جسر المك نمر- رواية الفصل 11

بعد تلك الدموع التي ذرفها عبد السيد مع خروج آخر الجنود الانجليز، وذلك الاحساس باليتم الحقيقي الذي انتابه، استيقظ بعقل أكثر انفتاحا. ليس له سوى هذا العقل وهذين العينين الخضراوين لإدارة معاركه المقبلة.

هؤلاء الناس الذين يراهم يتوافدون كل يوم إلى بيت سعاد الكبير، سيستغلهم ليفتحوا أمامه كل الأبواب فيما بعد. لا يشغل باله بالعوام الذين لا يهتمون كثيراً لأمثاله ولا فائدة يرجوها منهم سوى تلك الضحكات البائسة ونفحاتهم النادرة التي يهبونها له في غمرة سكرتهم أو إنتظاراً لإطفاء نيرانهم المشتعلة أسفل بطونهم في واحدة من تلك الغرف الضيقة، فهؤلاء لا يكترثون لشيء ولا يمكن الإمساك بسقطاتهم فهم أول من يعلنونها. عليه الاهتمام بأولئك الخائفين، الذين يأتون خلسة من علية القوم، يختبئون خلف الظلام، ويديرون نهار أعمالهم في الليالي الماجنة بعيداً عن الأعين.

هذا العالم الزائف، زيف عينيه الخضراوين، تتجلى حقيقته في حياته التي يعيشها طولاً وعرضاً غير مكترث بما حوله، ولا العالم مكترث به مما سهل عليه التسلل دون تعب في كل الدروب. منذ صغره فطن إلى أن الدنيا لا تؤخذ غلابا، بل مكراً ودهاء؛ فهو لا يصارع في جبهة واحدة ولا يدري من أجل ماذا يصارع ولكنها غريزة البقاء تدفعه إلى صنع شيء ما حتى وإن وهماً ليصارعه، تقوده الموجة إلى حيث مساراتها وأينما اصطدمت بشاطئ يأبى اللجوء إلى البر، فيكر مع انكساراتها عائداً ليبدأ معركته الجديدة.

هو الآن ليس ذاك الطفل ولا الصبي الذي يمازحونه ويرسلونه لقضاء حوائجهم أو لاستدعاء احداهن، الآن هو من سيدير اللعبة بقواعد جديدة بعيداً عن دار سعاد. لم ينتظر الفرصة لتأتي إليه ساعية بين يديه، بدأ يبحث عنها ويسعى إليها هو بقدميه وبعقله ومكره.. يكشف عنها الغطاء دون ضجة لينتزعها انتزاعاً من براثن الحياة القاسية. نعم.. عليه الذهاب إلى مالك دار سعاد ليؤجر له منزلاً آخر بعيداً عن هنا، هو شيخ من وجهاء المدينة لكنه تاجر عارض بضاعته لمن يشتري دون أن يثقل ضميره بهوية من يشتري. لا احد يذكر أن البيت الذي تدير فيه سعاد عملها ملك له، أو لا يهتمون بذلك، فلا أحد يهتم. لم تكن مثل هذه الأسئلة مهمة على الإطلاق، ولا تخطر على بال أحد، فالشيخ تراوده نفسه أحياناً لحيوات غير تلك التي اعتاد عليها وفِراش أكثر تحرراً يُعيد لحواسه الحيوية والنشاط، كل ما عليه هو الاستغفار والتوبة دون إحساس بثقل ما اقترفه ولا يرى فيه عيباً يستحق التوقف عنده كثيراً. السماوات وقتها كانت ندية مترعة روحها الأمَّارة ممتلئة بالحب والخير أكثر منها امتلاء بالسوء. الغانية تمشي وسط الأسواق تضاحك هذا وتهازر ذاك بلا وجل، ويجدن طريقهن إلى داخل البيوت في الأحياء دون أن يثرن خجلاً لدى استقبالهن. النساء في بيوتهن لا يخشين على أزواجهن ولا تأكلهن نار الغيرة من نزوة عابرة قد يغامر بخوض تجربتها أزواجهن، كن واثقات من أنفسهن وأن حضنهن هو الركن الدافئ في آخر المطاف.

لم يدم ذلك طويلاً عندما بدأت تتعالى بعض أصوات يملؤها التشنج مع مرور الوقت وبعد سنوات من تلك التظاهرة الضخمة في محطة السكة الحديد تودع آخر فوج انجليزي مغادر، تعالت بعضها مطالبة بإغلاق البيت الذي تديره سعاد وسط المدينة، ولم تتجاوز المنابر التي يلقون فيها بخطبهم النارية. لكنها بدأت، وتبدأ النار من مستصغر الشرر.

انطلاقته التي رسم لها طويلاً، هي أن يهيئ مجلساً بعيداً عن الفضوليين، فهذه الأجواء ثمارها في غموضها، كلما ازدادت غموضاً ارتفعت قيمتها. نظر إليه الشيخ، بلحيته الصغيرة المكسوة بياضاً، متأملاً جسده النحيل نافذاً إلى سنوات عمره، مما أثار قلقه. هو يعلم من الذي يقف أمامه، التقاه مرات عديدة بصحبة سعاد عندما تأتي لهذا المكتب لسداد إيجارها الشهري. ليست هناك من طريقة لإبعاده عن طريقه دون شك إلا أن يطلب منه هذا المبلغ للإيجار، كان مبلغاً كبيراً لقاء إيجار منزل في تلك المنطقة. نظرة سخرية تكسو ملامح وجه الشيخ وهو يلقي بقوله الثقيل عليه، ثم واصل انشغاله بما في يديه من عمل. 

لم ييأس عبد السيد مستدعياً كل الحيل والمكر الذي يمكنه استخدامه في مثل تلك الحالات؛ يدرك أن امتلاكه لبعض مفاتيح الرجل سترغمه على التنازل قليلاً. أوحى له بقدرته على تحمل المسؤولية والتزامه بسداد الإيجار الشهري. وفي باله إن الشيخ نفسه سيكون ضمن المساهمين في توفيره، يَعْلم كيف ينسج شراكه حوله ومن الذي سينسجها؛ ليس هذا المهم الآن. اتخاذ عبد السيد للخطوة الحاسمة هو ما أنهى الأمر، عندما ناوله أجرة ثلاثة أشهر مقدماً، هذا ليس من قوانين وقواعد سوق العقارات والإيجارات في ذاك الزمان، لكنه تعلمها في المساومات بين رواد الليل والغانيات، التي تجري تحت سمعه أو بصره منذ سنوات. إنه قانون جديد نقله من عوالم بيوت الدعارة إلى التعامل به في عالم التجارة ووضعه بمهارة ماكرة أمام طاولة الشيخ. أدرك الآن معنى الاستفادة من مدخراته منذ الصغر "ما تحصل عليه من مال، مهما كان مبلغاً صغيراً، احتفظ به" هذا ما نصحته به سعاد وهي قابضة على يدي بقوة عابرة بي من عالم زقاق الخواجة إلى هذا العالم. 

رغم الدهشة البادية على ملامح وجهه الشيخ، إلا ان تلك الخطوة الماكرة أصابته في موطن الرغبة، وعندما تصيب المرء التسديدة في مثل هذا الموقع لابد من الاستسلام. هذا ما حدث بالفعل؛ أخرج الشيخ سلسلة مفاتيح استل منها بعضها ووضعها على المكتب قبل أن يسلمها عبد السيد ومعها حزمة من نصائح وإرشادات كثيرة تتعلق بالمحافظة على العقار. قابض على حزمة المفاتيح لبوابة الحياة الجديدة المرسومة في ذهنه، انطلق لا يلوي على شيء والفرحة لا تكاد تسعه، واضعاً قدميه على أولى عتبات السلم لسماء يرغب في الصعود إليها. هي أول الصفقات العملية التي عقدها في حياته وعليه البناء عليها والإعداد لملعب الصفقات القادمة بشكل جيد. بدأ في تقسيم المبنى الكبير ليسع كل الأمزجة التي صادفها في رحلته الطويلة، ينبغي عليه رسم طريق الغواية في أبهى صوره، الصراط الذي سيمضون فيه دون تردد إن أحسن صنعته، فالإنسان مجبول على الغواية منذ خلقه لا يحيد عنها إلا للعودة والغرق في أتونها حتى الثمالة. لم تثر دهشته تلك الأساطير التي سمعها في المدرسة، وقرأها في كتب التاريخ عن مجون الملوك وحاشيتهم والنساء اللائي يبعن أجسادهن كواجب إلهي مقدس ولا أنهر الخمر المسكوبة على مذابح المعابد. كان يتابع بشغف حكايات هارون الرشيد ويستمتع بشعر أبو نواس وأساطير آلهة المتعة واللذة والحرب، ليدرك جوهر اللعبة. لم تخدعه تلك الدعاوى المزيفة عن الشرف والفضيلة والأخلاق، إنها تقال في عالم البسطاء الذين لا يملكون من امرهم شيئاً ولا حول لهم ولا قوة، العابرون من أرحام أمهاتهم إلى قبورهم دون أن يدركوا ماهية الحياة وحقيقتها. 

إنها مهمة مقدسة رماها على عاتقه ممسكاً بعصب الحقيقة وجوهرها؛ هي كذلك. فهو إبن زنا "ود حرام"، حيث الكل زناة. تراهم كل يوم يكدون طوال النهار وبعضهم ميسور الحال لا حاجة له للكد طوال النهار، وما أن يحل المساء أو تحل سانحة في منتصف النهار يأتون فرادى وجماعات لتفريغ شحناتهم بين تلك الأفخاذ المختلفة. لا فرق في أين سيفرغ تلك الشحنة، في غرف بيت سعاد الضيقة أم في سرير الزوجية. إنها حقيقة أزلية يغيبها العقل متى أراد تحت مختلف الدعاوى، لكن لا أحد ينكر أن آدم وحواء خرجا من الجنة بعد ظهور سوءتهما واندفاع ذلك الشعور الدافئ المملوء بالرغبة والشهوة إلى الصدر بفعل الغواية. الشيطان هو ذلك الشعور الدافئ وتلك الشهوة داخل الصدور، عليه أن يحركه وأن يجعله متقد لا يخمد. 

الموقع المميز للمنزل الواسع قرب الشاطئ، وبعده النسبي عن امتدادات وسط المدينة بطرقاتها المغبرة وصخبها، جعل من الفكرة اكثر إثارة وفتنة. تلك الغرفة الواسعة في أقصى البناية إلى الداخل هي التي سيضع فيها عدة طاولات للعب الورق، وهناك عدة غرف منفصلة لمن أرادوا الانعزال والابتعاد عن الأعين أثناء قضاء وقتهم في احتساء الخمر، ثم الغرف في الطابق الأعلى التي لا تراها الأعين ولا يسمع صدى أصواتها وتأوهاتها إلا من كان مبحراً في منتصف مجرى النهر في تلك الأثناء. أما الباحة الخلفية المطلة على الشاطئ فهي مفتوحة للذين يريدون قضاء وقتهم في الهواء الطلق. هكذا رسم خريطة الموقع دون كبير عناء، وكأن مهندس البناية قارئ لأفكاره قبل ولادته ويعلم أن يوماً ما سيكون عبد السيد صاحب هذه البناية.

عليه الآن العمل على اختيار بعض الشخصيات بعناية لدعوتهم في اليوم الأول، لم يفكر في دعوة كبار القوم الذين عادة ما يلتقيهم في بيت سعاد، سيأتون بمفردهم لاحقاً. جاء ذاك اليوم بعض من صغار الضباط وموظفين من المحافظة والبلدية وبعض التجار، تلبية للدعوة، لم يدعهم عبد السيد بنفسه بل تلك الفتاة الشقية كوثر. اختارها لظرفها وروحها المرحة، ولكنه في انتظار أن تلعب دوراً آخر في مشروعه المقدس في المستقبل. مع غروب الشمس كانت الذبائح سائلة دماؤها في الأرجاء قرباناً للبداية التي قصد أن تكون صاخبة. ضيوفه اليوم ليسوا هم من يستهدفهم، إنهم يحتلون مرتبة ثانية أو ثالثة، لكنهم خير من ينقل تفاصيل هذه الدعوة. الثرثرة واحدة من صفاتهم، وأن يكونوا حضورا اليوم سيكون حديث المجالس غداً في المكاتب الحكومية وجلسات رجال الأعمال والتجار. الفتيات المتبلات بروائح البخور النفاذة يتجولن في المكان على مهلهن يستقبلن الضيوف، يوزعن الابتسامات بلا تكلف. أول مرة يراهن رغم سنوات عمره التي قضاها بين دهاليز هذا العالم ودروبه. نجحت كوثر في اختياراتها ذاك اليوم، كافأها على غير العادة بأكثر مما تستحق. كانت سهرة فوق العادة أدهشته هو نفسه، وقد حرص على التواجد في كل الأماكن في وقت واحد، لا يعرف كيف حدث هذا لكنه المطلوب ، بادر بالاستجابة لكل الخدمات وإصدار الأوامر للعاملين في ثبات وثقة جعلت منه سيد الموقف بحق.

لم ينتظر طويلاً لتبدأ العجلة في الدوران؛ ليلة الخميس دائماً ما تجيء سريعاً دون بقية الليالي ليمتليء "البيت الأخضر"، هكذا أطلقوا عليه ابتهاجاً بالخضرة التي تحيط به وربما للون عينيه أيضاً. فارقته لحظات القلق والإضطراب التي انتابته من احتمالات الفشل أثناء مرور أيام الأسبوع الأول، قبل ورود تلك الاتصالات والتوصيات بحجز طاولات لعب الورق. لم تنقطع بعدها الأرجل عن البيت الأخضر، الذي أصبح رواده كبار رجالات البلد، ونساء ما كنت ليراهن مطلقاً يأتين خفية. وأثناء النهار كان البيت الأخضر يستقبل بعض الرجال والنساء، هؤلاء يتخفون في الضوء لا في الظلام، ويبتسم كل ما وجد الشيخ بلحيته وورعه وثوبه الناصع البياض واقفا أمامه بصحبته فتاة كان يتعمد أن ينتظره لتقع عيناهما على بعض، لم يأت إلى داره قط بصحبة فتاة مرتين. يبتسم له وعلى تلك اللحية الكذوب والورع المخادع، مؤكداً صحة نظريته التي قامت عليها فكرة البيت الأخضر.

صار "البيت الأخضر" بيت الأسرار الكبرى؛ منحه بطاقة المرور إلى مكاتب الدولة ومعاملات التجار، ما من صفقة تجارية مهمة إلا وكان وسيطاً لاكتمالها. لم يسع ليكون طرفاً فيها، "سيحد ذلك من قدراتك وانطلاقتك ويلفت إليك الانتباه" هكذا وضع استراتيجيته في التعامل التجاري، عليه أن يجمع بين الأطراف في الصفقات التجارية مثلما يفعل في البيت الأخضر "عليك أن تبقى وسيطاً وتحدد عمولتك باكتمال كل صفقة. لا تحتاج لمكتب ولا مقر، هنا وفي البيت الأخضر يبدأ عقد الصفقات والاتفاق على العمولات وفي كل لك نصيب. تتنقل بسيارتك الحديثة التي اقتنيتها أثناء النهار لانجاز ما لم يكتمل ليلا". 

تجاوز الأمر تلك الصفقات والمال وأسرار مضاجع النوم والليالي الحمراء، إلى عالم آخر ما كان يتطلع إليه، فجمع البيت الأخضر كل ذلك مع السياسة. عقله النزَّاع إلى السيطرة تملكته رغبة الدخول في هذا العالم وهو يسترق السمع إلى الأحاديث من حوله، تلك التي تدور تحت الطاولات أو عليها في صمت. يستغرب لتلك المؤامرات التي تحاك في الخفاء وذلك الصراع الذي لا رحمة فيه. هنا يرسمون مخططاتهم لضرب خصومهم، الكل يخطط ضد بعضه البعض. الحراك السياسي على أشده، تقسم فيه الدوائر الانتخابية ومقاعد الوزارة. إنه صراع أشد شراسة من عالم المال، واكثر قسوة، أعضاء الحزب الواحد يتآمرون على بعضهم ومستعدون للذهاب إلى أقصى حدود المؤامرة مع خصومهم. عمل على الإمساك بكل خيوط اللعبة للعبور بمهمته المقدسة داخل هذه الحرب التي لا ترحم. كاد أن يصيبه الندم عندما تدخل في الحديث مرة؛ تذكر ذلك الجدل الدائر لإزاحة أحدهم من قائمة المرشحين للوزارة، الحوار جار في وجوده دون خشية، فهو بالنسبة لهم لا علاقة له بما يجري خارج البيت الأخضر، يأمنون جانب وهم يدلقون أسرارهم وخططهم داخل قاعة اللعب أو الشرب. 

قال لهم في صوت مملوء بالثقة:

- سأزيحه لكم من قائمة ترشيحات الوزارة.

وفي أثناء دهشتهم لحديثه باغتهم بطلبه المباشر:

- ستدفعون لي مقابل ذلك، ونصف المبلغ الآن.

منذ ذلك الوقت وهو يدير ملعبه بمهارة فائقة حتى يتفادى كل منزلق يودي به إلى التهلكة ، مستغلاً غياب صورته عن المشهد وإمساكه بما يحقق له غاياته ، والبيت الأخضر بئر متسع للأسرار منه تخرج وإليه تعود.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق