جسر المك نمر- رواية- الفصل الثاني

الحقيقة.. لا يكاد أحد يجزم بمعرفتها، بعد أن صار زقاق الخواجة يتغير شيئاً فشيئاً مع مرور السنين منذ أن غادره منذ سنين بعيدة، لتنطمس معالمه في لجة تلك التغيرات وتحمل بين طياتها جل الحقيقة. طرقات الزقاق الضيقة بدت أكثر اتساعاً وأناقة رغم تراكم الأوساخ الذي لم يفارق جنباتها كمشهد عادي، وأنا أقطعها من عدة اتجاهات بحثاً عن الدار التي تسكنها الرضية. المعالم التي حفظتها ذاكرتي من وصف عمي المتكرر للزقاق تغيرت ملامحها كثيراً فصرت كالتائه أثناء تحسس بصري للبنايات القديمة. تلك البنايات التي تغيرت معالم بعضها تماماً بعد أن تم هدمها وإقامة مباني جديدة على طراز أكثر حداثة لكن دون تناسق جمالي مما يزيد من ارتباك العين ويدفعها بعيداً هرباً من هذه الفوضى، وبعضها صار مشوهاً بفعل التجديدات والتعديلات والإضافات التي طالت بعض أجزائه دون الأخرى، في إرتجال معماري لملاحقة الشراهة التناسلية، التي فاضت بها الأرجاء، واحتوائها بعيداً عن أعين الفضوليين.

لا؛ إنه ليس الزقاق الذي وصفه لي عمي، بل شيئاً آخر لا علاقة له بتلك التفاصيل التي ظل يرويها لي أثناء ساعات صفائه، متجاهلاً رغبتي العارمة في الولوج إلى عالمه المبهم مباشرة. وعندما أحاصره بالتساؤلات يراوغني بالحديث عن أهل الزقاق الذي تمدد وتحول إلى مجموعة أزقة، تضيق كلما أطلق مولود صيحته الأولى بين جنباته. فمنذ أن غادر إلى منطقة شرق النيل في بدايات تخطيطها السكني، ظل وجدانه ممتلئاً بالحكاوي التي يضن بها على الجميع مفضلاً الاحتفاظ بها كأنه هارب من جحيمها، أو لكأنها فضيحة يحاول مداراتها بفعل الزمن ولا يرغب أن ينكأ أحد ما جرحها فيتقيح. فقط تلك اللحظات التي تبلغ فيها روحه درجة صفائها تتداعى ذكريات وحكايات طفولته، لكنه سرعان ما يضبط نفسه متلبساً في الغوص عميقاً فيتوقف عند حدود الوصف وبعض من مواقف تتسم بالطرافة يرويها بطريقته المثيرة للضحك.

لم يعد هو ذلك الزقاق الذي في مخيلة عمي عندما كان صغيراً يتسكع بين طرقاته. كثيرة هي التغيرات والتي طالته بفعل الزمن، وكثيرة هي وجوه الناس التي قطنته فيما بعد، فصار شيئاً لا يمكن ان يتخيله الآن، حتى الهواء رغم رائحة الأسماك المتعفنة صار ملوثاً بالغبار الذي تثيره أرجل العابرين ورائحة العرق التي تفرزها الأجساد المنهكة والمترفة. ولم تعد بيوت الطين القصيرة تقف وحدها، بعد أن أطلت هنا وهناك بنايات حديثة حجبت عنها النظر وألقت بظلها عليها. وصارت الحركة اكثر سرعة وضجة وصخباً، والحياة أكثر قسوة من تلك التي رواها عمي عن طبيعة الحي. 

إلا الزقاق الرئيسي، الذي يفصل الجانب الذي يقع فيه منزل جدي القديم -الذي تغيرت ملامحه تماماً- عن البنايات المنتصبة في الطرف المقابل، بقي كما هو، بتفاصيل نتوءاته المتناثرة هنا وهناك معيقة حركة السير بسهولة كما في الأحياء الطرفية التي نشأت هكذا فجأة محيطة بعمق المدينة. ظل كما هو، ذات الرائحة منبعثة من بين أطرافه؛ رائحة روث الحيوانات المنبعثة من زوايا الجدران الطينية، ممزوجة ببقايا مياه الغسيل والحمَّامات المدلوقة دوماً أمام المنازل مصرة على البقاء على السطح أطول فترة ممكنة برغم حرارة الشمس، وذلك الغاز المنبعث من المراحيض خاصة بعد مغيب الشمس. كل ذلك ثم تصفعك رائحة الأسماك النتنة مع تيار الهواء سواء أكان منعشاً أو سموماً، تأتي من الاتجاه الشرقي للزقاق حيث الشاطئ الغربي للنيل. وقد اعتاد الصيادون على الرسو بمراكبهم الخشبية في تلك الفجوة المنبسطة، واتخذها تجار وسماسرة السمك موقعاً لتجارته ونظافته بعد أن بدأ الزقاق يأخذ شكله ويتمدد غرباً إلى أن توقف عند ذاك الحد من امتداد البيوت.

ذلك ما ساعدني على استجلاء موقفي حين بدأت في السؤال عن الرضية حسب وصية عمي " لن يساعدك فيما ترغب في معرفته إلا الرضية ". هكذا اختصر الأمر، موصداً الباب في وجهي حين حاصرته بإلحاح لمعرفة المزيد عن الزقاق وأهله، وأنا أحاول فك طلاسم كثير من الملاحظات التي دونتها في أوقات متفرقة وبين ثنايا الوجوه المتغضنة للشخصيات التي رسمتها في مخيلتي. إن البحث بين ثنايا تلك الوجوه له متعته إذا ما فارقتها النظرات الجامدة التي لا تقتل ولا تحيي كما وجه عمي، حيث تظل معلقة في أجوائها الخاصة كلما توغلت عميقاً. حتى بعض البنايات العتيقة المعلقة في أعلى زواياها رائحة روث الحيوانات كآخر إشعار لعهد قديم تكاد تنطق بشيء ما، لكنها سرعان ما تتماهى مع غيرها بمظهرها المرتق لتوحي بالصمود في وجه الزمن.

قادتني فتاة صغيرة وهي تقفز في مشيتها محاولة تجاوز خطواتي التي تسبقها في كل مرة، لأقف أمام لافتة باهتة متآكلة الأطراف متشبثة بإهمال على حائط إحدى تلك البيوت منتصف الزقاق.. البيوت القليلة المتمسكة بأطراف ماضيها، لا تريد أن تتجاوزه لتظل عتيقة لم تمتد إليها يد التجديد. الخط المرسوم على اللافتة، ذات الخلفية السوداء، باللون الأبيض لا يمكن قراءته بسهولة من أثر السنين عليه إلا إذا اقترب المرء بدرجة كافية مثلما فعلت الآن، بعد إكمالي بعض الأحرف التي طمست معالمها بفعل الزمن من سياق ما هو متوقع لتكتمل وأدرك أنه "منزل القابلة الرضية". رغم رائحة الطين التي تفوح من بين جنباته، وحوائطه الموحية بالتهالك، لكن باحته نظيفة ومريحة للنظر مثلما صاحبته التي استقبلتني بوجهها الطلق وروحها المتحفزة لوثبة طالما انتظرت الفرصة لإنطلاقها. ليست كما رسمتها ريشة مخيلتي أثناء عبثها في مقارنات بينها ومآلات جسد جدي عمران الذي كان يرعاها ويحميها، لعلاقتها بزوجته السارة قبل وفاتها.

- فاكرة نفسك شباب ؟ لو ما الحفرة دي كان زمانك راقدة في السرير .. ده لو ما خرفتي.

هذا ما يقوله لسان جدي الماكر الذي لم أره أثناء حياته، لكنها حكاوي جدتي عندما تنداح ذاكرتها أيام حياتها في الزقاق. هكذا يغيظها في آخر سنوات عمره عندما يراها تتهيأ للذهاب إلى مناسبة حفل زواج أقربائها في نادي وسط البلد. لحظتها انتبهت ضاحكاً إلى أن مظهرها المتناسق يبدو أصغر بكثير من عمرها الحقيقي، الأمر الذي أظنه كان يشعل قلب أبي غيرة عندما تخرج إلى مناسبة بدونه. لكن ذاكرتي لم تقبض على كل تفاصيل حياة جدي معها وأنا مقتحم الآن عالم الرضية دون استئذان.

أدركت الآن سر تلك الشائعة التي يغذيها جدي عن قصد كلما اشتعلت داخله نيران الغيرة تلك، ويظل يرميها ككرة من طين يزيدها التراب الجاف الذي يحيط بها حجماً كلما تقدمت خطوة في الطريق، مطلقاً تنهيدة عميقة من جوفه هامساً بكلمات مسموعة في شغف مفتعل قائلاً : "حليل أيامك يا الرضية". ولأن جدتي تعرف من هي الرضية وهي التي عاشت معها لسنوات عديدة بل كانت هي من اختارتها لجدي عمران بعد وفاة السارة، تكتفي بمد لسانها ساخرة من خرفه الذي توصمه به، ضاحكة من قلة حيلته. أدركت السر وأنا أقف مليئا بالرهبة أمام الرضية في عمق دارها الآن، فهي تكبر أبي وأمي بأعوام كثيرة ولكنها تبدو في مظهرها أقرب سناً إليهما. إمرأة من ذاك الزمان، يزيدها العمر بهاءً، بل يبدو وكأنه يتراجع.. هذا ما يوحي به جسدها الذي يبدو أن الزمن توقف عند مرحلة نضجه ولما يزل يراوح مكانه رغم أنف قوانين الطبيعة والفيزياء والأحياء وربما الأموات. وسرعان ما تجاوزت بي حالة الذهول والرهبة إلى دهشة تدفقت من بين ثنايا غنج كل حرف نطقت به عندما عرفتها بنفسي:

- الرسول !! إنت جدك عمران !!!

هي القابلة التي استقبلت رأس عمي الخارج من تجاويف رحم السارة كأول عضو من جسده.. وهي المرة الأولى التى تمارس فيها مهنتها بمفردها، لم تتجاوز حينها الثامنة عشر عاماً من عمرها سوى ببضعة أشهر، بعد أن كانت تساعد إحدى القابلات المحترفات التي تعلمت المهنة على يدي أم الرضية قبل وفاتها. ذاك اليوم ظل محفوراً في ذاكرتها، لا يغيب أبداً عن أحاديثها في جلسات منتصف النهار أثناء تناول نساء الزقاق للقهوة اليومية. كانت الرضية تتسيد المجلس وترعاه لسنوات لا زالت آثارها باقية، إلى أن بدأت ملامح الزقاق في التغير، حتى إن كانت الجلسة في غير منزلها. كن ينتظرن ساعة استقبالها لحلاوة لسانها وبذاءتها وما تثيره من موجات ضاحكة وسطهن بفكاهاتها التي لا تنقطع. وهن لا يخشين شيئاً عندما يفتحن صندوق أسرارهن أمامها ، بل تزداد متعة الواحدة منهن عندما تحكي عن ليلتها مع زوجها.. أو يتداولن فضائح وسط المدينة التي تأتي عبر بوابة صدر سعاد المكتنز، وكان صدرها مشرعاً لمن يرغب، لذلك قليلاً ما كانت ترتاد المجلس لغيابها المستمر عن الزقاق، لكن يوم حضورها لا تغيب إمرأة عن المجلس، حتى بعض من اللائي يتجنبن الحضور لبيت الرضية لا يستطعن إمساك رغبتهن في الحضور ذاك اليوم. ورغم الامتعاض الظاهر الذي يرتسم على وجوه بعض النساء، إلا أن الدواخل تشي برغبة عارمة في تجاوز كل حدود الكلام.

هكذا وجد جدي عمران نفسه وسط الهمس الدائر الذي تتناقله النسوة عن علاقات الرضية بالرجال، وهي كانت تغذي بنفسها ذلك الهمس بكثير من الإشارات الموحية. 

قالت لي الآن وهي تنظر إلى عيني مباشرة دون أن يرمش لها جفن:

- أنا بي عمري دا وتجاربي دي كلها ما زلت عذراء، شفتهن كلهن.. المطهرة والغلفاء، بس ما في زول بيعرف سري.

شككت في صدق حديثها وأنا الآن لا أستطيع إنكار حقيقة جسدها الفاتن رغم كبر سنها فكيف بذاك الزمان. 

لكنها واصلت حديثها دون كثير اهتمام بالتعليق الذي قرأته في عيني: 

- كنت أحتمي بجدك مروان من نظرات الرجال التي تكاد تمزق جسدي من شراهتها. كان في شبابه قويا.. بطوله الفارع، في عينيه شيء يخيف الآخرين، كان الجميع يهابونه، كبارهم وصغارهم ويخشون الحديث أو حتى النظر إلي في وجوده. حتى بعد ولادة عبد السيد بلون عينيه الخضراوين لم يفقد سطوته بالرغم من تلك النظرات التي لمحتها للحظات تكسو تقاطيع وجهه وغادر بعدها لفترة ليعود ويتزوج مرة أخرى وينجب ولده الزاكي- أبوك.

قبل أن تسترسل الرضية كثيراً في حديثها عن جدي، قررت أن أعيدها إلى اللحظة، التي كانت تعتبرها فارقة في حياتها، لذلك قاطعتها بسؤالي عن يوم ولادة عمي عبد السيد وتفاصيله. نظرت إلي متفرسة في تفاصيل وجهي قبل أن تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وتقول:

- يا ولدي مالك علينا من سيرة المصايب، أنا كل يوم مما إتولد عبد السيد بقرأ كل صباح المعوذتين، واتحصن، على عكسه أبوك الزاكي كان يوم ميلاده عادياً وأمه لم تتعب كثيراً في ولادته ولم تتعبني أيضاً.

- بس أنا عارف إنك أنتي من قام بتربيته وكنت بتحبيه، وهو كان متعلق بيك، حتى خرج من بيتك إلى العالم.

وضعت يديها على خديها وهي تأخذ نفساً عميقاً ، كأنما تجتر معه سيل من الذكريات:

- السارة كانت صديقتي وعزيزة علي لكن بعد موتها بعد سنتين من ولادته كنت أنا شبه مسئولة عنه. كان ملعون من هو صغير، بس الآن وين هو مما فارق الزقاق ما رجع سأل مني. 

لا يغيب ذلك اليوم عن ذاكرة الرضية ، حتى وإن مارست تغييبه متعمدة. حتى في منامها يراودها رأس عبد السيد، الخارج من مجاهل لم تختبرها من قبل.. وكأنه يريد العودة والولوج داخل رحمها لتهب فزعة مستعيذة بالله من الشيطان الرجيم.

كان ذلك يومٌ لا يشبه بقية الأيام، أو هي ليلة لا تشبه ليالي الشتاء، حين فاجأ المخاض السارة قبل وقت كافٍ في تلك الليلة، ولما تأخر اكتمال انقباض عضلات رحمها، تثاءبت الرضية في تلك الأثناء مطمئنة لتأجيل الأشياء في دواخلها حتى انزياح العتمة، وهي تقول في كسل:

- فأل خير أن وُلِد مع بزوغ الفجر.

هكذا بثت شحنة أخرى في قلق مروان المنتظر في الخارج، مشيحة بوجهها بعيداً، متسربة منها الرغبة العارمة في رؤية فخذي إمرأة منفرجين وبطن منبعجة وحنجرة مثقوبة بأنين أقرب للفحيح خارج من صدر السارة المتوجعة أو من داخل رحمها.

ثم جاء عبد السيد في تلك اللحظة، لحظة لا انتماء لها لا للنهار ولا لليل، في فجوة زمن من الصعب الإمساك بملامحه. في تلك اللحظة التي فصل فيها الرب بين النور والظلمة.. ولكنه رغم ذلك وُلِد مطلقاً صرخته الأولى والرضية تقلبه رأساً على عقب لتضربه خفيفاً على مؤخرته بعد أن قطعت الحبل السري بتثاؤبها المستكين الذي تلاشى مع استمرار الصرخة.

وُلِدَ، وضوء أخضر منبعث من عينيه أحال البهجة الملوثة برزاز الضوء الباهت الصادر من المصباح الزيتي إلى حواجب منعقدة دهشةً، ما بين مأخوذ بذلك ومستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ومن باغتته الصدمة. وتلك البهجة التي انتظمت دواخل الحاضرين من أهل الزقاق، التقطوا ذبذباتها قبل رعشة الميلاد الأولى، وقت أن كانت السارة متجولة وسطهم ببطنها المنتفخة، وظلت حبيسة اشتهاء متمدد على جنبات صدورهم توقاً لإلفة يبحثون دروب مدها في تحاياهم اليومية، واثناء إحتفائهم بالقادمين الجدد.. بهجة توسدت رغباتهم في علاقات جديدة لم تتجاوز طور العلقة بعد.

السارة أول من أتاها الطلق هنا في الزقاق، ليولد عبد السيد ممتلئاً لحماً وعظاماً وروحاً وذاكرة خالية إلاَّ من رؤى ضبابية لزجة لزوجة الغشاء الذي مزقه بعنفوان قدميه، وخضرة تملأ إنسان عينيه، مفتتحاً دفتر الحياة والموت في الزقاق.

غمغمت عجوز في آخر الغرفة مأخوذة بتلك الهالة الخضراء، وصدرها مختلج بمشاعر شتى:

- ود الغلفاء جاء في غفلة من الزمن.

كانت السارة بالفعل غلفاء لم تطأها موس قابلة، مما جعلها تضع مولودها في يسر مثيرةً اشمئزاز الرضية التي لم تعان كثيراً في أول تجربة حقيقة لها، ولم تستمتع بصرخات الألم الصادرة من صدر السارة لتطلق في وجهها بعض العبارات البذيئة التي تطلقها القابلات المحترفات في مثل تلك الحالات، يطلقنها وهن أكثر استمتاعاً باللحظة أكثر من كونهن غاضبات، لتستقبل الرضية عبدالسيد متثائبة. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق