جسر المك نمر-رواية- الفصل الثالث

انسلت خيوط القصة من بين شفتي الرضية ووجهها المنفعل بمشاعر شتى، وهي تنفث دخان سيجارتها البرنجي في تلذذ، وعادت بذاكرتها، إلى رواية أمها، ما قبل وفاة الشيخ المبروك الذي تفصله سنوات طويلة من اليوم الذي صادف خروج عبد السيد من رحم السارة. ليست صدفة إذاً أن يجيء في اللوح المحفوظ أن عبد السيد سيولد بعينين "خضراوين"، فالمخاض استمر طويلاً والميلاد لم يكن لحظتها، بل كانت بذرته مغروسة منذ زمن الغفلة مثلما جاء عبد السيد في غفلة من الزمن كما قالت تلك العجوز.

بدأت من حيث انقضت حولية المبروك. أسبوع حافل استعدت له جموع المريدين القادمين من كل فج قبل وقتٍ كافٍ، بعد وفاته، ليجدد مريدوه ذكراه اسبوعاً من كل عام، بعد أن أقاموا له ضريحاً، تحيط به الأعلام من كل ناحية في خلفية الزاوية التي ظل يقضي فيها معظم أوقاته، يزورونه كلما اشتد بهم كرب. وهو الذي ظل يباركهم ويدعو لهم في صلواته، راسماً طريقاً لحياة الكثيرين منهم، وقد عمدته الأيام القاسية شيخاً مستجاب الدعاء، كاشفاً للغم والهم الذي ظل يأكل من عمرهم أياماً ليست بالقليلة. ولكنه يوم أن هاجت تلك الريح الشديدة، التي حجبت الرؤية وضاقت منها الأنفاس، ثم ظهر ذلك النجم الكبير منتصف النهار وظل كأنه يستند على أسقف البيوت لفترة من الزمن يقدح بشرره على الناس، وقف المبروك وسط زاويته وهو يتلو بعض آيات القرآن ويردد بعض الأوراد إلى أن اختفى النجم مخلفاً وراءه حمى أصابت الناس، كانوا يطلقون عليها "ام سبعة". 

ظل المبروك يسير بين الناس حاملاً مسبحته يدعوهم إلى الابتهال إلى الله والتوسل إليه ليبعد عنهم هذا الشر الذي ابتلاهم به. ولكنها أصابته.. "أم سبعة" تلك التي لا تمهل الروح أكثر من أسبوع واحد، إن تجاوزه المرء فقد سلم، ولكنها لم تمهله أكثر من يومين لتفيض روحه وهو عاكف على الدعاء داخل زاويته ظهر ذاك اليوم. 

هو ذات اليوم الذي وضعت فيه السيدة مولودها الثاني وأطلقت عليه اسم المنصور ووافقها عليه المكي، في الصباح الباكر، والحمى تأخذ الناس من نواصيهم دون رحمة. قالها المكي في لا مبالاة "منصور بإذن الله" وهو مهرول بين الزاوية لرؤية أبيه الذي يئن تحت وطأة الحمى ومنزله حيث السيدة تئن تحت وطأة الطلق الذي جاءها باكراً.

- ولكن المبروك لم تقتله "أم سبعة". 

هذا ما ظل يردده محمود ود بشير أعز أصدقائه، كلما حلت ذكراه السنوية، قبل أن يدفن إلى جواره بعد أكثر من خمسة أعوام ويعزو السبب في موته إلى إبنه المكي، بل وإلى اليوم الذي دخل فيه المكي بصحبة الخواجة إلى منزل الضيافة. شيء ما ارتجت له –لحظتها- دواخل المبروك، وبدت روحه كأنما تختنق ليتصبب عرقاً. ولكنه استعاذ بالله ثلاثاً، ثم قام في صعوبة من سجادته ليحيي ضيف إبنه برغم الضيق الذي اعتراه. 

حيَّاه الخواجة وابتسامة معلقة في زوايا شفتيه وهو يقول:

- يا حاج المبروك، زمن طويل وأنا أتمنى زيارتك يقولون إن فيك كل البركة.

حار المبروك جواباً، ولكنه أشفق على نفسه محاولاً الخروج من ورطة الحديث معه بهزة من رأسه، ومضطراً أجابه:

- الذي يمنح البركة هو الله ولست أنا.

- نعم، نعم.. ولكن الناس يعتقدون إنك كل البركة ويستجيرون بك وهذا شيء مهم.

رد عليه في برود:

- أنا لست سوى عبد فقير إلى الله، فإن استجاب لدعائي ففي ذلك خير لي وللناس.

ولكن الخواجة واصل بذات نبرة الحماس التي بدأ بها حديثه ليقول:

- كلفني الحاكم بأن أجدد لك الزاوية وأزيد من مساحتها.

انتفض المبروك كمن لسعته عقرب على فخذه محاولاً الوقوف، والغضب مسيطر على كل تجاعيد وجهه. كان يعلم إنهم سيحاولون معه بشتى الطرق بعد نجاحهم في استمالة الشيخ المنصور ود الطاهر شيخ المنطقة الوسطى، بعد إذعانه لهم يوم تجاوزوا النيل بمراكبهم وخيولهم وإبلهم وسباحة مخلفين وراءهم مئات الأميال وكثير من القتلى وهم يخترقون البلد من صدرها. ولا يزال صدى أصوات مدافعهم يتردد بين جنبات الصدور.

- اسمع يا خواجة، انا زاويتي لا تحتاج لتجديد ولا لزيادة، هي قدر حاجتنا ليها.

وهنا حاول المكي التدخل مؤيداً ضيفه:

- التجديد ما مضر يا حاج والتوسعة زيادة خير وبركة على الناس والمنطقة.

ولكن المبروك لم يكترث لحديث إبنه، وسرعان ما غادر إلى داخل حرم المنزل متمتماً بكلمات غير واضحة. لم يعجبه الخواجة منذ أن وطئت قدماه البلد ، التي ظل يجول فيها طولاً وعرضاً بعد أن أوكل إليه الحاكم أمر تخطيط المدينة والمباني. وصار يتردد على رجال البلد وأعيانها متقرباً منهم، بل دخل بيوتهم من أبوابها على غير عادة كبار رجال الدولة الذين لا يبارحون قصورهم التي شيَّدوها ولا يشاهدونهم إلاَّ أثناء أداء أعمالهم وكان ذلك نادراً ما يحدث. ولكنه صار يبغضه منذ علمه بالشائعة التي انطلقت حول علاقته بالسيدة زوجة ابنه المكي.

كان ذاك يوماً عصيباً، انقطع فيه المبروك في غرفته عن العالم ولم يبارحها لأكثر من شهر، بعد أن نقل إليه محمود ود بشير ما تتناقله الألسن في البلد حول علاقة الخواجة بزوجة ابنه. شيء ما انكسر داخله، وظل معلقاً في جبينه. عبثاً حاول أن يداريه لحظتها، خلف لجوئه إلى الله وانشغاله بالعبادة والدعاء، لكنه روحه تحترق كلما تراءت له صورة الخواجة بصحبة المكي دون أن يتمكن من إزاحتها.

ورغم ما هو معروف عن المكي من مجون، لكن مكانة المبروك في النفوس كانت تغفر له كثيراً مما يرتكبه، حتى المبروك لم يصبه اليأس ويستسلم من الدعاء له بالهداية، إلا أنه لم يغفر له علاقته بالخواجة بل سعى بشتى السبل لإيقافها عند حدها، لكنه فشل في ذلك. فقد ظل إبنه متمسكاً بعلاقته المريبة متجاهلاً كل الأقاويل التي تطرق أذنه من حين إلى آخر بعد تجاوزها مرحلة الهمس إلى الجهر بها.

لم تنطلق الشائعة عبثاً، فقد ظلت علاقة الخواجة بالمكي مثار جدل وسط أعيان البلد. التقيا في لحظة من لحظات ذاك المجون، حين دخل الخواجة عليهم الإنداية رغم البيارق المنكسة، ولكن لون بشرته وعينيه كانا جواز مروره، إذ نادرا، إن لم يكن مستحيلاً، ما يفعلها ذوو البشرة البيضاء في تلك الأيام. استقبله المكي بحفاوة بالغة وبطريقة احتفالية كسرت لزوجة النظرات التي رماها به الجمع المتحلق حول برمة المريسة، وسرعان ما نادى على أكبر أبناء صاحبة الانداية بأن يأتي بأكبر كبش من (الزريبة) ويذبحه إكراماً لضيف اليوم.

- اليوم خمرٌ وغداً أمر.

هكذا اكتسب ذاك اليوم ملامحه منعكساً في ذلك الإحمرار الخفيف الملتف حول حدقات عيني الخواجة، التي لا تشبه تلك العيون التي حوله، وهو يتجرع المريسة. لكنه مد حبال الوصل بينهما مخترقاً كل الحواجز. 

كان الآخرون يتجنبون أي علاقات مع الآتراك والخواجات الأوربيين سوى اولئك الذين تجمعهم بهم التجارة. وهؤلاء تسربوا خلسة قبل وقت بعيد يحملون بين طياتهم بضائعهم وروح ترغب في الكسب، فكانوا الأقرب للحكام بهداياهم التي فتحت لهم الطريق واسعاً لينسربوا وسط الناس. وكانوا عيون السلطان العثماني وواليه على مصر حين فكر في غزو الجنوب.

تملكت المكي وبعض الحضور نشوة مفاجئة، ليجدُّوا في طلب المغنية "بت الشام" ليكتمل أنسهم واحتفاؤهم بالخواجة، الذي وجد نفسه يتوسط الدائرة ومن حوله رجال ونساء وإيقاع "الدلوكة" يرج جسده مقلداً من رآهم يرقصون طرباً. و"بت الشام" تطلق عقيرتها بالغناء في صوت رخيم يزيد من نار تلك النشوة السارية وسط الجميع. ثم جاءت وصلتها الثانية أكثر حرارة وهي تحيي الترك بأغنية مرتجلة موحية وتغازل فيها الخواجة "أب عيوناً خضر"، لتحمله النشوة على أكتاف الرجال واهتزاز أجساد النساء طرباً.

في غمرة تلك السكرة وقف أحدهم حاملاً عصاه وهو ينظر إلى الخواجة شذراً، بعيون يقدح منها شرر الخمر وغضب مختمر في الذاكرة، لينفجر لاعناً كل الذين من حوله متجهاً في قوة نحو الخواجة صائحاً في وجهه "ترقص على خيبتنا يا ود الغلفاء" ورفع عصاه في قوة قبل أن يجد المكي بجسده الضخم ويديه القويتين ممسكاً به حائلاً بينهما. ثم اتجه ناحية "بت الشام"، التي تحسست -دون وعي منها- أسفل بطنها واهتز جزء منها هناك، كانوا يعلمون أنها "غلفاء". ولما عجز عن فعل شيء وهو ينظر إليها في غضب، جلس على رجليه وسط الدائرة مجهشاً في البكاء بحرقة. ليخرج بعدها مطأطئاً رأسه ويتواصل الطرب.

انتظر المكي حتى انتهت المغنية من وصلتها الأخيرة ليخرج مع الخواجة معلناً بذلك الجميع إنه تحت حمايته. توغلا داخل البلدة ناحية بيت المكي الذي أصر على اصطحابه لزيارته ولكن الخواجة اعتذر بشكل قاطع ووعده بالزيارة مرة أخرى.

وطد الخواجة صلته بأهل البلدة، ومد جسورها بعد تلك الدعوة التي أقامها المكي في داره بعد أيام من أول لقاء لهما. وكان هو الوحيد من بين الخواجات والاتراك في سلك العمل الحكومي، إضافة إلى بعض التجار من الشوام والأغاريق والأرمن، ولكنها كانت فاتحة زياراته لدار المكي من فترة لأخرى إلى أن اقترح عليه بناء دار له في تلك الربوة العالية على أطراف البلدة، شبيهة بتلك الدور التي يسكنها أصحاب الشأن وسيساعده هو شخصياً في ذلك. 

وحيث تلك الربوة، لحظة أن يذوب الأبيض في الأزرق المندفع متجاوزين ذلك السياج الشفاف الذي يفصل بينهما، ويتلاشيا في ذروة لقائهما، ليولد النيل ويبدأ في الانطلاق نحو أفق آخر لا يسعهما مفترقين، هناك رسم المهندس التركي، الذي أوصاه الخواجة ببناء البيت، خريطة بنايته على الأرض ليشرع بعدها في التنفيذ. فيما بدت حديقته واضحة المعالم ، بأشجارها التي بدأت في التماسك وهي تزداد خضرة وتستجيب لمداعبات الرياح قبل أن يكتمل بناء السياج الخارجي للبيت.

اقترح المهندس التركي على المكي قبل الشروع في البناء إضافة غرفة تركية ليكتمل البناء سلطانياً كما في أرقى أحياء اسطنبول، وقال له في صوت أقرب للهمس رغم وجودهما وحدهما:

- ستشكرني على هذا، خاصة وأن لديك زوجتين كما علمت من الخواجة.

وأضاف وهو يلمح نظرات المكي المتسائلة:

- ستكون في الركن الشرقي، بحيث لا يلحظ احد الداخل إليها أو الخارج منها.

ثم همس في أذنه، هذه المرة، بعبارات وجدت في دواخل المكي موقعاً جعلته مستغرقاً في ضحك طويل ، متحسساً أسفل بطنه في انتشاء ظاهر. ولم يكن سبب ضحكه فقط ما همس به التركي في أذنه، بل تبرعه بزوجته لتعليم زوجتيه، السرة بت حمد والسيدة، أسرار الغرفة التركية وأصول التعامل معها. فكانت سعادته بذلك مختبئة داخل ثنايا ضحكته التي أصر على عدم انقطاعها وهو يهز رأسه موافقة على اقتراح التركي.

في غدوه ورواحه، أثناء بناء البيت الكبير، كان لابد للخواجة أن يلتقي السيدة. راقت له وهو يلمحها مرة في ثوبها الذي لا يخفي ملامح جسدها المثير.. من وقتها صار يتحين كل الفرص ليلتقيها، ويداعبها وإبنها مازحاً أمام زوجها بطريقته المثيرة للضحك دون أن يثير ريبة ما. ولكنها أنثى تشتم رائحة الرجل الذي يشتهيها. وأن يشتهيها هذه المرة الخواجة، أثار ذلك في جسدها حمى من نوع آخر.. لا تشبه تلك الحمى التي تعتريها عندما تشتهي المكي إذا ما غاب لأيام، وهو الذي تزوجها قبل ثلاث سنوات، لتصير صاحبة البيت الأولى بعد إنجابها إبنها البكر المنتصر الذي انتظره سنوات طويلة منذ أن فض بكارة زوجته الأولى السرة بت حمد، إبنة عمه. ولكنها عندما انجبت البنت الثالثة بعد عشرة سنين ظل خلالها مداوماً على فراشها، قرر أن لا يضيع وقتاً كثيراً، وأن يتزوج السيدة بنت شيخ الطاهر، رغم تبرم إبيه وتوتر علاقته بالشيخ الطاهر. 

وجاء ذاك اليوم، حين دخل عليها الخواجة منتصف النهار، الوقت الذي يستسلم فيها الكون هنا إلى السكون حتى أوراق الأشجار يداعبها الهواء في حذر. هي اللحظة التي يحاول فيها الذباب أن يتوارى بين ثنايا أي ظل، وتنكمش الماعز وقطعان الضأن داخل جلودها محاولة اللحاق بأطراف الظل المنسحب خلف الأسوار، وهي " تنش " تلك الحشرات الطائرة المُقْلِقة المتوالِدة داخل أنفاس مياه النيل المشبعة بالرطوبة، إنها المخلوقات الوحيدة التي لا تخاف الله في الناس ولا في البهائم ولا تخاف الحر وقيظه.. لحظة أن تصيبك الدهشة عندما ترى طائراً يسقط فجأة من أعلى السماء ميتاً. 

في تلك اللحظة، التي تتفجر فيها مسامات جسد السيدة عرقاً غزيراً بحثاً عن جداول ليمارس تصببه فيها، وهي تتلوى حين يتدفق عبر أخاديد مواضعها الأكثر حساسية ليدغدغها هناك.. وجدته أمام مدخل مملكتها. رغم انتفاضة جسدها وتلك القشعريرة التي اعترتها خوفاً، لكنها ظلت تنظر إليه بغير دهشة، وشيء ما لا يكاد يبرح حلقها أشبه بكتلة حمى متصاعدة تملأ صدرها وتنزل إلى أسفل بطنها. 

صارت لا ترى الأشياء أمامها بوضوح وعيناها متمسكتان بذاكرة بللتها تلك الحمى، ورطبت مواضع الصدأ فيها، وعضوها المبتور بموسى قابلة ماهرة متكور أمام ذاكرتها الآن مملوء بالتوتر، بعد أن ظل المكي يمارس مجونه بعيداً عن مملكتها ولزمن طويل. إنها لا تزال ندية ترفل في غلالة اشتهاءٍ لرجل يطفيء نارها، لن تستسلم كما السرة بت حمد التي اكتفت ببناتها وهي لا تنتظر أن يأتيها المكي، وإن جاءها سهواً فلن تفعل أكثر مما تفعله عادة، بأن ترفع رجليها ولا تنتظر بلوغ ذروتها، أو هكذا يتناجيان حين تشتد بهما وطأة الحمى. 

لكنها الممتلئة بحالة اشتهائها الآن، تداعب أحلام طفولتها المختزنة مواطن تلك الأنوثة حين كان لعبها مع رفيقاتها يتجاوز البراءة وهن ينزلن سراويلهن مداعبات أعضائهن الداخلية قبل أن تمتد إليها تلك الموسى. وكأنها تنتظر الآن أول رجل يقتحمها ، ولم تجرب ذلك من قبل، إنها تلك الحمى المختلفة التي اعترتها منذ أن بدأت عينا الخواجة مراودتها. وها هو الآن أمامها، وفي عينيه الخضراوين بعض من شرر يزيدهما لمعاناً مملوءاً برغبة عارمة. عيناها مغرورقتان بالدموع وهو يقترب منها ويضمها إليه بشدة، جسدها مستسلم وروحها ظمأى تواقة لمن يطفئ حدة العطش داخلها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق