جسر المك نمر-رواية-الفصل 13

 من يشاهد عبد السيد بعد كل تلك السنوات في موقع محايد، تصيب معاقل الدهشة فيه شظية من الرغبة في الهتاف إعجاباً، بينما تلك العرجة التي بدت مؤخراً بائنة خفيفا في قدمه اليسرى والمتسقة مع الشيب الرمادي الذي صبغ معظم شعره واللحية المشذبة المحيطة بوجهه ، تضفي عليه شعوراً مُعذّباً من تأنيب الضمير كمًّن تسببت فيها، تجعله يتنحي جانباً ليسمح له بالمرور ويشدُّه صدره إلى الأمام في إنحناءة تنم عن تقدير واحترام ظاهرين. لكن يظل لون إنسان عينيه الأخضر مصدر تساؤل مستمر دون إجابة قاطعة سوى همس متسرب سرعان ما تنسد منافذه بلا سبب واضح. وهو ما جعل الصحف تطلق عليه إسم الأخضر في كل حدث مرتبط به بعد ان سطع نجمه في عوالم متعددة.

هكذا تبدو صورته بعيداً عن البيت الأخضر، والذي مارس ضغوطاً شديدة على مالكه الشيخ لشرائه قبل سنوات. وكان لا بد للبيت الأخضر أن يتغير مع بوادر الهجمة الشرسة التي انطلقت من عدة منابر وحركت الأرض تحت الأقدام لينتصب العسكر الحاكمين في القصر وقوفاً. أطاحت تلك الموجة بالكثيرين خارج دوائر التأثير، انزوى بعضهم مكتفياً بما حصده وانطلق آخرون يبحثون عن مواطئ قدم في مستقبل بدأت ملامحه تلوح في الأفق. 

لم ينتظر عبد السيد استفحال تلك التحولات إلى حين وصولها إلى باب منزله، ويفقد تحكمه في كل الخيوط. فهو منذ تلقيه البشارة بولادة ليلى لطفلها بعد سنوات من الانتظار، رسم خطَّاً مغايراً لحياته لا يفقد فيه قديمه الذي أسسه ولا يضيع في لجة الجديد الذي لاحت بشائره طال الزمن أم قصر. سيضبط إيقاع الآتي مثلما فعل بالماضي والحاضر، فسِرّ الحياة بالنسبة له هو الشهوة، هي جوهر الروح ومركز التفكير والدافع إلى العمل ، كلما عليه هو النفاذ إلى قلوب وعقول الناس من هذه الزاوية، أن يجعلهم في حالة اشتهاء دائم والحيلولة دون بلوغهم مرحلة الذروة. يقول دائماً "إن بلغوا الذروة وأشبعوا شهوتهم، حينها سيستديرون ليمنحوك ظهرهم". 

البشارة التي تلقَّاها ليست ككل البشارات؛ فالمولود جاء كما هو مكتوب في لوح حلمه، طفلاً أخضر العينين مثله. لكنه وُلد في منتصف النهار داخل جناح خاص في المستشفى الحكومي، لا مثل ما وُلد هو في الزقاق في ذلك الوقت الغريب حين فاجأ أمه السارة المخاض في ليلة لا تشبه ليالي الشتاء، ليولد هو أثناء تلك الفجوة من الزمن الباهت الذي لا ينتمي إلى الليل ولا إلى النهار. انزاحت كتلة قسوة الوحدة الجاثمة على صدره منذ طفولته منفتحاً على شعور باللّين والبراءة التي افتقدها أثناء طفولته. تعلقت بأطراف سعادته أمنية ظلت تراوده "إن كان قد جاء من صلبه لا من صلب الزاكي"، لكنه طردها سريعاً قبل تسربها في أعماقه وتستحيل هاجساً يشوش عليه ذبذبات الفرحة التي لم يعشها من قبل.

ليس كل دمه كذب بارد، ففيه شيء من قبس نوراني شفيف ورثه من ظهر أجداده لجدته السيدة، ممزوج بدفء وحرارة دم أمه السارة، يفتح له مسالك للباطن تأخذه إلى مدارج تتجلى فيها عوالم أخرى فيبدو مغايراً لذاته المصبوغة بلون عينيه. هي لحظات ترشده وتضيء له جوانب ما كان ليراها في عتمة الروح ولا خلال سطوع العقل، إنها البصيرة لا البصر ما يقوده ثم يختفي كل ذلك في ثوانٍ ليطغى نور عينيه. 

"ميلاد عبد السيد آخر وطَّن لدمٍ لن ينقطع تدفقه في المنظور القريب"، قالها وهو في طريقه إلى منزل الزاكي وليلى الذي لم يطأه منذ وقت طويل، قبل أن يطل على أسوار البيت الكبير الذي يختبئ فيه المنصور ود المكي منذ حفل الزواج. وجد نفسه وسط حشد من المهنئين داخل باحة المنزل ما أن اجتاز المدخل وخلفه عدد من العاملين يجرون عجلاً وعدد من الخراف. نادى على الزاكي بإحضار الطفل قبل أن يأمر بذبح العجل على عتبة المدخل. لم يلتفت إلى تلك النظرات التي أحاطت به متسائلة عن سر غيابه الطويل الذي امتد منذ يوم الزواج وإلى هذا اليوم. حمل المولود بين يديه ووجه مشرق بسعادة تضاهي فرحة والديه، وما أن نظر إلى عيني الطفل الخضراوين حتى أطلق عليه أسم عبد السيد، قائلاً:

- هو عبد السيد الزاكي، أنا سميته عبد السيد.

ثم أرجع البصر كرتين وثلاث إلى عيني الطفل، نافذاً إلى فضاءات جديدة وعهد جديد يزداد فيه عمق الحقيقة المدفونة ويذوب السر الأعظم في غيابت الجب. اطمأن الآن فقط إلى أن الجيل الثالث سيستلم الراية بدون تلك التشوهات التي تثير علامات الاستفهام في أصله، وستمضي مسيرة الدم بقرابينها في مهمتها المقدسة سالكة كل الدروب.

خرج عبد السيد ذاك اليوم وهو أكثر ثقة في المستقبل، لا تهزه تلك التحولات التي ضربت بأطنابها في المشهد العام. اتجه إلى البيت الأخضر مملوء بالعزيمة في اتخاذ مسار جديد يتلاءم مع التطورات الجارية، فعقله قادر على رؤية ما سيحدث في مقبل الأيام. قرر إغلاق أبواب البيت الأخضر في وجه مرتاديه بحجة أعمال الصيانة التي يحتاجها، لن يعجزوا عن إيجاد البديل قريباً، وهو معهم ، سيعثرون على مكان آخر بعيداً عنه يمارسون فيه عاداتهم العلنية والسرية. أغلق تلك الأبواب واخترق بوابات أخرى حاملاً ذات المفاتيح، فالشهوة عنده هي الوصفة السحرية الممسك بتركيبتها تحت كل الظروف وفي مختلف الحالات. 

ليس عليه سوى تغيير سيرته إلى أخرى قابلة للتكيف مع كل ما يحيط به من متغيرات ، فكان اول ما فعله الذهاب بعد سنوات إلى أصدقائه في القصر طالباً التصديق له بقطعة أرض جوار منزله لإنشاء مسجد عليها، لم يكترث كثيراً لضحكات التهكم والسخرية التي توقعها ، فما زالت صِلاته مستمرة وقوية بكل الأطراف، حتى من دخلوا القصر حديثاً في خضم التحولات الكبرى بلحاهم وعلامات التقوى الظاهرة على جباههم كثيرون منهم يعلم أسرارهم ولا زال الأقرب إلى صناع القرار، يأتي لكل منهم من بوابة رغائب شهوته. قبلها كان قد أطلق لحيته قليلاً وكان قد تسلل إليها الشيب، وزادته خضرة عينيه وقاراً وجاذبية، فهما صالحتان لكل زمان ومكان بهما قدرة على التأثير في دائرة محيطهما لا تقاوم ، يسقط فيها كل من يقترب منها بلا وعي. ليس ذلك بالغريب عليه، فجزء من روحه معلق بأجداده هنا وفيهم الطيبون والمخادعون والمدلسون، أما بقية روحه التي تبدو هائمة، الجزء الأكبر منها، يمسك بتلابيبها الخواجة. لم يجد صعوبة في الحصول على قطع الأرض، ولا يحتاج لتمويلها فما اكتنزه من أموال من على ظهر البيت الأخضر يكفيه لبناء مدينة كاملة دون أن يظهر عليه ذلك الثراء الفاحش. آثر ممارسة لعبته التي يجيدها وهي الوساطة، ففتح حساباً في إحدى البنوك الحديثة العهد باسم المسجد، وجعلهم يدفعون قيمة بنائه دون ان يخسر شيئاً، بل تكسب اكثر من الإعفاءات المشروعة في مثل هذه الحالات، فكثيرون اغتنوا أو زادوا غنىً من وراء بناء المساجد ، فهو رزق ساقه الله إليهم.

بعد عدة أشهر ارتفعت أعمدة بناء مسجد عبد السيد وغطى الغبار اللافتة الدالة على المشروع وطبيعته. تواصل البناء في المسجد لسنوات في وقت تنجز فيه الأشياء دون عناء كبير، لكن عبد السيد أراد إعادة بناء نفسه للتأهل للعب الدور القادم وإجادته قبل أن يبدأ الناس بالصلاة فيه عند افتتاحه. إشاعة قدر أكبر من الحديث عن المشروع أهم بالنسبة له من انجازه في وقت مبكر، فذلك يرسخ شكله الجديد بلحيته التي بدأ في تشذيبها لتتواءم مع العصر، ويبتز أولئك الشيوخ ذوي اللحي الكثيفة. كان يبتزهم لصرف أموالهم في أعمال خيرية بعد أن أطلق يده التي ظلت مكفوفة طوال السنين الماضية ، سوى تلك الأموال التي يرسلها سراً إلى الرضية وما كان ينفقه على الزاكي. 

زلزال التحولات الكبرى لم يهدأ، وإنما تسارعت وتيرته فاهتزت له كل الأرض، إلاّ الأرض التي قفز إليها عبد السيد دون إثارة ضجيج. هي عادته يتسرب إلى عمق الأشياء ويتوغل داخلها ممسكاً بمفاصلها، تقوده تلك الحاسة الساكنة في برزخ بين العقل والقلب إلى غاياته دون كبير عناء. وإن اختلفت ظواهر الشهوة فباطنها واحد بالنسبة له، وهو سليل أرواح يتجلى فيها الظاهر والباطن. فبعد سنوات من إغلاقه البيت الأخضر ضاق القصر على ساكنيه بما رحب مع تصاعد الاحتجاجات واشتداد إوار الحرب الداخلية بعد اندلاع شرارتها من جديد ولم يضل طريقه للاستثمار فيها. انهار كرسي الحاكم دون أن يتضعضع كرسي الحكم، وبقيت جدران القصر الأبيض في قوتها تقاوم تغيير ما بداخلها وإن تغير ما يحيط بها. ذات ما فعله عبد السيد بنفسه، فمنذ تلك النظرة التي احتوى فيها تفاصيل عبد السيد الصغير اجتاحته حمى التغيير، وبدأ يعده للمرحلة المقبلة فاحتواه منذ صغره ، خاصة بعد انجاب الزاكي وليلى لأكثر من طفل بعده. رغم تمنع الزاكي واعتراضاته المتكررة إلا أن عدم انجاب عبد السيد لطفل من زوجته جعله يرضخ في النهاية للامر الواقع. 

لم ينتظر طويلاً لتبدأ المرحلة التي هيأ نفسه لاستقبالها منذ وقت طويل بتلك اللحية المشذبة والمسجد الذي اكتمل بنائه ومسحة الورع التي كست وجهه. إنها من مستلزمات العهد الجديد الذي استيقظ الجميع على وقع مارشاته العسكرية مرة أخرى، ولكن تسبقها هذه المرة تلك الأناشيد المعطونة حروفها بالدماء. صارت الخمر هي الدماء ولعب الورق والمقامرة أضحت تمارس في مضاربات السوق والجنس لا غبار عليه بأوراق رسمية أو بدونها لكن الستر واجب، إنها الشهوة في قوارير جديدة. وهي لعبته التي يجيد ممارستها ولو في عباءات جديدة.

أول ما فكر فيه بعد افتتاح مسجد عبد السيد مع انطلاقة العهد الجديد، وجلوسه في الصف الأول بجوار الإمام دون أن يزاحمه، هو كيف يعيد للبيت الأخضر الذي ظل مغلقاً في تلك الفترة الضبابية لوقت طويل، زخمه وبريقه وألقه. في الماضي كانت الأشياء تمارس في العلن تحت سمع وبصر الجميع ، ومن يمارسونها سراً في السابق هم الآن الحاكمون ، يعرفهم جيداً ويعلم كيف يفكرون، وقد صار أقرب إليهم من حبل الوريد فهو إله الشهوة بالنسبة لهم. كان افتتاح البيت الأخضر، الذي أحيط بسياج خارجي من السلك الشائك ، حدثاً كبيراً لكنه سرياً بعد أن خصصه، تبرعاً منه، كمقر خاص للجهاز السري وأصبح من من كبار مستشاريه. تستهويه الأمورالسرية وأن يظل بعيداً عن الأضواء في دائرة الظل دوماً، هذا ما يجعله يتحكم في خيوط اللعبة بعيداً عن دوائر الهمس والجهر. صارت حفلات الشواء آدمية والخمر أصبحت تلك الدماء التي تسيل بين لحظة وأخرى والنساء يأتين لممارسة الجنس والتجسس، والصفقات تعقد تحت تهديد السلاح والدولة تهرب مواردها عبر القنوات الرسمية والمؤامرات تحبك وخطط استمرار الحرب ترسم، وما زال الكل ضد الكل. إنها روح البيت الخضر التي لا تموت ، فمكامن الشهوة واحدة.

انطلق عبد السيد من مركزه الجديد في البيت الأخضر يمارس صفقاته عبر الوساطة التي أتقن فنونها دون الحاجة لتأسيس مكتب أو شركة رسمية، ما زال يمارس كل عمله بعيداً عن الرقابة والإلتزامات الرسمية والمكتبية، عبر الهاتف وسياراته التي تعددت، لكنه أصبح شريكاً في العديد من الشركات في الداخل والخارج بشرائه أسهما فيها. وبدأ يؤسس باسم عبد السيد الصغير شركته الخاصة بعدما نجح في اجتياز امتحانات الدخول للجامعة ، كغطاء ليمارس فيه أعماله؛ فتلك الحالة لا تدوم، يرى ذلك ويلمسه في جلوسه على كومة تلك المعلومات الواردة إلى البيت الخضر كل لحظة. اللعبة القادمة تتطلب منه أن يقرب إليه إبن اخته أكثر ليدخله في دارته الخاصة ليستمر الدور الذي ظل يلعبه منذ عقود. هو مدرك أنه مع مرور السنوات ماضٍ إلى نهايته لا محالة، لكن المهمة المقدسة التي حمل عبء مسؤوليتها لا بد أن تستمر دون توقف وفي ظل كل الظروف والتحولات التي يمكن أن تحدث. عليه إعداد هذا الشاب منذ الآن لتحمل الأعباء القادمة، فهو رغم قوته الآن وجبروته إلا أن ماء الحياة بدأ في التراجع، فأطرافها يغشاه بعض من التيبس وتوخزه تلك اللسعات الكهربائية بين الحين والآخر لتصيبه بألم ممض في بعض المفاصل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق