الأنومية وأسباب أنيميا الخطاب الإعلامي السوداني في زمن الحرب

 

أمير بابكر عبد الله

في أوقات الحرب، تُصنع الأكاذيب قبل القنابل

نعوم تشومسكي

"لما ضاقت فضاءات النقاش العام في زمن الحرب، ازداد خطر تآكل العقلانية الديمقراطية

يورغن هابرماس

الحرب تُحوّل الإعلام من أداة لنقل المعلومات إلى ساحة معركة رمزية تُدار فيها شرعية القوة

مانويل كاستيلز

 

مع انهمار القذائف المدفعية والجوية وانهيار البنايات والبنى التحتية بفعل الحرب الدائرة حتى الآن بين السودانيين، انهارت معها القيم وتحللت مع تحلل الجثث المتناثرة على الشوارع المعايير التي كانت تمثل وثاقاً يضبط حركة المجتمع.

 هذه الحالة من التراجع المعياري والقيمي الاجتماعي يطلق عليها في علم الاجتماع "الأنومية" "Anomie"، وهو مصطلح ومفهوم صكه عالم الاجتماع الفرنسي إيميل دوركهايم في أواخر القرن الـ19.

 واتُّفِق على تعريفه بحالة عدم الاستقرار أو حالة الاضطراب والقلق لدى الأفراد بسبب انهيار المعايير والقيم الاجتماعية أو الافتقار إلى الهدف والمثل العليا، او بصورة أخرى يُقصد به حالة من "اللامعيارية" أو "غياب القواعد" في المجتمع.

 وبحسب "مدونة عرب سوسيو"، فإن حالة الأنوميا تحدث في ظل حالة التفكك التنظيمي لمؤسسات المجتمع وانهيار المعايير والانفصال بين الأهداف الاجتماعية المعلنة والوسائل الصحيحة لتحقيق هذه الأهداف، والتناقض الفاضح بي ما يشاع من أيديولوجيات رسمية وبين ما يجري على أرض الواقع. ويشعر المرء نفسياً بالاغتراب والعبثية والانهيار الأخلاقي مما ينعكس سلباً وعزلة وانحرافا.

 باختصار، إن مقولة "أظهرت الحرب السودانية الدائرة منذ أكثر من عامين ونصف العام، أسوأ ما فينا" هو تعريف عملي تطبيقي لما بات يعرف بـ"الأنومية".

ما دفعني لتناول هذه الظاهرة هو حالة الانهيار المعياري والقيمي المريع الذي لمسته في الخطاب الإعلامي بعد اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023. وقبلها كان الخطاب الفاقد للقيم والمعايير المجتمعية يقرأ في أطر مختلفة، حتى ذلك الذي يتسم بالكراهية والعنصرية كان يأتي خجولاً حين يتسرب من داخل الصوالين والغرف المغلقة.

 مع حالة اللا وزن التي نعيشها، أو على الأقل أعيشها أنا، منذ اندلاع الحرب أبذل من المجهود ما يعينني على الصمود، حتى لا أتوقف كثيراً عند منصات التواصل الاجتماعي وما تبثه من غثاء. ولا عند كثير من الكتابات الصحفية لكتاب معروفين تأثروا بشكل كبير، أو بالأحرى نجحت ظاهرة "الأنومية" في اصطيادهم وإظهار قاع المدينة الساكن في دواخلهم. فمن ملامح "الأنومية" لجوء الأفراد إلى سلوكيات منحرفة، هذا إذا لم تكن تقف خلف هذه السلوكيات جهات منظمة، ففي ظل الحرب تصبح الحياة الاجتماعية غير مستقرة ومليئة بالصراعات بسبب ضعف سلطة الضبط الاجتماعي.

 وقد شهدت ساحات الفداء على منصات التواصل الاجتماعي، وبالتحديد منصات تيك توك وفيسبوك مدة انهيار المنظومة القيمية التي كان خيطها يحكم قبضته عليها. فرأينا العهر الفكري واللفظي في قمة تجلياته وكأنما فتحت الحرب خلية للنحل ليملأ الفضاء بلسعات مسمومة بدلاً من انتاجه للعسل المفيد للصحة. ورأينا عالم القونات صورة وصوت وهو العالم الذي تطرب له الدواخل الهشة. واستطعن أن يجذبن لعالمهن "قونات" و"أقوان"، إن جازت التسمية، من عالم الصحافة و"الكلمة التي كانت في البدء".

 ولأنها مرتبطة بفقدان القواعد الأخلاقية والاجتماعية المشتركة لقوتها في تنظيم سلوك الأفراد وبالتالي شعور الفرد بالضياع واللا جدوى وعدم اليقين بشأن دوره وأهدافه في الحياة، فإنها تقود إلى التفكك الاجتماعي وضعف وانكسار الراوابط التي توحد بين الناس في مجتمع وظيفي طبقاً للنظرية الوظيفية البنائية التي ارتبطت بأسماء مثل إيميل دوركهايم وهربرت سبنسر، وتطورت في القرن العشرين بفضل أعمال تالكوت بارسونز وروبرت ك. ميرتون.

 توقفت مرتين فقط عند كتابات لشخصيتين تربطني بهما علاقة خاصة جداً، وأدركت أن الحرب فعلت أفاعيلها ولم يسلم أحد من ظاهرة "الأنومية"؛ وقررت التدخل.

 الثانية كانت قبل نحو شهر أو يزيد عنما قرأت منشوراً لبنت أختي على حسابها في فيسبوك. وهي شخصية نشطة وملتزمة دينياً، فقد رأيتها بالنقاب وهي بنت 10 سنوات، على كيفها طبعاً فيما هي اختارته من طريق. وهي أيضاً مجتهدة لتزيد من دخل أسرتها الصغيرة منذ انجابها طفلها الأول قبل سنوات.

 وجدتها معلقة على "سكرين شوت" لواحدة من المتعاملات معها في التسويق الإلكتروني راسلتها بكلمات غير لائقة، فما كان منها إلا أن حاولت مجاراتها مستعينة بصديقاتها لمؤازرتها في نقدها اللازع لعميلتها. وهي حالة عامة في عالم "الترندات" والـ"شو" في فضاءات فيسبوك.

 ولأني أعرف خلفيتها الدينية الملتزمة والمتزمتة، علقت لها في نفس المنشور وكتبت "يا بت أخوي، كوني مثلما تقول الآية القرآنية، وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما". من وقتها لم أر منشورها في "التايم لاين" حايم. فتأكدت أن الرسالة وصلتها.

 أما الثانية فكانت الأكثر قلقاً عندما وقعت عيناي قبل أكثر من عام على جزء من سجال، على صفحات المنصات الإلكترونية، دار بين الأستاذ عادل الباز والمرحوم الباقر العفيف. حقيقة لم أقرأ ما كتبه الباقر العفيف واستدعى تلك الردود التي لم أقرأها كلها من عادل الباز. ولأني لست على صلة تجمعني بالمرحوم العفيف، ولكن هناك مساحات وافرة بيني وعادل الباز تجعلني أتدخل واخاطبه بلوم شديد على درك الخطاب الذي هوى إليه، تقبل رأيي على مضض لكنه للأسف لم يتوقف كما لاحظت دون أن أتابع، وأدركت حينها أن سرطان "الأنومية" بدأ في الانتشار في مناطق لا يمكن التحكم فيها. وما أعلمه يقيناً أن عادل الباز من الإسلاميين، لكن أعلم ما فعله فيه الكيزان مما أضطره إلى إيقاف صحيفته "الأحداث" في قمة الصراع الكيزاني الكيزاني وقتها. وحسب تصنيفي ليس بالضرورة أن يكون الكوز إسلامي كما أن بالمقابل ليس بالضرورة أن يكن كل إسلامي كوز. فالكوز من أبرز تجليات ظاهرة "الأنومية"

 بحسب دوركهايم فإن "الأنومية" تظهر عادة خلال فترات التغير الاجتماعي الكبير والسريع، فمثلا : في فترات الكساد أو الركود الاقتصادي، يفقد الناس وظائفهم وثرواتهم بسرعة، وتنهار التوقعات المعتادة حول النجاح المادي والوضع الاجتماعي. هذا التفكك المفاجئ للمعايير الاقتصادية يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع في معدلات الانتحار والسلوك المنحرف.

 وكذلك يمكن أن يؤدي النمو المادي السريع وغير المقيد إلى رفع طموحات الأفراد بلا حدود، دون أن تتواكب معها الضوابط الأخلاقية والاجتماعية، مما يخلق إحساسًا بعدم الإشباع الدائم والحاجة المستمرة للمزيد، وهو شكل من أشكال اللامعيارية.

 بينما يرى عالم الاجتماع روبرت ك. ميرتون، في نظرية الإجهاد البنائي بأن "الأنومية" هي الإجهاد الذي يدفع الأفراد، خاصة المحرومين اجتماعيًا، إلى تبني سلوكيات منحرفة لتحقيق الأهداف المتمثلة في الثراء والنجاح المادي.

 وتتمظهر "الأنومية" كذلك في الجريمة المنظمة والاحتيال، فقد يلجأ البعض إلى السرقة والفساد والاحتيال كوسائل غير مشروعة لبلوغ أهداف فشلوا في تحقيقها نتيجة لعدم توفر فرص عمل عادلة أو تعليم جيد للجميع.

 ويمكنها ان تتمظهر في شعور الأفراد بالإحباط وفقدان الثقة في كل من الأهداف مثل: "النجاح لا يهم" والوسائل مثل: "لا فائدة من العمل الجاد"، ما يدفعهم إلى الانسحاب من المجتمع (كمن يتعاطى المخدرات أو يصبح متشردًا).

 الحرب وظاهرة "الأنومية"

يجب هنا التفريق بين حربين، الأولى هي الحرب بين الدول وهي الحالة التي تستوجب بطبيعة الحال تماسك ووحدة الجبهة الداخلية. ومثلما دائماً استشهد يمقولة مونتيغيمري، القائد العسكري البريطاني، بأنك لا يمكن ان تكسب حرباً ما لم توحد جبهتك الداخلية. وهو هنا يتحدث عن الحرب بين الدول.

 من الطبيعي أن يكون الخطاب موحداً في حالة الحرب بين الدول، إذ تستطيع مؤسسات الدولة سواء هنا أو في الطرف الآخر التحكم في الخطاب الإعلامي الذي يدافع عن الدولة سواء برافعة الوطنية أو الأيدلوجيا وينطبق على ذلك مقولة "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، وما نشاهده ونتابعه مثلاً في التوترات بين أرتريا وأثيوبيا وتأثيرها على الخطاب الإعلامي المتبادل يدل على ذلك.

 ولعل من أبرز آثار انقسام الجبهة الداخلية في الحرب بين الدول هو ما حدث في الحرب الفيتنامية، فإلى جانب عوامل مؤثرة أخرى إلا أن الانقسام الداخلي والاحتجاجات الشعبية ضد الحرب أدى في النهاية إلى الهزيمة المريعة التي مني بها الجيش الأمريكي بكل عنفوانه في تلك الحرب.

 أما الحرب الداخلية فشروطها وظروفها مختلفة، ومن أبرز مظاهرها هو انقسام الجبهة الداخلية، لأنها دائرة بين أبناء الوطن الواحد.

 يقول ابن خلدون في المقدمة - الفصل الثالث "في أن العصبية إذا خَرَجَت من نسبها كان فسادها أسرع" إذا تفرّقت العصبية، ذهبت الدولة وذهبت معها المروءة، وصار الناس شيعاً وأحزاباً، وتداعت القيم.

 يتفق كثير من علماء الاجتماع المعاصرين مع طرح ابن خلدون في أن الحروب تؤدي إلى تآكل المنظومة القيمية للمجتمعات. وغير إميل دوركايم الذي برى أن الحروب تُحدث ما يسميه بـ"الأنوميّة"، يضيف ماكس فيبر أن الحرب تُنتج "عقلانية مصلحية" تحل محل "العقلانية القيمية"، إذ تتراجع المبادئ لصالح المنفعة والقوة. أما زيجمونت باومان فيشير في كتابه الحداثة والهولوكوست إلى أن العنف الجماعي لا يلغى القيم فقط، بل يعيد تشكيلها لتبرير القتل والتهميش باسم النظام أو الأمن أو الطهارة القومية.

 كذلك يرى بيير بورديو أن الحرب تُحدث "عنفًا رمزيًا" يجعل الهيمنة الثقافية تُبرَّر كواجب وطني أو ديني، ما يؤدي إلى إنتاج خطاب إعلامي يُسهم في شرعنة الكراهية. بينما يذهب يورغن هابرماس إلى أن انهيار القيم أثناء الحروب هو نتيجة لانهيار "الفضاء العمومي"، أي فقدان المجتمع القدرة على النقاش الأخلاقي والعقلاني الحر. ويضيف أنتوني غيدنز أن العولمة وشبكات الإعلام الرقمي جعلت من الحروب الحديثة بيئة خصبة لتفكيك القيم المشتركة عبر بثّ صور العنف والخوف بشكل مستمر، مما يؤدي إلى "تطبيع" القسوة في الوعي الجمعي.

 نتيجة للانيميا التي أصابت الخطاب الإعلامي بسبب حالة "الأنومية" فإن الحرب في السودان أنشأت السودان حالة من التفكك الاجتماعي واللامعيارية تمظهرت في انهيار سلطة الدولة والمعايير القانونية. فالحرب الدائرة حالياً كشفت عن تفكك وانهيار مؤسسات الدولة المركزية، خاصة الأجهزة الأمنية والقضائية. هذا الانهيار يُضعِف قدرة القانون والمعايير الرسمية على تنظيم السلوك، مما يدخل المجتمع في حالة "غياب القواعد" بالمعنى الدوركهايمي.

 كما تزايد انتشار الجرائم والنهب في ظل غياب سيادة القانون، بتزايد السلوكيات المنحرفة مثل النهب المسلح، والسرقة، وانتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة. وأصبح البقاء على قيد الحياة أو جمع الثروة هدفًا يبرر استخدام وسائل غير مشروعة، وهو مثال واضح على الأنومية الإجرامية التي وصفها ميرتون.

 أدت الحرب الداخلية إلى تفكك النسيج الاجتماعي والقيم الأخلاقية وتآكل الثقة المجتمعية. حيث أن الصراع المسلح يزرع الشك والخوف بين الأفراد والجماعات، خاصة في ظل الاستهداف على أساس عرقي أو قبلين مما يؤدي إلى تفكك الروابط الاجتماعية التي كانت توحد المجتمع، وحلول العزلة محل التضامن.

 وشوهت الحرب المعايير الإنسانية، وأظهرت ممارسات مرعبة مثل القتل على الهوية، وتوثيق الجرائم ونشرها على وسائل التواصل الاجتماعي، مما يشير إلى أن المعايير الأخلاقية الأساسية، كقدسية حياة الإنسان وكرامته، قد تعرضت للتشويه والتآكل في مناطق النزاع.

 وغيرت الحرب الأولويات لتحتل اولوية البقاء سلم الأولويات بينما تراجعت الأخلاق إلى أسفل السلم، إذ فرضت الأزمة الإنسانية والمجاعة على الأفراد تغيير أولوياتهم؛ فيصبح البحث عن الموارد لسد الرمق أكثر أهمية من الالتزام بالمعايير الأخلاقية التقليدية. وعلى الرغم من الدور الكبير الذي لعبته غرف الطواريء في المحافظة على الإرث الاجتماعي وقيم التعاضد والتكاتف، إلا أنه يزل محدود الأثر في كثير من الأحيان.

 إن حالات النزوح واللجوء قادت إلى "الأنومية" الفردية والشعور باليأس، فعندما اقتلع الناس من بئاتهم الاجتماعية المألوفة وشبكات علاقاتهم المنظمة عبر سنوات طويلة، كان لا بد ان يشعروا بالضياع وفقدان الانتماء. خاصة مع تلازم ذلك مع انهيار النظام التعليمي والاقتصادي وتدمير المدن الذي ولَّد لدى جيل كامل شعوراً باليأس وانعدام المستقبل الواضح. وهي بيئة يتزايد فيها خطر اللجوء إلى العدوانية أو السلوكيات المدمرة للذات والمجتمع.

 ولأن الإعلام يلعب دوراً مهماً وأساسياً في مثل هذه الظروف وينغمس في سرديات الحرب بمختلف أشكالها، فإن ما أصابه من أنيميا في الخطاب جعله غارقاً في لجة "الأنومية" فاقداً في كثير من الأحوال القيم والمعايير المجتمعية تحت دعاوى مختلفة ومختلقة لتناسب الظرف الراهن وتتماهى معه.

 في هذا السياق، يذهب نعوم تشومسكي إلى أن “الإعلام لا يكتفي بتغطية الحرب، بل يصنعها رمزيًا عبر تحديد من هو الضحية ومن هو الجاني”، مشيرًا إلى الدور التبريري الذي تمارسه المؤسسات الإعلامية في خدمة مصالح القوى السياسية والعسكرية. أما يورغن هابرماس فيحذر من أن تضييق فضاءات النقاش العام أثناء الحروب يؤدي إلى “تآكل العقلانية الديمقراطية” وانحسار الصحافة النقدية. وهكذا، فإن الحرب تُنتج خطابًا إعلاميًا مشحونًا بالعواطف والأيديولوجيا، يهدف إلى التحكم في الإدراك الجمعي، وصناعة الذاكرة الجماعية التي تُعيد تأويل الماضي لتبرير الحاضر، كما يصفها موريس هالبواش.

 لذلك فإن ما أحدثته الحرب هو صدمة اجتماعية هائلة أدت إلى فراغ قيمي ومعياري واسع النطاق، وهو ما يعكس جوهر ظاهرة الأنومية التي وصفها دوركهايم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق