جسر المك نمر-رواية- الفصل السابع

ليس هناك جديد، فالهمسات تخترق أذنيه منذ أن كان يخطو أولى خطواته صعوداً على سلم عتبات الوعي وتحاول عيناه الإمساك بتفاصيل الأشياء في براءة طفل. السارة.. أمه التي أخرجته من رحمها، بالنسبة له روح متلاشية وها هو جالس على حافة النيل ونظره لا يمسك بشيء محدد في الأفق. هذا العالم الذي ينتهي عند حدود الزقاق لا يحفل به كثيراً، يكاد يخنقه.. يضغط على صدره الملوث بأحاديث المحيطين به.
هو لا يعرف سوى هذا الزقاق الذي لم يبرح زواياه إلا عندما بلغ السابعة من عمره حينما قررت الرضية أن تلحقه بالمدرسة الأولية. تطرق أذناه همسات الكبار بإن أمه السارة، أما الأطفال الذين يماثلونه عمراً فكانوا ينادونه بـ"ود السارة".. لم يكن ذلك يعني شيئاً بالنسبة له، وإن كانوا يحاولون إزلاله وإهانته بتلك الكنية لكسر طوق التميز الذي تحيطه به الرضية. كان يكتفي بصدهم بنظرة حادة من حدقات عينيه الخضراوين التي تثير داخلهم الخوف من التمادي أكثر.

هو لا يملك للسارة صورة محددة أو حتى ملامح يهتدي بها لرسم تفاصيلها في ذاكرته ولا تجتاحه عاطفة ما حباً أو كرهاً، وإنما يشعر حيالها بالحياد التام. ربما تستجمع تلافيف ذاكرته بعض تفاصيل تخلُّقه وتشكل خلاياه وهو بعد داخل رحمها، يصارع عوالم من الهدوء والصخب في فضاء لا متناهٍ ينبض بحياة لا يدرك كنهها بعد، كل ذلك يمكنه رؤيته بوضوح تام أو يمكنه تخيله إذا شاء.. سيان، لكنه غير قادر على الإمساك بخطوط وجه أمه السارة، وليس بقادر على استرجاع بعض من رائحتها متى شاء حتى وإن كانت تلك الرائحة عالقة بذهنه.

لم يمهله احتضارها وقتاً كافياً ليستجمع خيوط ذاكرةٍ قادرة على استرجاع تلك اللحظات الخاصة. تلك رحلة اخرى؛ بدأها لحظة انقطاع حبله السري عن جسدها لينفصل مستقلاً بتكوين ذاكرته الخاصة أثناء أولى رحلات بحثه عن ثدييها لتلقمه جرعة من لبنها وتنفث في أنفه رائحتها المميزة التي تخصها وحدها ولا تشبه في عبقها ما حولها، هو ما يجعله يميزها دون النساء الآخريات. لم تمهله أن يملأ صدره بشهيقها وزفيرها وصوت ضربات قلبها، بعد أن كان جزءً من عالمها وهو داخل رحمها لا تفصله تلك المسافة ليضطر للبحث عنها. هكذا ماتت فجأة قبل أن يتمكن من الإمساك بتلك اللحظة الفاصلة التي ستسكن دواخله إلى الأبد، لتتركه في فراغ لن يجد من يملأه طوال مسيرة حياته.

هي أول من رسم ملامح الحياة بالزقاق يوم أن أطلقت صرختها وهي تقذفه خارج رحمها بعد طول عناء ليواجه مصيره. وهي أول من رسم ملامح الموت فيه، يوم أن صعدت روحها قبل أن تغرق في وحل خضرة عينيه كأنما كانت مجرد رسول كتب عليه الموت بمجرد انتهاء مهمته. فرحة أهل الزقاق بولادته، على قلة عددهم في ذلك الوقت، كانت استثنائية لم تعكرها طبيعة خلقه المغايرة التي ما خطرت على بالهم ولا كانوا يتوقعونها. لكن موتها المفاجئ كان الفاجعة التي اجترت كل ملابسات لحظة الميلاد الغريبة تلك وأعدتها سيرتها الأولى. لم يكن هناك غير الرضية لتتصدى لهذه الفاجعة، فالسارة صديقتها منذ أن كانت في البيت الكبير، وهي من أخرجت عبد السيد إلى الحياة رغم صغر  سنها وتجربتها كقابلة، ومثلما نزعت الخوف من صدرها عندما كان عليها إجراء عملية الولادة كان عليها الإمساك بأطراف شجاعتها لتحمل عبد السيد إلى منزلها قبل مواراة جثمان صديقتها الثرى. لم يكن هناك أحد لتستشيره، ولا أحد سيعترض على هذه الخطوة، فمروان غادر بعد أشهر من ولادتها دون أن يترك أثراً خلفه.

حملته الرضية في ذلك اليوم وقد كُتب على دفتر أحواله أن إسمه "عبد السيد مروان الفضل"، لكن ذلك لم يغير من الأمر شيئاً. فبعد أن وضعته السارة طفلاً في تلك اللحظة وعيناه تشعان بذلك الضوء الأخضر الذي ملأ فضاء الغرفة الطينية، لم يبرح مروان الفضل الزقاق، بل ظل يبسط ظل وجوده على الوافدين الجدد غير مكترث لما يطرق أذنيه من حديث حول السارة وثمرة علاقتها السابقة بسيدها المنصور. لكن عندما اشتد وقع الأمر عليه وصار لا يحتمل تلك الهمسات هنا وهناك اختفى فجأة ذات نهار مخلفاً وراءه الكثير من الأقاويل التي تلوكها الألسن خلف الحوائط القصيرة أثناء جلسات النساء وفي أطراف الزقاق حيث يجلس الرجال. البعض يقول إنه اتجه مرة أخرى شمالاً إلى مصر التي زارها وأقام فيها أول مرة وهو بعد صبي بعد اجتياح الدراويش المدينة ومقتل الخواجة، وآخرون يجزمون برؤيته في نواحي الجنوب التي ينتمي بعض منه إليها كما يزعمون، فلا أحد يدري أصوله سوى أنه نشأ في دار المكي وعلاقته بالخواجة. لكنهم متفقون على أنه ليس والد عبد السيد، وأحياناً تتعالى تلك الهمسات متجاوزة حالة الجهر حين يصرخ أحدهم في وجه الطفل "يا إبن الحرام"!!!

"ابن الحرام"؛ لم تعن له الكلمة شيئاً في ذلك الوقت ولا في أي وقت، فقد كان صدر الرضية يحتويه.. يسد الأفق أمام ناظريه وهو يلعب بين ظهرانيها. الرضية كانت أمه وكل حياته في تلك الأثناء، ليس هناك شخص آخر يملأ جزءً من الفراغ الذي بداخله سوى الرضية بروحها الضاحكة وحبها الذي احتواه دون أن يدري له سببا، هكذا وجد نفسه وما هو مقدر له محاط بكل تلك العاطفة. لكن هناك ما ظل يؤرقه في تنقله من صدر لآخر لإرضاعه، وطالما افتقد ذلك الطعم الذي يبث فيه الروح حتى تلاشى بين كثرة المرضعات. تكتفي الرضية أحياناً بأن تسقيه من لبن الماعز أو تخدعه مرات بحلمتي نهديها البكرين، عندما يشتد صراخه ساعات الليل، فهما لم يصيرا ثديين يدرَّان لبناً. لم يراوده ذلك الإحساس باليتم رغم افتقاده لشيء ما لا يدرك كنهه وهو بين أحضانها. كانت تضمه ويدس أنفه بين ثنايا ثوبها كلما اعتراه اضطراب من تلك الحملة التي يشنها عليه الصغار والكبار.

كان عليه البحث عن أبيه منذ أن نطق لسانه بتلك الأحرف الأولى مستجمعا قوة حباله الصوتية لتخرج كما كل الأطفال الرضع حين يهمهمون بتلك الكلمة التي تخرج ثقيلة من بين الشفتين ويتلقفها الآباء فرحين "بابا"، ولكن أباه كان بعيداً جداً. طوال مسيرته لم يجده إلى جواره، ولا حتى في هذه اللحظة التي كان في أمس الحاجة إليه لم يجده. فهو لم يره منذ لحظة صرخته الأولى وإلى أن بلغ مرحلة الفطام. غادر الغرفة بعد انتهاء عملية الولادة دون أن يحمله كما يفعل الآباء لحظة ولادته، يغمره ذلك الضوء الأخضر المنبعث من عيني الطفل الوليد. "كانت السارة تخشى أن تكبر ولا تجد أباً تحبو تحت ظله"، هذا ما قالته له الرضية حين كبر وصار يمتلك رؤية لما حوله. لكن مروان عاد إلى الزقاق فجأة مثلما غادره، بعد إعلان الناعي موت السارة بأكثر من عام. وحتى بعد عودته لم يعره اهتماماً لكنه يراه بين الفينة والأخرى وهو يتعثر في خطواته الأولى محاولاً المشي بين طرقات الزقاق وفي دروب الحياة الوعرة، ووعيه بالكاد يمسك بأطراف صورة ما ليحفظها في الذاكرة الخلفية.

لم يكن أمامه سوى الرضية والزقاق.. زقاق الخواجة، كما صار يطلق عليه، رغم أن الذي أسسه فعلياً هو مروان، بعد أن افتتح متجراً للعابرين من القرى المجاورة إلى سوق المدينة عند ناصية الغرفة التي ورثها من الخواجة، مثلما ورث المركب وكل أشيائه الأخرى بوضع اليد. تلك الغرفة التي قرر الخواجة بناءها بمساعدة صبيه عندما كان يرافقه في رحلاته النهرية لصيد السمك، كانت في بادئ الأمر مجرد سقيفة تقيهما شر حرارة الشمس يقضيان فيها بعض الوقت إذا ما استدعى الأمر بقاءهما هناك حتى منتصف النهار، إلى أن قرر الخواجة بناء غرفة من الطين يحفظ فيها بعض أدوات الصيد والطبخ بدلاً من التنقل بها في مركبه. كانت تلك الغرفة هي أساس البيت الذي انتقل إليه عمران، ولم يكن يتصور أنه سيرسم ملامح بقعة نابضة بالحياة في تلك المنطقة.

عاد مروان إلى متجره وعادت سيرته الأولى بجسده القوي وعلاقاته بمن حوله، مواصلاً تجارته وحياته بين أهل الزقاق كما كان قبل تلك اللحظة الفارقة التي قرر فيها المغادرة. ظن أن الناس من حوله سيتجاهلون تلك السيرة بعد غيابه لأكثر من عام، وكان محقاً في ذلك لولا تلك العيون الخضر التي تذكره بالحقيقة. لذلك تركه لمصيره بعيداً عنه وعن عالمه ولا يربطه به سوى الرضية التي حافظ على علاقته بها متصلة، فهي منذ أن وطأت قدماها الزقاق وقررت البقاء بجوار صديقتها السارة ظلت تحت حمايته، وحتى بعد ان رحلت إلى تلك الدار الصغيرة التي ساهم هو في بنائها لها. كانت تستقوي به لتواصل صمودها في وجه قسوة الحياة بعد وفاة أمها في الضفة الأخرى وصارت يتيمة الأبوين. وهي من اوغر صدره بالزواج من إمرأة أخرى، رشحتها له من خارج الزقاق، بعد مرور سنتين من رحيل صديقتها. 

كان زواجاً دون ضجة، ورغم بلوغه أواخر الخمسينيات من عمره إلا أنه كان لا يزال متمتعاً بصحته وقوة بنيان جسده الطويل الممتلئ. بدت المراسم باهتة سرعان ما مرت دون ان تترك أثراً في ذاكرة الزقاق. انتهت المراسم بتلك الدعوة المحدودة، وعادت الحياة إلى رتباتها سوى تلك الليالي الضاجة بالحيوية التي عاشها مروان في شهوره الأولى مع زوجته الجديدة إلى أن بدأت تنفر منه وهي تتقيأ. تلك الحالة التي ظل يخشى حدوثها لأنها تملأه بهواجس شتى، ليصير عصبياً وتتضاءل تلك الحيوية يوماً بعد آخر فهو لا يرى أمامه غير المنصور بجبروته وصلفه. ظل على عصبيته ونفوره من الآخرين إلى أن رأى ذات صباح من باب متجره الرضية تهرول ناحية داره وهي تحمل حقيبة الولادة المعروفة لديه، ومعها بضعة نسوة يرافقنها. بقي في مكانه، فلا أحد يلاحظ ارتجافه وتوتره تتملكه الرغبة في إثبات قدرته على أن يكون أباً حقيقياً لطفل من صلبه. لم يكن ضغينة للسارة عندما تزوجها وهو عالم بحقيقة الأمر، فقد كان يعشقها بدرجة حجبت عنه كل الحقيقة ثم إنه ما كان يطمع أن ينالها لولا مسار الأحداث ومؤامرة السيدة. 

كل ذلك العشق تحول إلى كراهية، فهو عندما تزوج مرة اخرى لم يكن يبحث عن كرامة ما فقدها في مسيرة حياته على عكس ما حدث له في تلك اللحظة. الرضية الآن سترد إليه كرامته التي انتزعتها منه في ذاك الوقت ويداها اللتان تلوثتا ببعض الدم تخرجان من جوف السارة عبد السيد بتفاصيله الغريبة، ولكن ما الذي سيفعله به وهو الذي يحمل اسمه وتلاحقه ألسنة الجميع بـ"إبن الحرام". كل تلك الهواجس قتلتها زغرودة انطلقت بعد ساعات من غرفة زوجته، فيما هرولت نحوه صبية تحمل إليه البشرى بأن المولود ذكر. لم يترك مجالاً لعقله للتفكير كثيراً حين أطلق عليه اسم "الزاكي".

ولادة الزاكي أعادت ترتيب نواميس الزقاق إلى طبيعتها، لتمضي الحياة في روتينها العادي مع مضي الوقت، ووضعت الحد الفاصل لعلاقة مروان بعبد السيد، تلاشت تلك الأحاسيس التي تراوده من حين لآخر بالشفقة عليه وإنه إبن السارة فكان أحياناً يجزل العطاء للرضية دون سبب وكانت تفهم ما يرمي إليه دون أن تضطره لتفسير ما. هكذا دون اتفاق مكتوب بينهما ظل عبد السيد ينمو بعيداً، وازداد تعلقاً بالرضية وهو يرى الزاكي من حين لآخر في أحضان أبيه تحت تلك السقيفة التي ترمي بظلها أمام متجره.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق