق نفوذهم.

 ولأهميتها الاستراتيجية من الناحية العسكرية والسياسية، استهدفت قوات الدعم السريع المدينة للسيطرة عليها وبالتالي السيطرة على قدرات الجيش السوداني في غرب كردفان.

 بعد أن سيطرة على عدة مناطق ليست ذات ثقل عسكري في غرب كردفان، بدأت قوات الدعم السريع في حصار مدينة بابنوسة في يناير 2024، قبل أن تبدأ حصار مدينة الفاشر التي سيطرت عليها نهاية أكتوبر الماضي. وبدأت موجات الكر والفر بين القوتين منذ ذلك الحين، واستطاعت مجموعات من قوات الدعم السريه الوصول إلى داهل المدينة دون أن تتمكن من الوصل إلى مقر الفرقة 22 مشاه.

 شهدت المدينة إثر ذلك، مثلها كمدن السودان الأخرى التي مرت بذات التجربة في الوسط والغرب، شهدت موجات نزوح واسهة للمدنيين إلى مناطق أكثر استقراراً داخل السودان والبعض تجاوز الحدود الدولية لاجئاً.

 منذ ذلك التاريخ ظلت المدينة تحت مرمى نيران قوات الدعم السريع، مما أدى إلى إفراغها من السكان المدنيين الذين لجاوا اولاً إلى المدن القريبة مثل المجلد والفولة. لكن حتى هذه المدن لم تكن مستقرة في ظل التدهور الأمني العام وقربها من خطوط النيران، إلى جانب ذلك تدهور الخدمات الصحية وصعوبة الحصول على الغذاء بسبب عدم قدرة المنظامت الإنسانية على الوصول إلى تلك المناطق.

 تطورات في المشهد العسكري

الأسبوع الماضي، وعقب سيطرتها على مدينة الفاشر في شمال دارفور، بدأت قوات الدعم السريع حشد قدراتها العسكرية بغرض السيطرة على مدينة بابنوسة وتحييد الفرقة 22 مشاهن وبالتالي السيطرة على كل غرب كردفان. وتفيد الأنباء بتمسك قيادة الفرقة بالقتال عن مواقعها، بعد أن شهدت المدينة موجات متتالية من الهجوم العنيف قادته تلك القوات أكثر من مرة.

 وبحسب مصادر صحفية شنت قوات الدعم السريع هجوماً هو الأعنف على المنطقة العسكرية، وسط تحليق مكثف لمسيَّرات تابعة للجيش للتصدي للهجوم الواسع من عدة جهات. وبحسب المصادر فإن قتالاً عنيفاً دار بين الطرفين في محيط معسكر الجيش، حيث سُمعت أصوات الأسلحة الثقيلة من مناطق بعيدة، وأن الجيش قصف بالمسيَّرات تجمعات قوات الدعم السريع التي تحيط بالمدينة.

 وقال قائد الفرقة 22 مشاه، اللواء ركن معاوية حمد عبد الله، إن المدينة بخير، قائلًا: "نحن في الفرقة 22 مشاة لن نفاوض أو نستسلم أو ننسحب، بل سنقاتل حتى النصر". وأضاف الله في بيان: “نطمئن الشعب السوداني بأن بابنوسة بخير، وأن فرقتنا ثابته وستظل صامدة وعصية على الأعداء”.

 بحسب مصدر عسكري، فضل عدم ذكر إسمه، فإن أهم ما يميز هذه المرحلة أن قوات الدعم السريع تدخل معركتها مع الجيش وهي تحت غطاء سياسي بعد إعلان حكومة "تأسيس" التي يترأس مجلس رئاستها الفريق محمد حمدان دقلو، قائد قوات الدعم السريع، رغم عدم الاعتراف بها إقليمياً ودولياً. والأهم هو وجود فصيل مهم ضمن هذه الحكومة وهو الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة عبد العزيز الحلو، التي تسيطر على جزء من جنوب كردفان ولديها قوة عسكرية ضاربة في المنطقة.

 يقول المصدر العسكري إن سقوط بابنوسة بواسطة قوات الدعم السريع سيحقق بداية السيطرة الكاملة لتنظيم تأسيس على ولاية جنوب كردفان، وإندماج قوات الدعم السريع وقوات الحركة الشعبية (الحلو) في الولاية. واضاف في حديثه لـ"الترا  صوت" إن هذه الخطوة تعني تهديد متوقع بالسيطرة على مدينة الدلنج ومدينة كادوقلي، عاصمة ولاية جنوب كردفان، وإكتمال السيطرة على الحدود مع جنوب السودان من حفرة النحاس غربا، وحتى الضفة الغربية للنيل الأبيض.

 وقال إن ذلك يعني أيضاً السيطرة الكاملة على حقول النفط في هجليج وخطوط الأنابيب الناقلة، وبداية تشكل تهديد مباشر على مدينة الأبيض عاصمة ولاية شمال كردفان ومناطق ولاية النيل الأبيض.

 اتفق المصدر العسكري مع العمد محمد الفاتح في أن سيطرة قوات الدعم السريع على بابنوسة ستحدث تحولاً كبيراً على مستوى قبيلة المسيرية، وأنها ستجد نفسها محاصرة داخل مناطقها مما سيضطرها للانحياز الكامل لقوات الدعم السريع ومشروع "تأسيس".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق