جسر المك نمر-رواية- الفصل السادس

 بدأ زقاق الخواجة يأخذ ملامحه بعيداً عن عمق المدينة وازدحامها، بعد أن كانت فضاءات المكان خالية سوى من ذلك المركب الخشبي الراسي، المرسوم على جدران ذاكرة الناظرة العابرين كمشهد أزلي وهم يعبرون المسافة القليلة بين القرى المجاورة إلى سوق المدينة أو العكس، وقد حملوا حوائجهم مخترقين أفقاً آخر يخصهم بعيداً عن تلك الضجة التي لا تستهويهم كثيراً.

ذاكرة العابرين تضج بمشهد الخواجة المشحون بعشق النيل وصيد السمك، وتعتمر بتلك القبعة التي يرتديها مع الشورت الكاكي ذي الجيوب العريضة، وذلك القميص القصير الأكمام المفتوح الصدر دائماً، يلوحون له من بعيد إذا كان في وسط النيل وعلى مرمى بصرهم، ويقتربون منه إذا صادف وجوده على الشاطئ أثناء عبورهم الصباحي. وظل هو يبادلهم التحايا في ود ظاهر وأحياناً يجود عليهم إذا كان صيده وفيراً، فهو ليس بتاجر وإنما يمكنه قضاء معظم وقته داخل المياه يمارس الصيد.

لا أحد يدري لماذا اختار الخواجة هذا المكان، منطلقاً منه لممارسة عشقه للنيل وللصيد، ولكنه لسان صغير ضحل المياه مكَّنه من الرسو والإبحار دون مشقة تذكر، رغم ذلك لا يبعد المكان كثيراً عن عمق المدينة عندما اختاره، فهو لا يقوى على الذهاب أبعد من ذلك الطرف. وكأنما أراد أن يبذر بذرته ويمضي في حال سبيله، عائداً إلى حيث ينتمي لولا أن عاجلته تلك الرصاصة بغتة وهو يولي ما يحدث ظهره.

هو المسؤول عما حدث بعد ذلك في تلك البقعة النائية بعد أن صارت زقاقاً ثم أصبحت حياً يضج بالحركة والصخب. لا تزال روحه الماجنة تحلق في طرقاته الضيقة، تلك الروح التي خرقت حدود وجودها وتسللت خلسة مثلما فعل بالسيدة. ماؤه الذي دلقه في أحشائها لم يتوقف عن الجريان وتجاوز البيت الكبير في الضفة الأخرى لتبقى البذرة حية تحت الأرض لتنمو وتتكاثر هنا وهناك.

قليلون هم من يدركون الحقيقة.. حقيقة أصل تلك العيون الخضر، ذلك اللون الذي طغى على ضوء الفانوس الباهت حينها. وجميعهم مشتركون في التواطؤ صمتاً، حتى مروان آثر الصمت وهو يدس ما جادت به عليه السيدة من مال في حرز أمين، وينام في أحضان السارة دون أن يؤنبه ضميره أو يثير الأمر في دواخله ما يعكر صفو سكينته وهدوئه. كانت السيدة ترعاه منذ أن كان صبياً يلازم الخواجة في حله وترحاله، وهو صبيها المفضل من بين صبية وكبار سن كانوا يعملون سخرة في دار المكي، مثلهم مثل السارة وبعض الفتيات والنسوة.

لم تدرك السيدة حجم ما ستسفر عنه الأيام عندما غضت الطرف أول مرة عن علاقة إبنها المنصور بالسارة، بل تجاوزت ذلك وهي تقرب السارة إليها أكثر وأكثر إلى أن جعلتها المسئولة عن إعداد الحمام التركي لها في زاوية المنزل الكبير. ففي ذاك اليوم تسللت الرطوبة خلسة لتوخذ مفاصل السيدة بأسنة آلامها ، وظهرها مثقل بتعب الوسائد المترفة، أو هكذا صيرورة الأشياء. الهواء سممته الرطوبة، فالصيف لم يفرض سطوته بعد، وهواء لافح يضرب سطح الماء قبل أن يغادر مبتلاً ليملأ فضاء اليابسة، ورغم تخمته بكثافة الندى، لكنه يهب غامضاً.. لا هو منعش يرد إلى الروح، المختنقة بضيق ما، بعض رواح.. ولا ذلك الغيظ اللافح وكأنما تسبقه رزازات الحصا.

هكذا جاء قرارها، وهي تأمر خادمتها السارة بأن تعد لها الغرفة التركية. إن لجسدها عليها حق بعد كل العناء الذي لاقته طوال الأسبوع الماضي إذ لم تدخر وسعاً في الإشراف على الإعداد لاستقبال حولية المبروك، أكلتها تلك الرغبة وهي بالكاد تحرك جسدها على الفراش لتثبت حالة استيقاظها الأخيرة في ذلك الصباح. لا تذكر آخر مرة زارت فيها الغرفة التركية في مثل هذا الوقت، حتى السارة وهي تتلقى الأمر امتلأت جوانحها دهشة واقفة أمام السيدة فاغرة فاها. فقد اعتادت النساء في البيت الكبير على زيارة تلك الغرفة مساءً، بعد أن تسدل الشمس ستاراً من الظل خلفها قبل أن يغرق الفضاء في جوف الظلمة.

كانت روح السارة وهي بعد صبية يافعة تزداد تمدداً على فراش المنصور، بغنجها وشبقها الذي تملكه تماما ولم يعد يخشى دخولها إليه في مضجعه حتى أثناء النهار. انتبهت السيدة للمساحات التي بدأت تضيق حول إبنها، وهي تلمح صورة سيدة جديدة تكسو مظهر السارة، فلا الحديث عاد بذات النغمة الخاضعة ولا خطواتها على الأرض هي ذات الخطوات المعتادة، بل امتلأت زهواً وثقة وصارت تمشي كما السيدة، وتهز أحياناً أردافها وهي تمر بجوارها.

بدأت السيدة تدارك الأمر ومعالجته بالسرعة الكافية لتجنب نفسها وابنها نتيجة فعلته وغفلتها عنه ظوال تلك الفترة، بعد أن صارت نظرات السارة تبدو أكثر جرأة لا تتناسب ووضعها كخادمة مملوكة لها، ولكنها فوجئت وهي ترى التحولات على جسدها تخبيء شيئاً ما تدركه النساء بخبرتهن. أصابها اضطراب شديد في تلك اللحظة لكنها تمالكت نفسها وهي مستسلمة للسارة التي بدأت تلف جسدها العاري بدثار الدخان قبل جلوسها عليه. تتصاعد أفكارها مع كل حزمة دخان تخرج متسللة عبر ثنايا الدثار، لم تجد في خيالها سوى خادمها عمران، وهي تنسج خيوط وسيلتها للخروج من هذا المأزق بعد أن تيقنت من حمل خادمتها. ليست صدفة أن يحتل عمران مركز تفكيرها الآن، فهي تراقب كل من في بيتها وتعلم كل شاردة وواردة تجري بين جدرانه، مثلها وسيدات كثيرات يتحكمن في بيوتهن ببث العيون واستمالة جميع من يحيط بهن باشعال الغيرة واستغلال الرغبة في التقرب إليها. تعلم جيداً أن نظرات عمران المليئة بالاشتهاء لا تفارق جسد السارة في غدوها ورواحها رغم فارق السن بينهما، فهو الشخص المناسب لتتخلص من ورطتها، ولتشفي غليل شيء في نفسها بدأ يتنامى وهي ترى خادمتها تتحكم في ابنها.

سارعت السيدة في بدء خطتها وشن حربها على غريمتها بإشاعة إعلان خطبة المنصور من إحدى الفتيات في المدينة. كان هذا كافياً لإشعال مواطن الأنثى في تلك الروح التي حلقت بعيداً عن السرب ودعاها للانكفاء داخل نفسها. الصفعة كانت فوق طاقة احتمالها، فهي بعمرها الغض لا تملك سوى تجربتها الأولى مع سيدها الشغوف بها، لكن الارتطام بحقيقة واقعها جعلها تغوص أكثر في أحلامها التي راودتها دون جدوى، فهي مجرد أحلام سيأتي عليها ضوء صباح يوم ما ليبددها.

إنه شيطان الأنثى الذي يدير المعركة الآن، لكنه دائما ما ينتصر للأقوى وهو يستفزه بالأضعف. نجحت السيدة بقوتها وسطوتها في السيطرة على المنصور، في خطوتها الثانية للهجوم على غريمتها دون أن تبدي آثاراً ليديها في المشهد. هي تعلم تفاصيل ابنها منذ أن لعنت اللحظة التي وضعته طفلاً يصرخ بين خوفها من اكتشاف أمر علاقتها العابرة مع الخواجة، واحتضار المبروك الذي تحشرجت روحه أثناء آلام المخاض التي لم تعانيها فيمن قبله. طالبته باستعادة نفسه من حبائل تلك الخادمة وهي تقول له إنها حامل الآن من علاقتها بمروان. كانت تدرك أنه لن يصدقها، ليس هو فقط بل كل ساكني البيت الكبير لن يصدقوها، بعد أن شق صراخ السارة جوف الظلام ذات ليلة من داخل غرفته وبللت دماء بكارتها عضوه. رآها الجميع تتسلل ذلك الفجر ووجهها، رغم الخوف والألم، تضيئه غمرة سعادة تدركها من سالت عسيلتها مراراً من فرط المتعة.

الشك؛ هو أقصى ما استهدفته السيدة من أجل استعادة ابنها من قبضة العشق وتيه دروبه، وتبعد به غريمتها من فراش لا تستحق أن تكون مالكته. زرعت بذرة الشك في مؤخرة عقله وجسده يأبى أن يستسلم ويتجاهل هذا الجحيم. لكن انكفاءة السارة داخل نفسها وعزلتها وعزوفها أججت النار فيه. عندما تندلع تلك النار فإنها تأكل من الأطراف أو تصيب العمق مباشرة، لا يهم ذلك.. لكنها نار الشك التي تبدأ ولا تنتهي أبداً، تظل تنخر أثناء اشتعالها الشديد وفي لحظات تراجعها تبقى مستنفرة تحت رمادها حين يحاول العقل الهرب منها مستجيباً لتوسلات حنين القلب ووجيبه، خاضعا لتلك الحالة الغامضة التي تعتريه وهو في غمرة توهانه.

كان على الوقت أن يتوقف للحظات تسترد فيها السيدة أنفاسها، وهو ما نجحت فيه، أمسكت بقرني الزمن بكل قوتها لتتجمد الصدمة التي أحدثتها بمكرها وسطوتها إلى أقصى حد ممكن قبل أن تبدأ في التلاشي. عليها أن تبدأ خطواتها التالية لإخراج السارة إلى الأبد من حياتها ومحيطها، وهما في ذروة استسلامهما لشلل العقل والروح. 

استدعت السيدة كل مكرها ودهائها لاستدراج مروان داخل حبال شركها الذي نصبته لاكتمال خطتها. رسمت ابتسامة لعوب على وجهها وهي تطرح عليه فكرة الزواج من السارة، وهي تعلم أنها فكرة كثيراً ما راودت خياله. كما تعلم توقه ليكون حراً بعيداً عن كل ما يقيده بالبيت الكبير منذ أن كان مرافقاً للخواجة في صباه. وعدته باعفائه من العمل في المنزل ومساعدته بعد تزويجه من السارة وانتقاله إلى الضفة الأخرى للعمل بعيداً عن البيت الكبير. لا يحتاج الأمر لكبير عناء، ومروان المتيم بالسارة منذ زمن بعيد لا يعنيه إن كانت عشيقة لسيده المنصور، أو حتى حامل منه. تلك القيم لا علاقة لها بقواعده وهو الذي نشأ وترعرع في البيت الكبير ولا يعرف له أصل ولا جذور. أمثاله لا يراودهم حلم أن يجمعهم فراش واحد مع السارة أو مثيلاتها من الصبايا اللائي يتجولن بسراويلهن القصيرة في الأرجاء، ولكن من حقهم أن يتيموا حباً وولها بمن شاؤوا. وها هي أحلامه تقترب خطوات تجاه الضوء وتداعب أشواقه المكبوتة ولطالما ظلت تراوده في دياجير الظلام حين يرى السارة تهرول بين صفا مخدعها ومروة جناح المنصور. داخله لا يحمل ضغينة ولم تتآكل روحه حسداً، وهو الذي تربى خاضعاً لأسياده منذ وعيه بما حوله، لكن قلبه خضع طوعاً لتسوده السارة دون رفيقاتها.

وقع الأمر كالصاعقة على نفس السارة عندما أدركت الخيوط التي نسجتها سيدتها بإحكام، وسدت أمامها وخلفها كل منافذ الهرب من زواجها المرتقب. تقيأت بكل قوتها إلا أن روحها المضطربة لم تخرج، وهي تقف أمام المنصور مشيرة إلى بطنها التي ما زالت عضلاتها مشدودة إلى الداخل فحملها لم يشهر عن نفسه بعد، رغم الأكلان الذي يعبث بحلمتي ثدييها.

لم يكترث المنصور كثيرا لنظرات السارة المليئة بالتوسل، وهي تروي له خطة أمه لتزويجها من مروان بعد اكتشاف حملها، وتصرخ في وجهه ولكن الصوت يخرج ضعيفاً خنوعاً، قائلة "إنه طفلك وليس لمروان علاقة بذلك.. أنت تعلم وأمك تعلم إنه طفلك".

كل ما جرى لم يمنع السيدة من إقامة حفل لزواج السارة من مروان، حفل تشفي فيه غليلها من خادمتها، فبدت في قمة نشوتها ووجهها ينضح سعادة أثناء تمثيلها لدور أم العروس. لكن السارة بنضارتها المنطفئة، انتحت بروحها جانباً رغم العدد القليل من الفتيات والنساء اللائي يحطن بها داخل غرفتها في تلك اللحظات، وصوت المغنية يترامى إليها ولا يثير فيها اللحن ولا الإيقاع الراقص شيئاً يجعل دواخلها تتمايل طرباً. لا.. ليست حزينة هكذا تحاول الغرق في وهم قررت العيش فيه، فالليلة ليلة عرسها ولكن الفرح لا يملؤها بالرغم من وقوف سيدتها إلى جانبها كما وعدتها. كل الأشياء سواء بالنسبة لها الآن، فهي تعرف عمران منذ سنوات، بل كان يتودد إليها أثناء خدمتهما للسيدة في البيت الكبير. نعم كانت دائماً ما تحس بالسعادة لأن كثيرين يحاولون التودد إليها، وهو إحساس تغمره موجة من الغبن في كثير من الأحيان عندما تطفح الحقيقة بدماملها على جلد مشاعرها واضعة الحدود الفاصلة بين كونها خادمة تملكها السيدة منذ نعومة أظفارها، وفتاة تغمرها المتعة والنشوة في أحضان سيدها المنصور.

تلك كانت البداية؛ حين أكمل مروان بناء الغرفة بجوار متجره الصغير الذي كان يستهدف العابرين من تلك المناطق النائية إلى عمق المدينة في الضفة الأخرى. لم تبخل عليه السيدة لينجز كل ذلك في أيام قليلة قبل أن يحيط بنايته بسور ليضع أول بيت بزقاق الخواجة. وسرعان ما بدأت تدب الحياة فيه بعد أن زفت الخادمات السارة إلى بيتها في مركب قطع بهم النهر في نهار تغمره شمس شتاء باهتة وريح خفيف يضرب دفة المركب، كأنه يدفعه للهرب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق