جسر المك نمر-رواية- الفصل 14

عدت من الزقاق هذه المرة مشوشاً تتجاذبني الهواجس والشكوك. لم يعد الزقاق كما كان قبل نصف قرن من الزمان، تغييرات كثيرة طالته، خاصة عندما حاولت السلطات إعادة تخطيط المدينة بعد أن صار في منتصفها بفعل تمدد العمران وانتشار العديد من الأحياء السكنية حوله. لكنه ظل كما هو زقاق تمتد على جانبيه ذات المنازل الستة عشر وإن كان شكلها قد تغير عما كانت عليه وتفرعت عنه عدة ازقة مجاورة ، فبعد بيوت الطين القصيرة أطلت على الزقاق بيوت اسمنتية بعضها تسامق عدة طوابق. كل ما استطاعت السلطات أن تفعله ، بعد استحالة عملها في طرقاته الداخلية، هو الشارع الأسفلتي الذي استقطعته من الجرف على الشريط النيلي من الناحية الشرقية للزقاق، وكذلك الشارع الواقع غربه حيث استثمر أصحاب البيوت المطلة عليه ذلك الوضع، بعد توسعة الشارع ، ليفتتحوا محال تجارية أصبحت مركزا ضخماً للعديد من الخدمات.

خرجت من بيت الرضية ذاك اليوم دون أن أشفي غليل رغبتي في المعرفة، هي المرة الأخيرة التي أراها فيها بعد عدة زيارات لأقف على حقيقة الأشياء الدائرة من حولي. الغموض يكتنف كل شيء، لا أجد إجابات واضحة تكشف ما وراءه، وعمي عبد السيد اكتفى بإرشادي إلى الرضية التي دفنت ما تعرفه بين طيات تجاعيد وجهها التي تخفيها تلك النضارة التي لم تمت بفعل الزمن. جدي المنصور ود المكي تائه في غيبوبته ومنعزل داخل ركنه الخاص في البيت الكبير لا يخرج على الناس منذ سنوات، لم أره منذ ولادتي ولا أعرف عنه شيئاً. 

غارق أنا في حيرتي، أقلب أوراق الملف الخاص بمشروع جسر المك نمر وقد اكتملت تقارير التسليم النهائي للمشروع، في انتظار عمي عبد السيد للاطلاع عليه قبل إرساله إلى المقاول الرئيسي لمشروع الجسر في تركيا. انتفضت منتبهاً للمفارقة الغريبة في أن تشيِّد شركة تركية جسراً للمك نمر، وانفتحت ذاكرتي على تلك اللحظة التي كنت فيها تلميذا بالمدرسة. أطلت برأسها دروس التاريخ عندما أرسل الأتراك العثمانيون إسماعيل باشا لغزو البلاد قبل قرابة القرنين، لم تكن الامبراطورية في أحسن أحوالها وقد تفشت في عمقها وأطرافها مختلف أشكال الفساد، وتحكمت في مفاصلها نزعات إشباع الشهوات. جاء إسماعيل باشا بكل صلف وغرور الغزاة داخلاً إلى البلاد من الشمال، يتقدمه جنده المسلحون بالعتاد ويحملون المؤن والذخائر ويحلمون بإقامة طيبة مريحة بعد أن يبسطوا سيطرتهم على كل الأراضي التي غزوها. 

ولا زالت تلك التفاصيل التي ترويها حكايات التاريخ دائرة في ذهني كلما ذهبت للوقوف على سير العمل في الجسر، فما درسناه في الكتب المدرسية وبعض كتب التاريخ تقول إن إسماعيل باشا، الذي كان قائداً لحملة الأتراك العثمانيين لغزو السودان، استطاع إخضاع كل المناطق التي مر عليها شمالاً إلى أن وصل إلى مشارف مدينة شندي في الوسط، لكن المك نمر رفض أن يبايعه بل تجاوز ذلك بان ثار ضده هو ورجاله وهاجموا قواته.

بعد أن علم إسماعيل باشا بما حدث جرد حملة عسكرية قادها بنفسه إلى مدينة شندي معقل الجعليين وأمر المك نمر بالمثول أمامه، وعمل على استفزازه بكل السبل أمام كبار القوم من قبيلته، وأمر بمعاقبته بدفع غرامة فادحة عبارة عن أوزان من الذهب وآلاف العبيد من الذكور والإناث، لكن المك نمر لم يرضخ لهذه الأوامر، ورفضها في البداية، وأوشك أن يرفع السيف في وجه إسماعيل، إلا أنه في النهاية تحت ضغط إسماعيل وجيشه أظهر المك نمر طاعته والرضوخ لإسماعيل باشا. وعمل على حيلة ماكرة ينتقم بها من هذا المتعجرف ويعيد هيبته أمام قومه. أعد المك نمر العدة لتنظيم حفل عشاء ضخم في داره ودعا الباشا لتشريفه ومعه حاشيته. اُعدت الولائم في الوقت الذي أمر فيه المك جنوده بجمع الحطب والتبن والقش حول القصر بحجة تحضير العلف لخيل الباشا، بينما الضيوف يأكلون ويشربون ويتسامرون في نشوة ولا يدرون بأن ثمة مؤامرة تحاك ضدهم.

عندما انتهاء الباشا ورجاله من الطعام وكانوا قد أكثروا من الشرب وأخذوا يتأهبون للعودة الى معسكرهم، اشتعلت النيران من كل جانب وأحاطت بهم، وحاصرتهم فلم يستطيعوا الإفلات من هذا الحصار وجنود المك نمر يرمونهم بالنبال والسهام من كل ناحية. فسدت المسالك في وجوههم حتى ماتوا عن آخرهم، ولم يستطع الجند نجدتهم إذ كانوا في معسكرهم بعيدين عن مكان المأساة، ولما وقعت الكارثة انقض عليهم رجال الملك نمر ففتكوا بهم، ولم ينج منهم إلا من هرب منهم.

وضعت الملف أمامي وعلى غلافه الخارجي مكتوب "الشركة التركية للمقاولات" في أعلى الملف وأسفله "عبد السيد للمقاولات"، وتحتها مباشرة "مشروع جسر المك نمر"، وفي ذهني كل تفاصيل تلك الحادثة. حاولت الإجابة على السؤال الذي علق في ذهني للوصول لتفسير لهذا التناقض اللافت، لكن اجتياز عمي لبوابة الشركة ودخوله إلى مكتبي أحال ذلك إلى وقت آخر أو ربما أجد بعض الإجابة عنده، فهو بعلاقاته ومساهمته في الشركة التركية أرسى عطاء المقاولة لها قبل إعلانه في الصحف اليومية. ودفع بشركة عبد السيد للمقاولات في أول مشاريعها كإحدى شركات المقاولة بالباطن، هكذا تدار الأمور فلا أحد يسأل او يتساءل أو يساءل. 

سألني عن التقرير النهائي وتفاصيله دون أن يلقي عليه نظرة وقبل أكتمال حديثنا رن هاتفه المحمول. تصلبت عضلات وجهه، وخفت بريق عينيه الخضراوين اللامعتين للحظات، إنطفأ شيء ما داخلهما، قبل عودتهما إلى تألقهما الطبيعي، وكأني رأيت شيئاً من محاولة دمعة عنيدة تأبى الخروج ونجحت في تمسكها بمنبعها متراجعة.

قال لي في صوت مليء برنة تكسوها مسحة حزن لم أعهدها فيه من قبل:

- توفي جدك المنصور ود المكي بالمستشفى الآن.

ارتبكت دواخلي للنبأ، وسرت رعشة جعلت جسدي يرتعد من فكرة الموت نفسها. لست ادري إن كان للحزن علاقة بذلك، ولكني لم أعرف جدي المنصور ولم أزر الببيت الكبير منذ ولادتي ولا أعلم ما بداخله، أراه وأنا عابر الطريق إلى منزلنا الذي يطل عليه. يقولون أن خالاتي جميلات لكنهن مصابات بداء جعلهن حبيسات الأسوار، لا يختلطن بالآخرين.

لم أعلم أن عمي دخل البيت الكبير للمرة الأولى قبل عدة أشهر، بعد أن علم بتدهور حالة أبيه المنصور الصحية إلى درجة أثارت في نفسه الشفقة عليه. تذكر نظرات التوسل التي أحاطه بها في يوم زواج ليلى والزاكي، تلك النظرة التي نفذت إلى دواخله فرق قلبه مذ ذاك اليوم دون أن يقترب منه أو يزوره ولا حتى راودته رغبة في ذلك، رغم أن تلك النظرة أزالت كل ما في نفسه وغسلت كل ما تراكم في صدره منذ طفولته.

لم يتوان في اتخاذ قرار فوري بأخذه إلى إحدى المستشفيات الخاصة في وسط البلد يمتلكه ويديره أحد أفراد شلته المقربين، ولم يحتج حتى ليتكفل بكل مصروفات العناية الطبية الفائقة لشيخ في أواخر أيام عمره، بعد أن تركه تحت العناية المباشرة لصديقه دون أن يفصح له عن علاقته بالمريض. ظل يتابع حالته بالهاتف دون ان يخبر أحداً ولا حتى ليلى إبنته أو أنا حفيده. مات المنصور ود المكي بعد ثلاثة أشهر من بقائه تحت العناية في المستشفى دون أن يعلم أحد بوجوده هناك سواه.

اكتشف الأطباء أنه فاقد للذاكرة معظم وقته، وتنتابه حالات جنون فيصبح عصبياً وخطراً بسبب إصابته بداء الزهري المزمن منذ سنوات وأهمل علاجه بل لم يعرض نفسه على طبيب أصلاً، وكان داء الزهري قد أصابه في إحدى غزواته الجنسية قبل أن يتهالك جسده ويعتزل الناس وانقطاعه عنهم في البيت الكبير. بعد وفاة السيدة لم يجد من يعتني به، العاملون يخشون نوباته العصبية التي تأتي هكذا فجأة دون سابق إنذار، وزوجته هجرته واتخذت لها ركناً قصياً منذ حادثة سعدية أزرق التي أحدثت داخلها شرخاً لم يندمل كما أن الداء انتقل إليها في وقت لاحق، والبنات لا حيلة لهن بعد أن بدأت تظهر عليهن بوادر العصبية والجنون.

تحركنا انا وعمي في صمت إلى المستشفى، بعد إجرائه عدة اتصالات، لإكمال إجراءات استلام الجثمان ونقله إلى البيت الكبير لغسله هناك ومن ثم دفنه بجوار الشيخ المبروك والمكي والسيدة والمنصور. جمع غفير كان في انتظار مرافقة الجثمان لا أدري من أين جاءوا، ولا ما هي علاقتهم بالمنصور، فشككت أن ذلك ربما لعلاقتهم بعمي هو ما جعلهم يقفون اليوم في هذا المقام. اتصلت بأبي وامي اللذان وصلا لاحقاً. ومن ثم انطلق موكب مهيب صامت يتقدمه الجثمان في عربة نصف نقل وخلفه عربة عمي وأنا بجواره. اتجهت بنا مسيرة الموت عبر شارع المك نمر لعبور جسر المك نمر إلى الضفة الأخرى حيث البيت الكبير، في مشهد استوقف المارة العابرين سيراً على أقدامهم والمركبات في اتجاهات سيرها المختلفة. 

استغرقت متأملاً في مقعدي بجوار عمي وأنا استعيد تفاصيل حلمي الذي رأيته، ورويته له قبل سنوات. عندما رأيت المك نمر واسماعيل باشا يبتسمان، وفي لحظة أخرى متصلة، حواجبهما معقودةٌ غضباً وهما يلمحاني سائراً بخطوات واثقة على جسر المك نمر، والأعلام التركية الصغيرة الحجم ترفرف على جنباته وكأني أطأ قبريهما بأرجلي أو يستفزهما ذلك النسيم العليل الذي يهب من كل جوانب الجسر.

راودني ذات الإحساس لكنها ليست ذات تفاصيل الحلم الأول، فهذه المرة كنت ممسكاً بميقات حلمي، بل أرى وأنا في كامل يقظتي مستسلماً لحالة جعلتني أشبه بالتائه في طرقات لا أول ولا آخر لها. إنه الفجر الآن.. لا ليس بالفجر بل هو ميقات غريب يحكم فيه الظلام قبضته ويرخيها فيصبح الأفق شفافاً يمكنني من النفاذ إلى رؤية الأشياء من خلفه. لكنني ، مثلما كان إحساسي في الحلم الأول، لا زلت أشعر بالهواء العليل ، الذي يهب من الشرق، يحمل بين طياته تلك الرائحة النفاذة للاسفلت الحديث ودهان الحاجز الحديدي الذي أسير بمحاذاته في حذر لتخترق أنفي وأنا مستسلم لها، متوجساً من تلك الابتسامات والحواجب المعقودة التي لا تكاد تستقر على حال. واصلت سيري بذات الحذر محاولاً عدم إثارة اهتمامهما قدر الإمكان.

الغريب في الذي أراه في حلم يقظتي الآن أن الجنود الذين احتشدوا في أطراف الجسر ليسو نحاسيو البشرة ولا يرتدون قبعات أقرب للون الأرض ، كما كان في الحلم السابق، بل سود البشرة مثلي تماماً، نعم هم نفسهم من رافقتهم في رحلات الجهاد التي كانت تنظمها الجمعية التي يترأس مجلس إدارتها عمي،  للقتال في أحراش الجنوب، بل أرى بعض ممن عرفتهم بزيهم الأخضر الباهت ولا تزال عالقة بأطراف ملابسهم الأوحال. كان الانخراط في تلك الحملات أيام الجامعة يمثل جواز مرور لكثير من العقبات التي كانت تعترض الطلاب، وكنت واحد منهم بعد أن انتظمت في حلقات دراسية في مسجد عمي عبد السيد، وكنت معروفاً بين قادتهم. ولكن بقي صوت الرصاص والانفجارات يغطي على مشهد حلمي الآن أيضاً، فالحرب هي الحرب.. عليها أن تغرقنا في الفوضى مثلما تفعل دائما وأن تظهر أسوأ ما في داخلنا عندما نخوضها. وذات مشهد الدم المتناثر هنا وهناك، يغطي برائحته على رائحة المياه الهائجة الممزوجة بالطمي الجارية أسفل الجسر وتكاد تقترب من حواف أطرافه.

وسط كل ذلك لا زالت صورة المك نمر واسماعيل باشا محلقتان فوق الجسر ونظراتهما تصيران اكثراستفزازاً، يحاولان الخروج من إطارهما وكأنهما يتأهبان لمعركة قادمة غير تلك التي جرت بينهما قبل نحو قرنين من الزمان. لكن هناك من يمسك بأطراف اللعبة حتى في حلمي، ولا يريد للأمور أن تنجرف وتبدو خارج السيطرة، فيعودان إلى إطارهما فيما الجسر يتمدد ولم يختف أو يتهاوى هذه المرة، وأنا أجلس على مقعدي في السيارة قريباً من مدخله أتابع سير جثمان جدي المنصور متقدماً تلك الحشود التي ترافقه.

لا جسر يتهاوى الآن.. كما تلك الجسور التي أشاهدها في الأفلام ولم يختف، طوَّقته تلك الظلمة في توقيت الحلم رغم انتصاف النهار وتبدو جنباته متلألئة عندما تنسحب أطراف الظلام قليلاً. الموكب المهيب مخترق عمق الجسر في ثبات، تتعالى صرخة ظلت محتبسة اطلقها وجه اسماعيل باشا الذي لم تغادره زرقة الموت تلك التي أحاطت به، وكأني بدموع طافت على مقلتيه المتحجرتين وهو يرنو من أعلى الجسر إلى مسيرة الجثمان.  ومع استمرار جريان المياه الكثيرة تحت الجسر. اتسعت ابتسامة المك نمر أكثر فأكثر لتفقدها الفرحة البادية على تقاطيع وجهه طعم السخرية السابق، قبل أن أرى عمي، الجالس بجواري الآن، يستل خنجره من وراء ظهره مرة أخرى ويتجه نحوه مباشرة ويغرسه في قلبه هذه المرة، وتتلاشى تلك الابتسامة العريضة بين رائحة الدم والطقس الجنائزي المخيم في الأنحاء بين حلمي وتلك المسيرة المتقدمة ببطء. 

أفقت بعدها لأجد عمي عبد السيد يمسك بيدي اليسرى بكل قوته، ودموع تتساقط على وجنتيه بلا توقف قبل أن تتجاوز مسيرتنا نهاية الجسر. هي المرة الأولى التي أرى فيها دموعه منهمرة منذ عرفته. في حلمي الأول دفعني بعيداً عن أتون النار التي كانت تحت الجسر دون أن أجد مبرراً لذلك وقتها، فقد كان الجسر حينها يتهاوى فيما النار مشتعلة أسفله بعد اختفاء المياه، وأطبقت حينها نظراته المشعة خضرة على لجم كل التساؤلات التي يمكن أن تطرأ على ذهني وتحتاج لتفسير ما، قبل أن يأمرني بعبور الجسر. أما الآن فها نحن قد عبرنا الجسر دون أن أجد تفسيراً لتلك الدموع المنهمرة من عينيه، وهو الذي لم تهزه أحداثاً كثيرة عشت تفاصيل بعضها وسمعت عن الأخرى.

اضطرب قلبي قليلاً وانتفض جسدي رعشةً عندما ازدادات قبضته القوية الضاغطة على يدي، وسرى تيار انتقلت عبره شحنات من المشاعر كاشفة لي عن ذلك المستقبل الباهت الملامح الذي ينتظرني. تصاعد اضطرابي وأنا أدرك الآن إنه حمَّلني شيئاً ثقيلاً عندما توجه بنظراته إلى عيني مباشرة دون أن ينطق، نظرات صارمة لا مجاملة فيها تدفق خلالها شلال من البريق الأخضر فيما تتراخى قبضته شيئاً فشيئا. لم يكن عليه أن يصرح بما يريد قوله، ولكني داخل إلى عالم من المسؤولية دون إمساكي بأطرافه بعد. غشيتني في تلك اللحظة عوالم نورانية من رائحة جدي المحمولة جثته على النعش، ربما ليست منه مباشرة وإنما من والديه. الآن أنا مشدود إلى عوالم متناقضة لكني أمسك بالخيط جيداً منذ أن أحكم عمي عقدته على يدي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق