جسر المك نمر- رواية الفصل العاشر

 ذاك النهار مثل نقطة تحول أُعيد فيها ترتيب الأشياء، فما كان لها أن تمضي هكذا دون أن يعاد ترتيبها من آثار الفوضى التي اعترتها. تعود لطبيعتها لكنها تحمل داخلها بذور فوضى اخرى قادمة لا يدرك أحد ميقات تفجرها. هي طبيعة الأشياء نفسها أن تصير إلى الفوضى لتجد من يمسك أو ما يمسك بأطراف خيطها فيعيد نظمه، مثلما يجري النهر نحو المصب في سلاسة لا يعكر انسيابه سوى تلك الجزر الخانقة التي تعترض طريقه أحيانا، يجري كما أفعى تتربص بفريستها بعد حالة الفيضان التي تعتريه، ليحيل الأرض التي حوله إلى معركة تتجاذبها الأمواج ارتفاعاً وانخفاضاً إلى أن يحين موسم انحسار الماء عن الشواطئ. لكنه يكون قد أخذ في جوفه ما أخذ دون أن يلتفت أحد إلى ذلك بعد عودة السكون إلى الضفاف.

جلس عبد السيد بجوار المنصور ود المكي، وسط حشد كبير من الحضور لمناسبة زواج الزاكي مروان الفضل من ليلى بنت المنصور. كانت مفاجأة للمنصور أن يجد عبد السيد بعد كل تلك السنوات الطويلة في هذه المناسبة، وكان يلتقيه وهو صبي في دار سعاد التي يغشاها كلما استبدت به الشهوة والرغبة في قضاء ليلة فاحشة، قد تمتد لأيام، مع سعدية أزرق. ومثل الآخرين ظن إنه ابن غير شرعي لسعاد عندما أشاع الإنجليز ذلك في الصالة التي كان يرتادها بصحبتها. 

لم يك عبد السيد في تلك المناسبة هو نفسه ذاك الصبي الذي نجح في تفادي لقاء المنصور أثناء تلك الفترة، وهو يعلم صلته به. بل غض الطرف عن علاقته بسعدية أزرق حتى بعد إنجابها منه طفلتها ليلى التي ستتزوج من الزاكي اليوم. هو يعلم أن الزاكي يجهل أنه ليس بأخيه لأبيه كما يظن، ولكنه أبقى على تلك الحقيقة غائبة عنه وظل يلتقيه على فترات متقطعة أثناء مسيرة حياته العاصفة. شيء ما شده للاحتفاء هذا اليوم بالزاكي، ربما هي ليلى التي فعلت ذلك رغم أنها لا تعرفه، ولا أمها تذكره بعد أن فارقت تلك البقعة منذ حملها بها وفارقت معها كل ما يذكرها بتلك الأيام التي ختمتها بتلك الحادثة التي لا تنسى. نعم هي ليلى التي كان يأتي لرؤيتها خفية وهو بعد صبي، هي أخته من صلب أبيه وليس الزاكي. هذا ما دفعه للاهتمام بها وبأمها بعيداً عن الأعين ودون أن تدريا، فكان بعد أن اشتد عوده وشق طريقه في الحياة وسطع نجمه في أوساط المسؤولين في الدولة، انفتحت أمامه الكثير من الأبواب ليصبح من أكبر سماسرة المدينة دون أن يضطر للظهور كواحد من رجال الأعمال.

ألجمت المفاجأة أكثر المنصور وهو يرى عدداً من المسؤولين الكبار ووجهاء المدينة حضورا ويهنئون عبد السيد في حرارة، بل أكثر من ذلك عندما علم أن عبد السيد عضوا في تنظيم الاتحاد الاشتراكي ودخل السياسة من بوابتها الخلفية. لم يدر في خلده أن هذا ما صار إليه الصبي الذي كان يلتقيه عرضاً الماخور، كل هذا احتمله ود المكي إلا اكتشافه أن عبد السيد هو إبن السارة الوحيد. انتابته مشاعر شتى وهو يستدعي تفاصيل ذلك اليوم الذي غادرت فيه السارة البيت الكبير بصحبة مروان وزفة نهرية يكاد مسارها يمتد بين ضفتي النهر، وهو يطيل النظر إليها حتى رست في الضفة الأخرى. "تعلم إنه إبنك وأمك تعلم إنه إبنك" تردد صدى صوتها بقوة أكثر من تلك اللحظة التي وقفت تتوسل فيها إليه بأن لا يتركها ومصيرها الذي رسمته السيدة بدقة، وها هو يقف أمامه الآن يصول ويجول في زفاف إبنته؛ أخته. "نعم هي أخته!" العبارة التي كتمها المنصور داخل صدره قبل أن تخرج إلى العلن وهو يكاد يقفز من الكرسي.

تجاهل عبد السيد نظرات المنصور التي ظلت تتابعه دون إرادة منه، منشغلاً بضيوفه مرحباً بهم. البعض جاء مجاملة له للاحتفال بعرس أخيه وآخرون جاءوا خوفاً من سطوته وكثيرون جاء بهم رد الجميل إليه. تجاوز منذ عهد بعيد تلك العاطفة التي تدفعه للحنين إلى مظلة الأبوة، نعم كان يحتاجها في أوقات كثيرة ولا يجدها منذ تنكر له مروان وتركه نهباً لحياة الشك والخوف. فقد ذلك الإحساس وهو يشق طريقه بين غابة لا ترحم عابريها الضعفاء، لا يردعه وازع ولا تمسك بأطراف قلبه شفقة ترده إلى جادة الرحمة. لا حاجة به الآن للتراجع؛ سيظل محتفظا بإسم مروان المدفون تحت الأرض أباً له فالأسماء لا تعني الكثير إن ظلت مجهولة. أسماء كثيرة مجهولة صادفته في مسيرته، واشخاص بلا هوية يتكئون عليها يمارسون حياتهم بشغف متجاوز للأسوار التي يضربها حولهم محيط القيم المعلبة ونظرات الاستعلاء.

كل ذلك الانفعال لم يشفع لهما؛ كل منهما الدم يغلي في عروقه ليس غضباً، إنه دم الخواجة الساري داخل الأوردة يتدفق بقوة محفزاً مواطن الإلفة وتلك اللُّحمة التي لا تقطعها إنكسارات الزمن وهزائم التاريخ وصراعات النفس في لحظات ضعفها أو قوتها. المنصور ود المكي بوجهه الذي بدأ العمر يرسم خطوطه على أطرافه، لولا بقايا النعيم الذي يرفل فيه لكان أكثر تغضناً، جالس بجوار عبد السيد في ذروة قوته مملوء بالثقة. ما يربطهما أقوى بكثير مما يمكن أن يثيره لغط الغافلين. جيلان من نسل الخواجة تسللا مشاركين في نسيج الحياة، أولهما وجد نفسه في قمة الهرم دون جهد وعاش حياته لا يعلم الحقيقة التي دفنتها أمه والقابلة التي أخرجته لولا تلك اللحظات التي أسرت فيها لطفلتها الرضية بطرف منها ساعة صفاء ورغبة في تخفيف ما يعتمل في صدرها. والآخر جاءت به إلى الدنيا نزوة قدرتها السماء مطلقاً صرخته الأولى في الأطراف القصية لقاع المدينة لكن فضحته عيناه الخضراوان. لم تفضحاه هو فحسب وإنما أزالت كل الغطاء عن القصة القديمة وأثارتها محدثة كل تلك الفوضى التي ارتجت لها الأرجاء لحظة ميلاده. وها هما اليوم يُحضّران معاً للجيل الثالث الذي سيحمل الراية من بعدهما، في مخطط مرسوم بعناية لا يد لهما فيه.

الراية التي حملها المنصور ود المكي ظلت منكسة؛ جينات أمه كانت طاغية فاقت سطوتها قدرات ما دلقه الخواجة من ماء داخل رحمها لكنه ظل كامناً في انتظار لحظة سفوره. لم يقو على حملها في حياته الخاملة دون أن يحدث أثراً آخر غير غزواته النسائية، إنها المهمة المقدسة المسطورة في كتابه الأزلي. سلك درب جده لأمه الشيخ المنصور ليضفي على نفسه عباءة التقية ويحيطها بالمريدين، دون أن يجتهد كثيراً في التقرب إلى الله مثلما فعل الأسلاف وبعض الخلف، الذين اشتهروا بالزهد والورع ونزل عليهم ذلك فيضاً إلهياً وعلماً ربانياً شغلهم عن مفاتن الدنيا وزينتها. هو يشبه جده الذي حمل إسمه، في كثير من ملامح شكله وبعض صفاته، فقد اشتهر الشيخ المنصور بحب الدنيا والآخرة لا يقدم إحداهما على الأخرى وله في ذلك أقوال وأحاديث، وإن كانت الدنيا تتقدم عنده على الآخرة في أحايين وكثيرة مما كان سببا لخلافه مع المبروك رغم صداقتهما وانتمائهما لسجادة صوفية واحدة أصلاً، وقد انقطع المبروك في أواخر حياته داخل خلوته تقرباً إلى الله وينظر إلى الدنيا من خلال نافذتها مستمداً منها مزيداً من التقوى.

ما أخذه المنصور ود المكي من جده هو حب الدنيا وشغف المتعة بها، وزاد عليه بسلوكه دروباً ما كان ليسلكها الجد، فانغمس في متعته بالنساء بعيداً عن الأعين وتحت بصرها كذلك دون أن يطرف له جفن، وبدأها بالسارة التي فض بكارتها ذات ليلة قمراء، وواصل مسيرته قبل وبعد أن حاصرته أمه ليتزوج ففعل بزوجته ما فعله والده المكي بأمه السيدة والسرة بت حمد من قبلها. وتجاوز والده في احتفائه بجلسات الخمر يحيط به مريدوه الذين يغدق عليهم من أموال أمه التي ورثتها وتلك المزارع التي تدر عليه دخلا يؤمن له كل ملذاته. فصارت الخمرة فيضاً يغمره ويستغرقه في صراطه نحو المهمة المقدسة المنوط به إنجازها وهو منجذب تجاهها بلا وعي، غارق في عوالم من صنع خياله. كان مؤمنا بأن كل الطرق تؤدي إلى بوابات السماء، وأنه في غيابه يكون أقرب لتلك البوابات من غيره.

جاء المنصور ود المكي هكذا اليوم؛ جالساً بجوار عبد السيد مروان، في مناسبة زواج ليلى إلى الزاكي. سيسلمه الراية ليكون شاهداً على فصل جديد من عدم انقطاع دم الخواجة الذي ضخه قبل موته، ووميض الحقيقة يعصف بآخر معاقل التماسك داخله بعدما انقشعت الرؤية وانفتح أمامه السر الأعظم. كثيراً ما طرق أذنيه حديث الخدم في البيت الكبير عن علاقة جمعت بين أمه السيدة والخواجة، يتداولونها أثناء سهراتهم الخاصة، لكنه لم يلق لها بالاً، متجاهلاً كل الأحاسيس التي تعتريه في علاقته بوالده المكي، فهو نادراً ما كان يراه أصلا لانشغاله وأسفاره الكثيرة. 

الآن يرى صورته أمامه بكامل تفاصيلها، إلا العينين الخضراوين وتلك البشرة التي غلب عليها لون السارة. غالب ارتجاج صدره بالصبر على قوة مفاجأة الحقيقة بطريقته الإيمانية منجذباً إلى تعاويذ الحصانة التي تلقنها عن جده. جمع أطراف عباءته مردداً كل ما خطر بذهنه من أوراد تقوي من إرادته وتمنع هبوط الروح في مثل هذا الموقف.

قال المنصور لعبد السيد، ممسكاً بلحظة قلَّ فيها انشغاله بالآخرين:

- ستحتفظ باسم عمران إلى الأبد؛ تلك هي الحكمة، حتى تستمر الأشياء في استقامتها ولا تعم الفوضى.

كاد ان يقول له "يا إبني" لكنه أمسك لسانه في اللحظة الأخيرة ساخراً من نفسه. يجب أن تبقى الحقيقة مدفونة إلى الأبد وإن لم تمت، حتى بينهما ساعة خلوتهما لا يجب أن يرددانها. منذ ذاك اليوم، الذي رأى فيه أمه داخل عيني عبد السيد، اختفى منزوياً داخل أسوار البيت الكبير لا يكلم أحداً، ولم يخرج في جنازة أمه وقد بكاها بحرقة لم يعهدها الناس من حوله. ولا يدري أحد إن كان بكاؤه لها أم عليها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق