جسر المك نمر-رواية- الفصل التاسع

لم تهتم الرضية كثيراً عندما أخبرها الفتى الجالس أمامها أن أمه هي ليلى زوجة الزاكي، فكثيرون عبروا أمام عينيها وخرجوا من بين يديها أثناء مسيرتها كقابلة، دون أن يتركوا أثراً في نفسها يحفز قرون استشعار حب الاستطلاع لديها. ولكنها صمتت طويلاً وهي تنظر في عينيه الخضراوين تغالب انفعالاتها وتصارع لإخفاء دهشتها عندما علمت أن جدته "أم ليلى" هي سعدية أزرق.

انطفأ ذلك الألق الذي يكسو عينيها وخبأت تلك الروح التي كانت سائدة أثناء زيارته الأولى لها للحظات، لا ينفذ إلى جوهر ذلك التحول سوى الذين سلكوا طرقات حكاويها وخبروا دروب انفعالات روحها، حين يراودها الاشتهاء وتقتله في مهده، أو عندما تتعلق بأطراف ذاكرتها قصة سرعان ما تهرب من تفاصيلها. تذكر هنا حديث عمه عبد السيد بأنها رغم ثرثرتها التي لا تنقطع إلا أنها عصية الاختراق في المناطق المحرمة التي تعلم خباياها، ودائما ما تخفي أسرارها بين ثنايا تلك الثرثرة فلا تبوح بشيء من أسرار الآخرين، لذلك ظلت ملجأهم في كل اللحظات.. لا يخشون الحديث إليها في كل ما يشغل بالهم.

بسنوات عمره القصيرة وتجربته المحدودة ومعرفته بها التي لا تتعدى زيارته الثانية لها، لم يكن من بين الذين يمكنهم الإمساك بملامح تلك اللحظات التي استغرقتها، وكانت كافية لتغوص عميقاً في تلك الذكرى قبل أن تنجح في الهرب من قبضتها. 

غمغمت في سرها وهي تشيح ببصرها عن فنجان القهوة الذي سكبته للتو ويتصاعد منه خيط دخان أبيض سرعان ما يتلاشى في الهواء:

- لعنة الله عليك يا المنصور ود المكي، ها أنت قد فعلتها مرة أخرى... لعنة الله عليك.

كان ذاك يوم من الأيام التي لعنت فيها الرضية مهنتها صادقة، فهو محفور في ذاكرتها عندما جاءتها سعاد في آخر النهار تصحب خلفها فتاة يبدو عليها الإنكسار وتحاول عيناها أن تخفي جزعاً سرعان ما تفشل في مُداراته. كانت تلك الفتاة هي سعدية أزرق وقد بدأت بطنها تتمدد لتنبئ عن حلقة جديدة في سلسلة نتائج عالم المتعة المحرمة. ولعلاقتها القوية بسعاد ها هي تقودها الآن في محاولة لإزالة تلك الآثار التي خلفتها ليلة مجون عاشت تفاصيلها جدران غرفتها، لتشهد أن المنصور ود المكي كان أحد أطرافها.

عندما علمت الرضية أن المنصور طرف فيما دار من حديث بينها وصديقتها سعاد ورفيقتها، انتابها غم شديد وهي تسترجع شريط الذاكرة الذي توقف عند أحداث تلك الليالي التي عاشتها السارة معه ومعاناتها عندما تآمرت أمه السيدة لتزويجها من مروان. وقفز إلى ذهنها عبد السيد الذي لم يسأل عنها لسنوات منذ مغادرته الزقاق، وهي تخشى من السؤال عنه، لولا تلك الأخبار المتقطعة التي تجود بها سعاد عليها من حين لآخر. رفضت الرضية فكرة أن تجهض سعدية أزرق، وتعللت لصديقتها بأن حملها تجاوز وقت اسقاط الجنين دون أن تحدث كارثة للأم. لا تدري إن كانت تشارك في مؤامرة أخرى يخرج منها عبد السيد آخر وبعيون خضر، ليواصل مسيرة ما زرعه الخواجة في رحم السيدة.

لم تنجح سعاد في إثنائها عن رأيها ذلك اليوم رغم محاولاتها المتواصلة، فالفتاة التي تعمل تحت إشرافها أثيرة ليدها من بين كل الفتيات، وتخشى أن يضيع ريعها إن هي أنجبت هذا الطفل الذي تحمله بين أحشائها. ولكنها رضخت في نهاية الأمر لنصيحة صديقتها التي تعلم ما سيجري بحكم مهنتها، خشيت على نفسها من المشاركة في جريمة محتملة إن هي واصلت سعيها لإسقاط الجنين. 

انتفضت الرضية من رماد ذاكرتها وكأنها تراني أمامها لأول مرة، شيء ما جعله يفكر في المغادرة هرباً من تلك الملامح التي كست وجهها فصار أكثر تغضناً، وبدا عليه إعياء واضح لا تراه إلا في شخص قد هدَّه المرض لأيام أو أسابيع دون أن يجد ما يداويه. تماسك قليلاً حين أشاحت ببصرها عنه، بعد أن تفرست في وجهه طويلاً واخترقت إنسان عينيه دون أن يرمش لها جفن، أخذها الذهول مأخذاً بعيداً وهي تقول متسائلة في صوت استجمع قوته بصعوبة:

- إنت عبد السيد وعمك عبد السيد وجدتك سعدية أزرق!!!

قال لها ويمتلكه شغف كبير لمعرفة ما يجول في رأسها:

- نعم؛ أنا هو، وسعدية والدة أمي ليلى وأبي الزاكي أخ عبد السيد.

الأمر أكبر من أن يستوعبه عقلها، هي مشوشة تتنازعها كثير من المشاعر التي تصاعدت لتتطغى على طبيعة الأشياء ومنطقها. دائرة في حلقة محكمة يتجاذب محيطها أكثر من عبد السيد واكثر من منصور. لكنها استدركت أن مروان تزوج بعد وفاة السارة قبل أن يغادر عبد السيد الزقاق.. نعم تزوج من إمرأة مطلقة كانت تزورها من وقت لآخر في الزقاق، وهي من رشحتها له  وأنجب منها طفلاً إسمه الزاكي بعد سنوات قبل أن يلزم الفراش في رقدته الأخيرة التي فارق بعدها الحياة، واختفت بعدها المرأة وانقطعت صلتها بها إلى أن نبش ذكراها هذا الولد. إذاً هو الزاكي إبن مروان ولكنه ليس أخ عبد السيد، فعبد السيد أبوه الحقيقي هو المنصور، ومن يجلس أمامها الآن هو عبد السيد ابن الزاكي الذي أنجبه مروان من تلك المرأة قبل وفاته. هكذا ظل عقلها يدور في دائرة غير مكتملة وخيالها عاجز عن الإمساك بطرف من أطراف الدائرة لتصل بخيوطها إلى نهاياتها.

بدأت خيوط الذاكرة تنقض غزلها لتخرج من بينها سعدية بجسدها الصبي وبطنها المتكورة تقف أمامها وفي نظراتها ذلك الجزع. وها هي أمها الجالسة بجوارها تداعب شعرها وتحكي لها قصة الخواجة ورعب السيدة عندما أنجبت المنصور، وتفاصيل كثيرة تترى بين غدو عقلها ورواح قلبها، لا يستطيع لسانها أن ينطق بحقيقة أصل المنصور، فهي لا تملكها أصلا، ولن يصدقها أحد فهو بملامحه العادية دفن كل الحقيقة التي يمكن استعادتها مثلما حدث مع عبد السيد.

لكن سعدية ليست السارة؛ بعد أن غادرتها ذاك اليوم تحمل في صدرها، الذي بدأت ملامح الإمتلاء ظاهرة عليه، تلك النصائح التي أثارت قلقها لتقرر الاحتفاظ بالجنين مهما كلفها ذلك. لم تستطع العودة إلى قريتها، فهي مغلوبة على أمرها بعد أن رأت وجها آخر لسعاد ما عهدته. فكان أن غادرت الدار دون أن يكون في مقدورها أن تقف وسط الباحة التي تقع في منتصفه لتصيح في وجهها "يا عاهرة الانجليز"، مثلما تفعل الأخريات. لم يراودها إحساس بالعار وهي خارجة من أوسع أبوابه، فقد عاشت حياة ماجنة تقودها رغبة لا تكاد تستبين كنهها ولكن جسدها لا يحتويها تحاول الخروج منه بانغماسها في ملذاتها، فهي تبيع العشق والهوى على طريقتها لا على طريقة الغانيات البائسات. راودها إحساس بالقلق على مصير جنينها الذي يركل بطنها من حين لآخر، فأهلها لن يقبلوا بها إن عادت إليهم بعد اختيارها ذلك الطريق، والأكثر كارثة ورعباً عودتها إليهم بما تحمله وكأنها تتحدى حماقتهم قبل كبريائهم.

شيء ما انتفض داخلها جعلها تتجاوز كل حواجز الخوف والحذر، دفعها لتعبر النهر إلى الضفة الأخرى وتقف أمام البيت الكبير. ليس غريباً عليها، تعرف مخارجه ومداخله التي تجاوزتها مرات بصحبة المنصور في غفلة من الليل تبيعه عشقها على طريقتها، بعد أن وجدت فيه ما يغريها. لم تكن تساومه على أجر ليلتها ولا لحظة متعتها، فهو لا يبخل عليها ويغدق عليها في مناسبات عديدة. خبرت جبروته وسطوته وقسوته التي يتدثرها فوق عباءته عندما يخرج للناس، خبرتها عندما يتلوى إلى جوارها في الفرش شبقاً يطلب ودها وهي لا تبخل عليه، فيتلاشى كل ذلك الجبروت الذي يُحكى عنه ويستحيل عذوبة ورقة واستجداء. قال لها في قمة نشوته حالما علم بحملها:

- سأستأجر لك بيتاً بعيدا عن هذا الماخور، لتضعي فيه الجنين.

لكنه في الصباح تنكر لها، وعادت دورة من التاريخ عندما تجاهل رجاءاتها بتحمل مسؤوليته تجاهها وتجاه الطفل الذي لم يولد بعد. هرب من كل محاولات الحصار التي ضربتها حوله مستخدمة مكر النساء وكيدهن، وبدأت رجله تنقطع عن لقائها شيئاً فشيئا إلى أن وجدها أمامه في هذا المشهد الذي لم يدر بخلده يوماً.

قررت أن تظهر له آخر ما في جعبتها من سطوة وقوة وهي واقفة منتصف النهار أمام البوابة الرئيسية للبيت الكبير. خرجت من جوفها صرخة تردد صداها في أركان البيت وأرجاء الحي.. صرخة حملت بين جنباتها أحرف إسم المنصور واهتز لها فراش السيدة التي صارت بالكاد تشعر بما يدور حولها، لكنها علقت على شفتيها ابتسامة عجز وهي تهز برأسها وبالكاد استطاعت نطق اسم ابنها.

كان يوماً مشهوداً تناقلت أخباره كل ارجاء المدينة، حين وقف المنصور ود المكي أمامها وخلفه زوجته وبعض بناته، بكل صلفه وغروره وصفعها على جبينها أمام الناس، وأرغى ثم ازبد لكنه لم يجرؤ على النظر إلى عينيها وهي تقابل كل ذلك بنظرة قوية إلى وجهه وابتسامة ساخرة. لم يهزمها ضعف جسدها وهزاله، استجمعت كل قواها التي تمردت على الاستسلام منتفضة في وجه ذلك السور المنيع الذي يحيط بالبيت الكبير. اقتربت منه أكثر فأكثر وهي تشير إلى بطنها الممتدة، ثم همست في صوت رائق لا يشبه توتر الموقف، لم يسمعه إلا المنصور:

- سأدخل إلى السيدة، أمك واخبرها بكل شيء.. ثم تابعت في همسها: أو ان شئت سأخبر زوجتك وبناتك بتفاصيل كل السنوات الماضية، أو إن رأيت أن أطلع هذا الجمع على مشاهد من غرفتي وسط المدينة أو غرف البيت الكبير.

بدا المنصور المحاط بهيبته وبعد صفعته القوية لها، محاصرا وضعيفاً لا يقوى على التفكير.. أمه دائما ما تدبر له الحيل للخروج من أزماته. على خلاف إخوانه الكبير منهم والصغير اعتاد اللجوء إليها، لكنها الآن بلا حول ولا قوة. هو لا يخشى أن تعلم بعلاقاته النسائية التي كثيرا ما تدخلت فيها بدءاً من السارة التي غادرت البيت الكبير منذ سنوات. كانت تتدخل قبل استفحال الأمور وبروزها إلى السطح، تطفئ نارها قبل أن تتمدد ألسنتها، لكن النار الآن مدت لسانها ولا مجال لإطفائها في مهدها.

لم يجد أمامه سوى الانصياع لأوامر أمه في خاتمة المطاف، بعد أن اصطحب سعدية لرؤيتها في غرفتها. قالت له وهي ترمق سعدية بنظرة واهنة مستسلمة:

- استأجر لها غرفة كما طلبت، لكن خارج البيت الكبير. أنت والد الطفل وستلتزم بمسؤولياته.. ثم بنبرة أخذها الغضب مأخذا بعيدا: يكفي هروبا من أعمالك التي تغترفها بيدك. لقد تجاوزت العمر الذي تحتمي فيه بأمك من زمان.

كان ذلك الفرمان الأموي الذي أخرج ليلى من ظلمة تلك الغرفة تحمل اسم المنصور ود المكي بعد شهور من تلك الوقفة المشهودة، لتستمر مسيرة أبيها لا يعكر صفوها غير الصعود والهبوط بين مدارج البيت الكبير والغرف المظلمة في الطرقات. هكذا قُدّر له أن يعيش ليبذر ماء الخواجة من ظهره أثناء تلك المسيرة، ليعمر الأرض ولا ينقطع النسل. ليلى خرجت من رحم أمها، كما خرج هو، دون أن تلفت الانتباه ، وليس مثلما خرج عبد السيد قبل سنوات. وكما بقية بناته من زوجته في البيت الكبير، انطفأ ذلك البريق الأخضر في طور التكوين قبل أن يصبغ عينيها كما فعل بعبد السيد من قبل.

لعنة الرضية على المنصور ود المكي التي غمغمت بها في سرها، تزايدت أثناء محاولاتها تجميع ما تستطيعه من مخزون ذاكرتها لتعلم كيف وصل إليها هذا الصبي الجالس أمامها الآن ويحتسي معها القهوة. إحساس بالشفقة عليه تعاظم داخلها وهي تفكك الصورة التي بدأت تتضح معالمها، وهي القابلة التي تتفتق عندها شجرة النسب لتزداد غصناً في فروعها. ذلك ما دفعها على الإمساك عن الحديث بكل الحقيقة التي تعرفها حول قصة عمه عبد السيد والمنصور ود المكي وجدته سعدية أزرق وكل الحكاوي التي ربما تغير مسار الأشياء وتحرفها إلى غير وجهتها، وكأنها قرأت ما يدور في خلد عبد السيد عندما أرسل هذا الفتي إليها لتطلعه على ما يدور في رأسه من تساؤلات، كان يعلم أنها لن تقول كل شيء ولكنها ستشفي بعض من غليله.

إنها ليست لعنة الرضية، بل قالتها بوضوح هذه المرة قبل أن يغادر الفتى:

- إنها اللعنة التي تنبأ بها المبروك قبل وفاته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق