أمير بابكر عبد الله
لفت انتباهي منشور
للصديقة العزيزة زهرة حيدر، وهي مثال للمرأة السودانية القوية التي لا تستسلم؛ لفت
انتباهي أنها وقعت في خطأ توصيف موقف الرافضين للحرب والواقفين على ضفة السلام بأنه
"موقف تالت وأخلاقي".
صحيح تماماً إنه موقف
أخلاقي ولكنه ليس موقف "تالت"، وإنما هو الموقف الثاني وهو موقف ليس
محايد كما يروج له البعض. فهناك ضفتان في المشهد السوداني الآن، ضفة المؤيدين للحرب
والمنخرطين فيها فعلياً هنا وهناك، ويرون أنها الحل الوحيد لتحقيق مصالحهم دون
مراعاة للمصالح الكلية، إذ تقتصر فائدتها على ما تحققه لهما. وهناك ضفة الرافضين
للحرب جملة وتفصيلا ويرون أن السلام وأدوات الحوار هي الطريق إلى حل المشكلات
والأزمات وهي طريق البناء بدلاً عن التكلفة العالية التي يدفع ثمنها الجميع وقوفاً
في ضفة الحرب، خاصة إنها حرب بين أبناء وطن واحد.
أما أصحاب الموقف
"التالت" فهم الواقفون في مجرى السيل أو مجرى النهر الذي يفصل بين
الضفتين، هم أصحاب المواقف الرمادية.
هم أولئك الذين يقفون في منتصف الطريق لا
ينادون بالحرب ولا يهتفون بالسلام، مذبذبين بين هذا وذاك، هم من يربكون المشهد،
يخشون الحرب ويخشون السلام في نفس الوقت.
هؤلاء كثيرون ولكنهم مرتبكون، يجلس الواحد منهم
أو يقف على كومة من التناقضات حين يرى أن السلام "سمح" ولكنه لا يحقق له
ما يحلم به وفي ذات الوقت يرى في الحرب مخرجاً من أزماته الشخصية أو تدعم رؤيته
لأقرب طرق الحل لها.
كثيرون منهم يجدون ويصوغون مبررات لانتهاكات
الحرب لهذا الطرف أو ذاك، وفي دواخلهم يتطلعون للسلام ولكنهم يخافون عاقبته التي
لا تحقق لهم أهدافهم الشخصية.
ويمكن تقسيمهم إلى فئتين، الأولى التي لا ترفض الحرب لأنها أداة للقتل والموت والدمار، لأنهم رأوا وعاشوا وسط الموت حتى صار السلام
بالنسبة لهم مفهوم تكتنفه الريبة ويتعاملون معه بحذر. والثانية هم الذين لا يرفضون
السلام ولكنهم يقرأون من تجارب السلام التي مرت بها البلاد ولم تحقق العدالة
المرجوة بل برون فيها إعادة لتدوير الأزمة.
ربما يبدو موقف الفئتين غامضاً أو متناقضاً ولكنه
يعبر عن الخوف من التجارب والشك في أن حلاً ما يمكنه أن يخرجهم من وحل الأزمة. البعض
يتمنى انتصار الجيش عسكرياً ولكنهم في ذات الوقت يخشون عواقب ذلك نسبة للتجارب
التي مروا بها في ظل سيطرة الجيش على المشهد السياسي، والآخر يتمنى أن تتقدم قوات
الدعم السريع ولكنهم يخشون عواقب ذلك لما عرفوه عنها طوال تاريخها ورأوه رأي العين
من انتهاكات فظيعة. وفي الوقت نفسه الاثنان يرغبان في أن تتوقف الحرب ويعم السلام
ولكنهما غارقان في تراكم الصدمات ومعمل الذاكرة الخلفية الذي لا يتوقف عن استعادة
عدم الالتزام بالعهود وبالتالي فقدان الثقة في كل شيء.
يفسر علم النفس الاجتماعي الموقف "الرمادي"،
أي موقف الذين لا يرغبون في الحرب ولا يرغبون في السلام على عدة مستويات،
الارتباك النفسي والازدواج الشعوري الذي يجعل
الشخص يعيش مشاعر متضاربة ناتجة من خوفه من الحرب وهو يعرم نتائجها عن تجربة،
وكذلك عدم ثقته في السلام أو من يدعون للسلام، لذلك يفضل البقاء في ما بين
الضفتين.
وهناك مستوى من التفسير الذي يذهب إلى أن من
يعيشون في بيئة حرب طويلة ونزاعات سياسية مستمرة يشعرون بأن لا فائدة من أي حل،
مما يؤدي إلى حالة من اللا مبالاة بما يجري والرضوخ للاستسلام أو كما تذهب مقولة
"موت حياة، ما فارقة".
والبعض يخشى التغيير بعد أن ارتبطت حياته
بالحرب وأصبحت لديه هو الواقع المألوف وليس الاستثناء، والسلام بالنسبة لهم يعني
المجهول وفقدان الامتيازات. ويرفضون الحرب والسلام لأن كليهنا يهدد استقرارهم
النفسي والاجتماعي.
وهناك فئة يصفها تفسير علم النفس الاجتماعي
بالاغتراب النفسي أو الانعزال العاطفي، وهي التي ترى أن الحرب يخوضها الآخرون وأن
السلام أيضاً يصنعه الآخرون، ولا دور لديه في كل ذلك.
أما الصامتون، أو الذين يحتجون في صمت على موقف
الطرفين "دعاة الحرب ودعاة السلام" يقفون على قاعدة رفض الحرب لأنها
مدمرة وأن السلام فوقي لا يلامس مصالحهم، ولا يحقق العدالة المرجوة.
إن الواقع يقول إن هناك ثلاثة مواقف، موقف
أطراف الحرب المنخرطين فيها ودعاتها عن فهم ورغبة في الحصول على امتيازات مآلتها.
وموقف دعاة السلام الذين يرون فيه مخرجاً حقيقياً للأزمة تبدأ بوقف الحرب ومن ثم
الانطلاق إلى التعامل مع تداعياتها من أجل وطن يسع الجميع. أما الموقف الثالث هو
"موقف أصحاب المواقف الرمادية" وهو الذي يربك المشهد ويزيد من عمق
الأزمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق