جسر المك نمر-رواية- الفصل 14

عدت من الزقاق هذه المرة مشوشاً تتجاذبني الهواجس والشكوك. لم يعد الزقاق كما كان قبل نصف قرن من الزمان، تغييرات كثيرة طالته، خاصة عندما حاولت السلطات إعادة تخطيط المدينة بعد أن صار في منتصفها بفعل تمدد العمران وانتشار العديد من الأحياء السكنية حوله. لكنه ظل كما هو زقاق تمتد على جانبيه ذات المنازل الستة عشر وإن كان شكلها قد تغير عما كانت عليه وتفرعت عنه عدة ازقة مجاورة ، فبعد بيوت الطين القصيرة أطلت على الزقاق بيوت اسمنتية بعضها تسامق عدة طوابق. كل ما استطاعت السلطات أن تفعله ، بعد استحالة عملها في طرقاته الداخلية، هو الشارع الأسفلتي الذي استقطعته من الجرف على الشريط النيلي من الناحية الشرقية للزقاق، وكذلك الشارع الواقع غربه حيث استثمر أصحاب البيوت المطلة عليه ذلك الوضع، بعد توسعة الشارع ، ليفتتحوا محال تجارية أصبحت مركزا ضخماً للعديد من الخدمات.

جسر المك نمر-رواية-الفصل 13

 من يشاهد عبد السيد بعد كل تلك السنوات في موقع محايد، تصيب معاقل الدهشة فيه شظية من الرغبة في الهتاف إعجاباً، بينما تلك العرجة التي بدت مؤخراً بائنة خفيفا في قدمه اليسرى والمتسقة مع الشيب الرمادي الذي صبغ معظم شعره واللحية المشذبة المحيطة بوجهه ، تضفي عليه شعوراً مُعذّباً من تأنيب الضمير كمًّن تسببت فيها، تجعله يتنحي جانباً ليسمح له بالمرور ويشدُّه صدره إلى الأمام في إنحناءة تنم عن تقدير واحترام ظاهرين. لكن يظل لون إنسان عينيه الأخضر مصدر تساؤل مستمر دون إجابة قاطعة سوى همس متسرب سرعان ما تنسد منافذه بلا سبب واضح. وهو ما جعل الصحف تطلق عليه إسم الأخضر في كل حدث مرتبط به بعد ان سطع نجمه في عوالم متعددة.

جسر المك نمر-رواية-الفصل 12

لم يشغل كل ذلك عبد السيد عن الاهتمام بأخته ليلى من على البعد دون أن يلفت الأنظار إليه، تجنب التواصل معها مباشرة إلى أن تزوجت، فدخل عليها بصحبة الزاكي ليهنئها، واستمرت عنايته بالزاكي وأحواله بعد انتقاله مع أمه من الزقاق عقب وفاة مروان. هما معاً يحملان اسمه؛ لا سبيل لأن يتجاوز هذا الواقع، وكان اكثر حرصاً على استمراره مع علمه بأن الحقيقة لا علاقة لها بهذا الواقع، لم يهرب منه في مسارات الحياة التي أخذته بعيداً يوم أن حمل حقيبته ورحل.

جسر المك نمر- رواية الفصل 11

بعد تلك الدموع التي ذرفها عبد السيد مع خروج آخر الجنود الانجليز، وذلك الاحساس باليتم الحقيقي الذي انتابه، استيقظ بعقل أكثر انفتاحا. ليس له سوى هذا العقل وهذين العينين الخضراوين لإدارة معاركه المقبلة.

جسر المك نمر- رواية الفصل العاشر

 ذاك النهار مثل نقطة تحول أُعيد فيها ترتيب الأشياء، فما كان لها أن تمضي هكذا دون أن يعاد ترتيبها من آثار الفوضى التي اعترتها. تعود لطبيعتها لكنها تحمل داخلها بذور فوضى اخرى قادمة لا يدرك أحد ميقات تفجرها. هي طبيعة الأشياء نفسها أن تصير إلى الفوضى لتجد من يمسك أو ما يمسك بأطراف خيطها فيعيد نظمه، مثلما يجري النهر نحو المصب في سلاسة لا يعكر انسيابه سوى تلك الجزر الخانقة التي تعترض طريقه أحيانا، يجري كما أفعى تتربص بفريستها بعد حالة الفيضان التي تعتريه، ليحيل الأرض التي حوله إلى معركة تتجاذبها الأمواج ارتفاعاً وانخفاضاً إلى أن يحين موسم انحسار الماء عن الشواطئ. لكنه يكون قد أخذ في جوفه ما أخذ دون أن يلتفت أحد إلى ذلك بعد عودة السكون إلى الضفاف.

جسر المك نمر-رواية- الفصل التاسع

لم تهتم الرضية كثيراً عندما أخبرها الفتى الجالس أمامها أن أمه هي ليلى زوجة الزاكي، فكثيرون عبروا أمام عينيها وخرجوا من بين يديها أثناء مسيرتها كقابلة، دون أن يتركوا أثراً في نفسها يحفز قرون استشعار حب الاستطلاع لديها. ولكنها صمتت طويلاً وهي تنظر في عينيه الخضراوين تغالب انفعالاتها وتصارع لإخفاء دهشتها عندما علمت أن جدته "أم ليلى" هي سعدية أزرق.

جسر المك نمر-رواية-الفصل الثامن

“لكن مروان ليس أباك”، تلك الحقيقة التي نطقت بها طرقات الزقاق وروائحه وجدران مساكنه باتت أكثر وضوحاً في ذهنه حين همست بها الرضية في أذنه، وهي تكمل طقوس الوداع الأخير، قبل أن يحمل أعوامه السبعة وحقيبته الصغيرة المهترئة الأطراف على كتفه، بعد أن احتضنته الرضية بقوة.

عربة الدعم السريع وحصان التنظير

أمير بابكر عبد الله

مطلع النصف الثاني من القرن الماضي وصل فيدل كاسترو إلى شواطيء بلده كوبا، على متن قارب صغير وبرفقته أكثر من ثمانين ثورياً، ليبدأ رحلة الكفاح المسلح ضد نظام الدكتاتور باتيستا واستمرت لثلاث سنوات إلى أن أنتصرت الثورة الكوبية بقيادته على واحد من أعتى الجيوش المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة. لم ينطلق كاسترو في ثورته من فراغ، بل كان يحمل فكراً نظرياً يستهدي به على أمل أن يحققه تطبيقاً وتنزيلاً بعد انتصاره.

وبعد أن دانت له كوبا وتوج كأطول الرؤساء عمراً على كرسي السلطة في الجمهوريات الحديثة، قال كاسترو واحدة من حكمه التي تتناقض تماماً مع بداياته الثورية وخوضه حرب عصابات عنيفة ضد الجيش الرسمي للبلاد، قال:

"الأفكار لا تحتاج إلى أسلحة"

جسر المك نمر-رواية- الفصل السابع

ليس هناك جديد، فالهمسات تخترق أذنيه منذ أن كان يخطو أولى خطواته صعوداً على سلم عتبات الوعي وتحاول عيناه الإمساك بتفاصيل الأشياء في براءة طفل. السارة.. أمه التي أخرجته من رحمها، بالنسبة له روح متلاشية وها هو جالس على حافة النيل ونظره لا يمسك بشيء محدد في الأفق. هذا العالم الذي ينتهي عند حدود الزقاق لا يحفل به كثيراً، يكاد يخنقه.. يضغط على صدره الملوث بأحاديث المحيطين به.

جسر المك نمر-رواية- الفصل السادس

 بدأ زقاق الخواجة يأخذ ملامحه بعيداً عن عمق المدينة وازدحامها، بعد أن كانت فضاءات المكان خالية سوى من ذلك المركب الخشبي الراسي، المرسوم على جدران ذاكرة الناظرة العابرين كمشهد أزلي وهم يعبرون المسافة القليلة بين القرى المجاورة إلى سوق المدينة أو العكس، وقد حملوا حوائجهم مخترقين أفقاً آخر يخصهم بعيداً عن تلك الضجة التي لا تستهويهم كثيراً.

جسر المك نمر-رواية-الفصل الخامس

وقتها كانت سماوات المدينة القلقة مشحونة بغيوم أنباء الحرب المتواترة من الأطراف الغربية. والدراويش كمارد منطلق من قمقمه تغافل عنه الصياد قبل أن يطلق ساقيه للريح. ليس الغرب وحده الآن مخترقا بل عدة جبهات شرقاً وجنوباً وشمالاً، وصدر المدينة يتنفس هواء الانتظار.. انتظار ما هو آت. 

جسر المك نمر - رواية - الفصل الرابع

 البيت الكبير اكتملت جنباته، وحديقته بدت واضحة المعالم، بأشجارها التي تماسكت أغصانها وهي تزداد خضرة وتستجيب لمداعبات الريح، وكان العاملون قد شرعوا في زراعتها منذ تخطيط الأرض وقبل أن يوضع أساس السور المحيط بالبيت. موقعه على تلك الربوة المتاخمة لضفة النيل جعله مطلاً على عمق المدينة، بالرغم من بعده النسبي عن أحيائها السكنية، وكأنما تعمد الخواجة ذلك البعد ليعمق الفجوة بين وجدان المبروك وعائلته، وصديقه المكي أكبر أبنائه.

جسر المك نمر-رواية- الفصل الثالث

انسلت خيوط القصة من بين شفتي الرضية ووجهها المنفعل بمشاعر شتى، وهي تنفث دخان سيجارتها البرنجي في تلذذ، وعادت بذاكرتها، إلى رواية أمها، ما قبل وفاة الشيخ المبروك الذي تفصله سنوات طويلة من اليوم الذي صادف خروج عبد السيد من رحم السارة. ليست صدفة إذاً أن يجيء في اللوح المحفوظ أن عبد السيد سيولد بعينين "خضراوين"، فالمخاض استمر طويلاً والميلاد لم يكن لحظتها، بل كانت بذرته مغروسة منذ زمن الغفلة مثلما جاء عبد السيد في غفلة من الزمن كما قالت تلك العجوز.

جسر المك نمر- رواية- الفصل الثاني

الحقيقة.. لا يكاد أحد يجزم بمعرفتها، بعد أن صار زقاق الخواجة يتغير شيئاً فشيئاً مع مرور السنين منذ أن غادره منذ سنين بعيدة، لتنطمس معالمه في لجة تلك التغيرات وتحمل بين طياتها جل الحقيقة. طرقات الزقاق الضيقة بدت أكثر اتساعاً وأناقة رغم تراكم الأوساخ الذي لم يفارق جنباتها كمشهد عادي، وأنا أقطعها من عدة اتجاهات بحثاً عن الدار التي تسكنها الرضية. المعالم التي حفظتها ذاكرتي من وصف عمي المتكرر للزقاق تغيرت ملامحها كثيراً فصرت كالتائه أثناء تحسس بصري للبنايات القديمة. تلك البنايات التي تغيرت معالم بعضها تماماً بعد أن تم هدمها وإقامة مباني جديدة على طراز أكثر حداثة لكن دون تناسق جمالي مما يزيد من ارتباك العين ويدفعها بعيداً هرباً من هذه الفوضى، وبعضها صار مشوهاً بفعل التجديدات والتعديلات والإضافات التي طالت بعض أجزائه دون الأخرى، في إرتجال معماري لملاحقة الشراهة التناسلية، التي فاضت بها الأرجاء، واحتوائها بعيداً عن أعين الفضوليين.

جسر المك نمر - رواية - الفصل الأول

 صلة قوية تربطني بعمي تتجاوز رابطة الدم إلى ما هو أقوى وأعمق، فقد ولدت مثله أخضر العينين، على عكس والدي الزاكي، مما جعل من حولي يتشاءمون بولادتي وكأني بذلك أعيد سيرة طواها الزمن قبل أكثر من مائة عام وأبعثها من جديد، أو هي سيرة لدم سيظل يجري في العروق لكي لا تنقطع دورة الخطيئة المقدسة.