عربة الدعم السريع وحصان التنظير

أمير بابكر عبد الله

مطلع النصف الثاني من القرن الماضي وصل فيدل كاسترو إلى شواطيء بلده كوبا، على متن قارب صغير وبرفقته أكثر من ثمانين ثورياً، ليبدأ رحلة الكفاح المسلح ضد نظام الدكتاتور باتيستا واستمرت لثلاث سنوات إلى أن أنتصرت الثورة الكوبية بقيادته على واحد من أعتى الجيوش المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة. لم ينطلق كاسترو في ثورته من فراغ، بل كان يحمل فكراً نظرياً يستهدي به على أمل أن يحققه تطبيقاً وتنزيلاً بعد انتصاره.

وبعد أن دانت له كوبا وتوج كأطول الرؤساء عمراً على كرسي السلطة في الجمهوريات الحديثة، قال كاسترو واحدة من حكمه التي تتناقض تماماً مع بداياته الثورية وخوضه حرب عصابات عنيفة ضد الجيش الرسمي للبلاد، قال:

"الأفكار لا تحتاج إلى أسلحة"

بعد أيام من إندلاع الحرب العبثية بين الجيش والدعم السريع التي أشعل فتيلها الإسلاميون، ولا يزالون ينفخون كيرها، بدأت لغة جديدة تنطق بها ألسنة قادة ومستشاري الدعم السريع في محاولة لإكساب مواجهاتهم مع الجيش بعداً نظرياً واصطناع منصة فكرية توحي بأن تلك المواجهة وكأنما أصلها هو صراع حول الرؤى والأفكار وأن الدعم السريع ينطلق في مواجهته للجيش على أساسها. وهي محاولة لتطويع ما جرى وإلباسه جلباب الجيوش الثورية والتي يحدثنا التاريخ عن كيفية نشأتها وتطورها ونضالها من أجل مبادئها، بغض النظر عن الاتفاق مع تلك المبادئ أو الاختلاف حولها.

إن عربة الدعم السريع قطعت شوطاً بعيداً منذ تكوينها، وهي محملة بأوزار وخطايا وجرائم لن تجدي معها محاولات التجميل وغسيل طابعها الأصل الذي أنشئت من أجله لإظهارها بالمظهر الثوري المنطلق من ثوابت ومبادئ. فحصان التنظير جاء متأخراً كثيراً ولن يسعفه الوقت ليلحق بالعربة المنطلقة ويصبح أمامها ليجرها إلى ضفة النضال الثوري. ففي الوقت الذي يملأ فيه المستشارون الهواء بأحاديثهم عبر الفضائيات عن نبل مقاصد الدعم السريع وهم يخوضون هذه الحرب نيابة عن الديمقراطية والثورة، ومن سخرية القدر أن هذه دعاوى قادة الجيش أيضاً، تفضحهم أفعال جنودهم على الأرض، التي لا تمت للمبادئ الثورية ولا تنذر بتطلعها للديمقراطية، وهم يمارسون ما جبلوا عليه بطبيعة النشأة والتكوين.

من منا لا يعرف كيف نشأت وتكونت قوات الدعم السريع، وكيف صعد حميدتي من مجرد مغامر صغير يجوب فلوات غرب السودان إلى ليبيا إلى أن صار نائباً لرئيس مجلس السيادة؟ كلنا يعلم بأن نظام الإسلاميين بقيادة البشير هو من صنع حميدتي لعباً على تناقضات القبلية التي أحيوا سنتها طمعاً في استمرارهم في الحكم، وشرعن وجودها الموازي للجيش وترك لها الحبل على الغارب لمحاربة الحركات المسلحة في دارفور. وكلنا يعلم أن رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش البرهان بعد أبريل 2019 هو من زادها تمكيناً "وهي الخارجة من رحم الجيش" أو كما قال.

منذ إنشائها وتكوينها لم تخرج قوات الدعم السريع على طبيعة المهام الموكلة إليها، ابتداء من الجرائم المرتكبة في دارفور وانتهاء بما يجري اليوم في شوارع العاصمة الخرطوم وولايات دارفور وكردفان. ففي الوقت الذي كانت مهامها متسقة تماماً مع طبيعة حكم الإسلاميين برئاسة البشير ورؤاهم، وهي التي أنشئت لدعم الجيش في مواجهة الحركات المسلحة وقتها.

عند ظهور ملامح نجاح الثورة وانتصارها على آلة القمع الإسلامية وسط دهشة قائدها حميدتي بقوة السلمية وقدرتها على تحييد أعتى الأسلحة، أحنت ظهرها، مثلما أحنى الإسلاميون وأنصارهم في الجيش ظهرهم لريح الثورة العاتية وقتها في انتظار الفرصة المواتية للانقضاض عليها. وجاءت مجرزة اعتصام القيادة العامة على صحة المثل القائل "من ترك عادته قلت سعادته"، أوصد الجيش بواباته أمام المعتصمين وهو يشاهد كيف تنهش عصابات الإسلاميين وقوات الجنجويد أجساد الثوار. ثم جاء إنقلاب 25 أكتوبر 2021 ليعيد الجيش والدعم لتجديد نذور العلاقة المتينة بين الإثنين.

لا يجب إلقاء اللوم على الجنود المنتشرين في الشوارع، ومثلما لا يجب إلقاء اللوم على جندي المؤسسة العسكرية أو الشرطية أو الأمنية الذي يواجه الاحتجاجات السلمية بالرصاص ويعتقل ويعذب ويقتل المتظاهرين السلميين، وإنما تساءل في هذا المؤسسة التي يخضع لها، والنظام السياسي الذي شرعن له تلك الصلاحيات. ذلك ينطبق على جندي الدعم السريع الذي شرعت له مؤسسته، سواء أطلقنا عليها مليشيا أو قوة خارجة من رحم القوات المسلحة، كل الأفعال التي يقوم بها الآن ونستنكرها سواء قتل أو نهب أو اغتصاب.

في مقدمة ما كتبته، ولأن الثورة الكوبية كانت مدركة لآهدافها وتعمل وفق مبادئ صارمة، وأن رصيدها هو الجماهير من الفلاحين والعمال وحتى جنود الجيش، فمنذ انطلاقتها كان نظامها الداخلي صارماً جداً تجاه هذه القوى التي تعتبرها حاضنتها الاجتماعية وسندها الشعبي، فلم تكن تتسامح مع أي تجاوزات للأعراف والتقاليد ولا للقيم الاجتماعية.

هذا طبعا عندما يكون حصان التنظير والأفكار في موضعه الصحيح أمام العربة، وليس محاولة للحاق بالعربة التي كبرت وزادت حمولتها من المخازي والانتهاكات. لذلك ستظل قوات الدعم السريع هي قوات الدعم السريع في المخيلة السودانية سواء في دارفور أو في الخرطوم أو في أي بقعة من السودان.

يكمن الحل في إيقاف هذه الحرب اللعينة وفوراً، وإيقافها يتطلب إنجاز السودانيين لمشروع وطني واضح المعالم والأهداف، مشروع قادر على إحداث مصالحة وطنية شاملة، وقائم على إعادة تأسيس الدولة السودانية ويمتلك أدوات إدارة كل تناقضاتها لتصب في مصلحة الوحدة. ويتضمن المشروع برامج إصلاح شاملة لكل مؤسسات الدولة وعلى رأسها القوات المسلحة السودانية الموحدة والقوانين التي تحكمها، ومن أولى واجباتها هو الدفاع وحماية هذا المشروع الوطني، والإستفادة القصوى من قدرات قوات الدعم السريع بدمجهم في وحدات الجيش المختلفة وفق خطة وبرتكول واضح، وتفرغها لمهامها التي يحددها المشروع الوطني والدستور.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق