جسر المك نمر-رواية-الفصل الخامس

وقتها كانت سماوات المدينة القلقة مشحونة بغيوم أنباء الحرب المتواترة من الأطراف الغربية. والدراويش كمارد منطلق من قمقمه تغافل عنه الصياد قبل أن يطلق ساقيه للريح. ليس الغرب وحده الآن مخترقا بل عدة جبهات شرقاً وجنوباً وشمالاً، وصدر المدينة يتنفس هواء الانتظار.. انتظار ما هو آت. 

المكي كان الأكثر قلقاً بعد أن حاصرت تلك الأحداث حركته في السنوات الأخيرة، ما عاد قادراً على مشاق السفر لمتابعة أعماله التي توزعت بين مناطق متعددة. صار ينظر بعين الريبة إلى من حوله، وهو يلمح في نظراتهم شماتة ما بعد تراجع أعماله التجارية بشكل كبير مع موجة الكساد الآخذة في التصاعد يوماً بعد يوم. كانوا ينظرون إليه وكأنه المسئول عما يحدث لهم، بل أكثر مما يلومون السرايا وحاكمها على عدم قدرته على حمايتهم. هكذا كان يخيل إليه إلى أن سيطر عليه الهم وتملكه من كل النواصي، فصار لا يغادر بيته الكبير إلا لماماً مستقصياً عن الأخبار هنا وهناك. حتى صديقه الخواجة لم يعد يستقبله كما في السابق. كثيراً ما يدعي خروجه أو مرضه ليتفادى لقاءه. 

السيدة نفسها صارت لا تطيق رؤية الخواجة منذ حملها وولادتها للمنصور، لكنها تخشى التصريح بذلك حتى لا تستقر الشكوك المتنازعة في دواخل الناس. لكن الخواجة نفسه الذي كان يمر على البيت الكبير ليصطحب معه الصبي مروان في رحلته لصيد السمك، تراجعت فترات مجيئه خاصة في السنة الأخيرة التي قد تصل لأكثر من شهر أو تبلغ الشهرين أحياناً، إلى أن انقطع عن المجيء نهائياً في الفترة الأخيرة عندما اشتد الوضع تأزماً.

ظلت السيدة تحس وطأة قهرها كلما رأته بعد ذاك اليوم، والمكي بعيد عنها مشغول بحياة أخرى. وجاء يوم اشتد فيه إحساسها بالقهر لتصيح في وجه المكي:

- أبعد هذا القرد عن البيت، سيسبب لنا كارثة.

وواصلت وهي تأخذ أنفاسها المتقطعة من فرط انفعالها:

- إن مصالحك لم تعد هنا، ابحث عن مصالحك مع المهدي. الأخبار تقول إنه زاحف إلى هنا وسيقتلع الأتراك وأعوانهم، ستحل بنا الكارثة إذا لم تتصرف قبل فوات الأوان.

اكتفى المكي بالنظر إلى زوجته حينها، لم يقل شيئاً سوى أن هز رأسه بلا معنىً واضح، لكن حزمة من الدهشة والفزع ارتسمتا في آن على وجهه. عاد إلى خندقه المعهود في انتظار المجهول الذي بدأت تلوح مظاهره باهتة في الأفق.

جاء الخواجة، بعد فترة انقطاعته الطويلة، إلى البيت الكبير عشية يوم أن بدأ الزحف على المدينة، ليبدأ رحلته الأخيرة في صيد السمك على الضفة الأخرى غير مبالِ بما يجري حوله رغم تحذيره بخطورة الموقف في تلك المنطقة. لم يدم الانتظار طويلاً، فها هي طلائع الدراويش، تقطع كل تلك الفيافي ودانت لها الأرض في كل الجهات ، تأتي المدينة من خصرها الغربي. عسكرت الجيوش بعد أن حفرت خنادقها محاصرة جيوش الترك في آخر معاقلهم في تلك الناحية بعد أن فقدت قواتهم كل الأطراف، منتظرة سقوط هذا الجزء من المدينة وعبور النهر إلى الضفة الأخرى. كانت بداية الزحف أول ما انتخبت فوهات موتها ظهر الخواجة المقوس قليلاً بفعل رمي شبكة صيده، وأكثر من ستين عاماً عاش منها بعض شبابه وكل رجولته وستينياته في هذه المدينة. ظهره المقوس كان بوابة الدخول للمدينة الكبرى حين هاجمتها جحافل الفرسان والراجلين بجلابيبهم الخضراء المرتَّقة.

- إنهم الدراويش.

قالها الخواجة قبل أن يطلق تنهيدته الأخيرة وهو ينظر إلى الصبي عمران الذي لم يتجاوز وقتها العاشرة من عمره. وكان جسده الذي فارقته الروح ملقى في العراء حين لاذ الصبي بالفرار في ذاك الصباح المبلل بقطرات ماء الشتاء، وسرعان ما أحالت جذوة الحرب كل الفضاء شعلة وسط دوي المدافع وأصوات الرصاص المتقطع هنا وهناك. استحالت تلك البقعة من الأرض إلى فوضى ضاربة مع اشتداد الزحف ومحاولات المقاومة التي تبذلها قوات الترك دون جدوى. أخيراً رفع قائدها الراية البيضاء، وهو يرى جثث جنوده متناثرة هنا وهناك على امتداد الخنادق والمتاريس التي أقاموها لصد الهجوم وجاء مستسلماً.

لم يتبق شيء سوى الزحف إلى سرايا الحاكم العام. ستعبر قوات الدراويش الضفة وستأتي قواتهم المرتكزة شمال وجنوب المدينة لتكتمل حلقة الحصار ومن ثم الهجوم النهائي. الحاكم العام في انتظار النجدة تأتيه من الشمال، بعد انسداد المنافذ من بقية الجهات محاولاً بث الطمأنينة في نفسه وبقية جنوده. اشتد الحصار على تلك الجهة من المدينة وتفشى الجوع والمرض واليأس. اليأس هو سيد الموقف في تلك اللحظات، إلى أن جاء فجر ذاك اليوم الذي انقض فيه الدراويش من كل ناحية على عمق المدينة، لم يتوقف زحفهم واجتاحوا كل المتاريس التي تمنعهم من الوصول إلى سرايا الحاكم العام. لم يكن هناك أحد سواه، كل القوة تلاشت في غمضمة عين، قتل منهم من قتل وهرب من هرب، انتهى الأمر بأن قطعوا رأسه وحملوه إلى الضفة الأخرى وسط حالة من هستيريا الفرح في مقابل هستيريا الخوف.

قال المكي محدثاً نفسه داخل عزلته الكبرى التي ازدادت في ظل الوضع القائم "الحمد لله إننا لا نعرف ما يخبئه الغد لنا، لو كنا نعرف لعشنا حياتنا كلها قلقاً وتوتراً ولما استمتعنا بها"، تلك الحكمة راودته وهو يرى مملكته تنهار أمام عينيه دون أن يستطيع فعل شيء. سار مطأطئاً رأسه محروساً بقوة من عسكر الدراويش، عندما اقتحموا البيت الكبير وأخذوه دون مقاومة. لم تجد شفاعة الشيخ المنصور له لدى المهدي، حاول جاهداً أن يخرجه من ورطته من أجل أحفاده، لكن دون جدوى. ما كانت اللحظة تسمح بأي تهاون حتى من أجل الأقربين وكان شيخ منصور منهم عندما مد حبال صلاته بهم في بدايات زحفهم وحروبهم الأولى. كثير من الشيوخ كانوا يمدون حبل صلاتهم به خاصة بعد الانتصارات الكبيرة التي حققوها في المعارك الأولى، بعضهم كان يخشى الطوفان وبعضهم كان يكره الأتراك ولكنه يخشى بطشهم. أما شيخ منصور فكان يريد حماية ابنته وأحفاده "حتى لو كان السبيل إلى ذلك حماية المكي نفسه من مصيره الذي ينتظره".

بدا كل شيء غائماً.. كسماء شهر فبراير الذي تغطيه ذرات الغبار ولا يمكن الإمساك بتفاصيل صفائه وملامحه في تلك الأيام. هكذا بدا كل شيء، المشاعر متضاربة.. مختلط فيها الفرح بالخوف والقلق بالحقد. المدينة بأطرافها المتعددة مضمخة بروائح الدماء والجثث المتناثرة هنا وهناك، بعضها تعفن نتيجة الإصابة القاتلة وأخرى تحجرت من فرط الجوع الذي طال الكثيرين أثناء فترة الحصار وامتد لشهور طويلة قبل تنفيذ الهجوم النهائي. النهر يلفه غموض الموقف، وتلك البواخر النيلية التي جاءت في ذيل الأيام ونفوس قباطنتها مملوءة بالحماس، والجنود على ظهورها مشحونون بالأمل في بطولة ما يروونها في خوالي أيامهم، كلها مصابة بخيبة أمل كبرى أثناء تراجعها الكبير عائدة إلى حيث أتت تلاحقها بعض الجثث الطافية ببطء مراوحة بين الشواطئ وعمق النهر فالتيار في مثل هذا الوقت لا يأخذها بعيداً.

أدرك المكي أنه جثة لم تطف بعد على سطح النيل، ولم تتعفن في إحدى زوايا المدينة.. لكنه جثة نابضة القلب تجري في عروقها بقية دماء. بدأ وجهه يتآكل بعد أن أصابه مرض الجدري الذي ازداد انتشاراً قبل أن يقضي على الكثيرين ممن بقوا على قيد الحياة. لم تعد تشغله رائحة الجثث المنتشرة بعد أن صارت الرائحة تفوح من جسده ومعلقة بأنفه باستمرار. "مات الخواجة برصاصة مباشرة دون أن يعاني كثيراً، أما أنا فأتعفن هنا حياً، لماذا لا يقتلني هؤلاء الأوغاد؟" هكذا قال في نفسه وهو يزيح من بين ناظريه طيف الخواجة وزوجته السيدة وابنه المنتصر. الآن فقط تذكر والده المبروك عندما كان يصيح بصوت واهن يغالب به الاحتضار "إنها اللعنة التي ستلازمكم طويلاً". تساءل الآن تحت وطأة عذاباته الكبرى، وذلك القهر جدري الروح المستشري في دواخله، تساءل عن المنتصر محاولاً إبعاد شبح العار الذي سيطر عليه حتى في لحظات غفوه النادرة هذه الأيام. بدت له الحقيقة ناصعة وتلك الرائحة النتنة تخترق فتحات أنفه في إصرار. لعن السيدة ووالدها الشيخ المنصور الذي شفع له كي لا يقتلوه مثل ما قتلوا الكثيرين، ولكنهم لم يتركوه حراً. إنه مقيد يلاقي مصيره وسط هذا الحشد وحيداً، لا أحد يعلم قدر التقيح الذي أصاب دواخله إذاً لنفروا منه أكثر مما ينفرون من الجدري الذي أصاب وجهه وبعض أطرافه، ولم تدركه لحظة الاحتضار بعد، تلك اللحظة التي ظلت مؤجلة لمزيد من العذابات التي أصبحت تعنيه وحده.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق