جسر المك نمر- راوية- الفصل السادس

 

بدأ زقاق الخواجة يأخذ ملامحه بعيداً عن عمق المدينة وازدحامها، بعد أن كانت فضاءات المكان خالية سوى من ذلك المركب الخشبي الراسي، المرسوم على جدران ذاكرة الناظرة العابرين كمشهد أزلي وهم يعبرون المسافة القليلة بين القرى المجاورة إلى سوق المدينة أو العكس، وقد حملوا حوائجهم مخترقين أفقاً آخر يخصهم بعيداً عن تلك الضجة التي لا تستهويهم كثيراً.

 

جسر المك نمر- رواية- الفصل الخامس

 وقتها كانت سماوات المدينة القلقة مشحونة بغيوم أنباء الحرب المتواترة من الأطراف الغربية. والدراويش كمارد منطلق من قمقمه تغافل عنه الصياد قبل أن يطلق ساقيه للريح. ليس الغرب وحده الآن مخترق بل عدة جبهات شرقاً وجنوباً وشمالاً، وصدْر المدينة يتنفس هواء الانتظار.. انتظار ما هو آتٍ.

 

جسر المك نمر-رواية- الفصل الرابع

 

البيت الكبير اكتملت جنباته، وحديقته بدت واضحة المعالم، بأشجارها التي تماسكت أغصانها وهي تزداد خضرة وتستجيب لمداعبات الريح، وكان العاملون قد شرعوا في زراعتها منذ تخطيط الأرض وقبل أن يوضع أساس السور المحيط بالبيت. موقعه على تلك الربوة المتاخمة لضفة النيل جعله مطلاً على عمق المدينة، بالرغم من بعده النسبي عن أحيائها السكنية، وكأنما تعمد الخواجة ذلك البعد ليعمق الفجوة بين وجدان المبروك وعائلته، وصديقه المكي أكبر أبنائه.

 

جسر المك نمر- رواية- الفصل الثالث

 

انسلت خيوط القصة من بين شفتي الرَّضية ووجهها المنفعل بمشاعر شتى، وهي تنفث دخان سيجارتها البرنجي في تلذذ. عادت بذاكرتها، إلى رواية أمها، ما قبل وفاة الشيخ المبروك الذي تفصله سنوات طويلة من اليوم الذي صادف خروج عبد السيد من رحم السارة. ليست صدفة إذاً أن يجيء في اللوح المحفوظ أن عبد السيد سيولد بعينين "خضراوين"، فالمخاض استمر طويلاً والميلاد لم يكن لحظتها، بل كانت بذرته مغروسة منذ زمن الغفلة مثلما جاء عبد السيد في غفلة من الزمن كما قالت تلك العجوز.

جسر المك نمر- رواية- الفصل الثاني

 الحقيقة.. لا يكاد أحد يجزم بمعرفتها، بعد أن صار زقاق الخواجة يتغير شيئاً فشيئا مع مرور السنين منذ أن غادره عمّي منذ سنوات بعيدة، لتنطمس معالمه في لجة تلك التغيرات وتنطمس بين طياتها جل الحقيقة. طرقات الزقاق الضيقة بدت أكثر اتساعاً وأناقة رغم تراكم الأوساخ الذي لم يفارق جنباتها كمشهد عادي، وأنا أقطعها من عدة اتجاهات بحثاً عن الدار التي تسكنها الرضية. المعالم التي حفظتها ذاكرتي من وصف عمي المتكرر للزقاق تغيرت ملامحها كثيراً، فصرت كالتائه أثناء تحسس بصري للبنايات القديمة. تلك البنايات التي تغيرت معالم بعضها تماماً بعد أن تم هدمها وإقامة مباني جديدة على طراز أكثر حداثة لكن دون تناسق جمالي مما يزيد من ارتباك العين ويدفعها بعيداً هرباً من هذه الفوضى، وبعضها صار مشوهاً بفعل التجديدات والتعديلات والإضافات التي طالت بعض أجزائه دون الأخرى، في إرتجال معماري لملاحقة الشراهة التناسلية، التي فاضت بها الأرجاء، واحتوائها .بعيداً عن أعين الفضوليين

 

جسر المك نمر - رواية - الفصل الأول

 

صلة قوية تربطني بعمي تتجاوز رابطة الدم إلى ما هو أقوى وأعمق، فقد ولدت مثله أخضر العينين، على عكس والدي الزاكي، مما جعل من حولي يتشاءمون بولادتي وكأني بذلك أعيد سيرة طواها الزمن قبل أكثر من مائة عام وها أنا أبعثها من جديد، أو هي سيرة لدم سيظل يجري في العروق لكي لا تنقطع دورة الخطيئة المقدسة. كانت ولادتي عادية جداً وفي منتصف نهار غائظ داخل غرفة في إحدى المستشفيات الحكومية. القابلات اللائي أشرفن على عملية ولادتي لم يهتمن لأمر لون عيني كثيراً، لما اكتسبنه من مناعة ضد الدهشة وهن يؤدين عملهن في رتابة ترقى لمستوى العمل الآلي أكثر منها مهنة إنسانية وتتعامل مع روح بشرية جديدة تخرج إلى العالم. إلاّ أن عودتي بصحبة أمي إلى المنزل وبعيني الخضرواين نصف المغمضتين أثارت موجة من المشاعر المتناقضة وسط العائلة التي لطالما انتظرت الحدث السعيد. حتى أن والدي، الذي حملني في لحظة فرحته الأولى بمولدي، توجس خيفة وهو يطيل التحديق في وجهي، وظل متنازعاً بين أن يحتمل وجوده قريباً من وجهي أم يرمي بي سريعاً إلى حضن أمي.

عصر الإعلام السائل.. هل يمضي إلى الحالة الغازية؟

في الفيزياء تتمظهر المادة في ثلاث حالات، الصلابة والسيولة والغازية، ولكل حالة قوانينها وبيئتها. ويمكن لعنصر ما أن يتحول من الصلابة إلى السيولة ثم يتبخر غازاً، بإخضاعه لمؤثرات خارجية، كما يحدث في حالة الماء مثلاً. وهي حالات تندرج تحت تصنيف العلوم التطبيقية بفروعها المختلفة، التي تعتبر قوانينها وقواعد تفاعلاتها أكثر استقراراً ونادراً ما يحدث اختلاف على المستوى النظري يهد ما سبقه، بل في العادة ما يتم البناء على ما تم الوصول إليه

الجيش السوداني.. العقيدة العسكرية وغياب الدولة - الأخيرة

أمير بابكر عبد الله

كان من الطبيعي أن ينجح إنقلاب الفريق عبد الفتاح البرهان على الوثيقة الدستورية ويزيح الطرف الآخر من المشهد السياسي بقوة السلاح، ويلغي بنود "الوثيقة الدستورية" التي لا تتلاءم مع تطلعاته ويبقي على تلك التي لا تؤثر على المشهد العام ولا تقطع شعرة معاوية مع الأطراف التي ضغطت من أجل إجازتها إقليمياً ودولياً. من الطبيعي أن ينجح لأن الدولة مهيأة لذلك بغيابها المتعمد، مثلما نجحت كل الانقلابات التي أطاحت بالأنظمة الديمقراطية. وهنا ملاحظة ظللت أعيدها في كل مناسبة، أن الانقلابات باسم المؤسسة العسكرية تنجح دائماً في إسقاط الأنظمة الديمقراطية بينما تفشل الانقلاب العسكرية في إسقاط الأنظمة الحاكمة باسم المؤسسة العسكرية والتي دائماً ما تسقطها وتزيحها عن السلطة الثورات الجماهيرية الشعبيةن وهذه تحتاج لوقفة ودراسة.

الجيش السوداني.. العقيدة العسكرية وغياب الدولة (3)

أمير بابكر عبد الله

تحت ظل إي عقيدة عسكرية مارست القوات المسلحة السودانية مهامها بعد إسقاط نظام حكم الإنقاذ؟ وبأية عقيدة تخوض حربها ضد قوات الدعم السريع؟

وجدت العقيدة العسكرية للقوات المسلحة السودانية، منذ الاستقلال، نفسها متنازعة في ظل الفوضى الضاربة بأطنابها على مستوى الدولة وغياب عقيدة شاملة لها. دخلت القوات المسلحة مرحلة الاستقلال بإرث تأسيسها الاستعماري وتاريخ عملياتها العسكرية المرتبطة بالعقيدة الشاملة لدولة المستعمر القائمة على التوسع والهيمنة، وحاربت جنباً إلى جنب مع جيش المستعمر في جبهات القتال المختلفة، ضمن جيوش الحلفاء والتي كانت تقود حرباً شرسة ضد جيوش دول المحور أثناء الحرب العالمية الثانية.

الجيش السوداني.. العقيدة العسكرية وغياب الدولة (2)

أمير بابكر عبد الله

دخول "دولة" السودان إلى مرحلة الاستقلال كأمر واقع، بلا عقيدة شاملة، ترتبت عليه تداعيات كانت أسطع تجلياتها في التمرد الأول في 1955، عشية إعلان الاستقلال، وخُتمت بانفصال الجنوب وتأسيس دولة مستقلة. وعند استخدام مصطلح "عقيدة" يقفز إلى الذهن مباشرة الإحالة إلى ما هو مقدس وديني أو أيديولوجي، وهو ما يحدث الخلط دائماً وأربك المشهد السوداني على كافة مستوياته السياسية والاجتماعية والعسكرية والاقتصادية والمعرفية، أي مجموع ما يمثل العقيدة الشاملة للدولة.

الجيش السوداني.. العقيدة العسكرية وغياب الدولة (1)


أمير بابكر عبد الله

الدولة والعقيدة الشاملة

بقدر قتامة الحرب الدائرة الآن، والتي قاربت العام والنصف منذ انطلاقتها، والنفق المظلم الذي أدخلت فيه البلاد والأوضاع الكارثية التي أفرزتها تداعياتها، إلا أنها أضاءت جوانب مهمة على المستوى السياسي والاجتماعي والعسكري ظلت دائماً موضوعة في الزاوية الميتة أو النقطة العمياء أثناء قيادة مسيرة الدولة الدولة الوطنية.

لعل إبرز القضايا التي أضاءتها هذه الحرب، بل وأشملها، هي الخلل الكبير في مفاهيم وتراتبية العقيدة الشاملة للدولة والعقيدة العسكرية لجيش الدولة. ومن أهم أسباب هذا الخلل هو الحرب التي لازمت البلاد منذ عشية الاستقلال وكذلك الحكم باسم المؤسسة العسكرية الذي استمر لأكثر من 60 عاماً منذ الاستقلال، ولم تخلُ سنوات ما عرف بـ"الديمقراطية الأولى والثانية والثالثة"، على قلة سنوات حكمها، من تأثيرات الحرب وتداعياتها على استمرارها ومسيرتها المتعثرة.

النزوح الثالث بلا وجهة

 أمير بابكر عبد الله

في خاتمة رواية "المسيح يصلب من جديد" للروائي اليوناني نيكوس كزانتزاكيس يرفع القسيس فوتيس يده ويعطي إشارة الرحيل ويصيح: باسم يسوع المسيح تبدأ مسيرة الخروج من جديد، تشجعوا يا أطفالي. ومرة أخرى يستأنفوا مسيرتهم التي لا تنتهي، وقد ولو وجوههم شطر المشرق.

هكذا كان علي أن أشحذ ذاكرتي لأستعيد تفاصيل تلك الرواية الباذخة التي قرأتها قبل أكثر من عقد من الزمان، وفي مثل هذه الظروف التي نعيشها الأن ونحن في حالة مستمرة من النزوح. هذا الوضع الذي حاولت تجاهله طوال 14 شهرا ويزيد منذ انطلاقة الحرب العبثية، وعملت على التاقلم معه وتطويعه لصالح أن تستمر الحياة ولهزيمة كل بوادر يأس أو اكتئاب يمكن أن تسيطر على المرء ويفرضها واقع الحرب.

عربة الدعم السريع وحصان التنظير

أمير بابكر عبد الله

مطلع النصف الثاني من القرن الماضي وصل فيدل كاسترو إلى شواطيء بلده كوبا، على متن قارب صغير وبرفقته أكثر من ثمانين ثورياً، ليبدأ رحلة الكفاح المسلح ضد نظام الدكتاتور باتيستا واستمرت لثلاث سنوات إلى أن أنتصرت الثورة الكوبية بقيادته على واحد من أعتى الجيوش المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة. لم ينطلق كاسترو في ثورته من فراغ، بل كان يحمل فكراً نظرياً يستهدي به على أمل أن يحققه تطبيقاً وتنزيلاً بعد انتصاره.

وبعد أن دانت له كوبا وتوج كأطول الرؤساء عمراً على كرسي السلطة في الجمهوريات الحديثة، قال كاسترو واحدة من حكمه التي تتناقض تماماً مع بداياته الثورية وخوضه حرب عصابات عنيفة ضد الجيش الرسمي للبلاد، قال:

"الأفكار لا تحتاج إلى أسلحة"

خروج جماعة المؤتمر الوطني.. حالة اللا دولة

أمير بابكر عبدالله

طرفان احتفيا بخروج جملة من قيادات نظام المؤتمر الوطني، الذي سقط بأمر الشعب، من السجن الذي كانوا ينتظرون فيه لاتهامهم بعدة قضايا، وبالتصريحات التي أدلى بها مطلوب الجنائية الدولية أحمد هارون. وضجت الأسافير بالخبر المتوقع منذ إندلاع حرب الأغبياء واستمرارها، والكل يدلي بدلوه متكهناً بذلك معززاً تكهناته حسب الموقع الذي يقف فيه.

الصورة: أحمد هارون- مواقع إلكترونية

ليس هناك حرب جيدة كفاية لخوضها

 محمد فاروق سلمان

"في المانيا رفضت روزا لوكسمبرغ الحرب، الموقف الذي قاد لاغتيالها بواسطة خياله الجيش الالماني في ١٩١٩، بينما دعا لينين الاحزاب الشيوعيه لتحويل الحرب في اوروبا لحرب اهلية ضد الانظمة الراسمالية، لينجح بذلك في روسيا وحدها اذ تتحول الحرب هناك لحرب اهلية انتهت بخروج روسيا من الحرب الاولى، وصعود البلاشفة للسلطة، ومن خلف شعار لا للحرب تم شرعنة اكثر حروب العالم دموية ضراوة ودموية!"