الحرب يشعلها المطر - رواية 6

 كانت الحرب قد وضعت أوزارها منذ عامين في جبهات حرب التحرير عندما اقتحم الثوار أسوار العاصمتين في الهضبة واتضحت معالم الحدود بينهما، وعاد الهدوء إلى الحدود الشرقية وأصبحت طرقات عبور الحدود وإلى العمق أكثر أماناً وأكثر حواجز تفتيش دون أن تعكر صفو حالة النشوة بالنصر التي شملت كراماتها الجميع. لكن الحرب اشتدت ضراوة في الجنوب وفي المناطق التي طالتها جحافل القوات الثائرة وسيطرت عليها في مناطق أخرى.

صورة الغلاف: فيصل تاج السر

صار الواقع أشد قساوة من ذي قبل، وازدادت أعداد الهاربين من الجحيم إلى الجنات الطارئة. يتوافدون إلى المشاريع الزراعية من كل فجاج الأرض هرباً من الحرب والفقر والعوذ، يسيرون بلا هدىً ولا هدف، وبلا أماني عريضة. 

كان هذا العام هو الأكثر جفافا لقلة الأمطار في هذا الموسم، أثر ذلك على ناتج الحصاد في المشاريع الزراعية وعلى العائد المتوقع في نهايته. وما زاد الطين بلة هو الهجمة الحكومية الشرسة على كل شيء، فبعد أن استنزفوا التجار والعاملين في المدن والقرى ولم تكتف خزينة الدولة التي تطالب بالمزيد لتستمر محرقة الحرب، وصل جباة الضرائب ونصبوا خيامهم بقوة سلاح الشرطة على أبواب المشاريع وفي الطرقات الحاكمة، ليتحصلوا على نصيب الدولة عينياً ومضاعفاً على غير العادة، وسط احتجاجات أصحاب المشاريع الذين اعتادوا دفع ما عليهم في أوقات معلومة وفي أسواق المحاصيل نقداً، وطال الأمر هذه المرة العمال الزراعيين أنفسهم، بإجبارهم على دفع ضريبة الدولة والزكاة المستحقة عليهم.

وجد آدم نفسه خارجاً هذه المرة "من المولد بلا حمص"، وكان قد بذل نفس المجهود الذي يبذله عادة كل سنة، رغم ذلك انطلق مع رفيقيه إيليا وإسحق دوكة في رحلتهم المعتادة في اتجاه الحمرة، بعد أن أرسل لأمه نصيبها. 

لم يلحظ أنه أصبح يبدي اهتماماً لمحطات الإذاعة أكثر من ذي قبل، خاصة بعد أن بدأت إذاعة خاصة تبث برامجها أثناء وقت القيلولة بعد منتصف النهار، وتشتم في سياسات الحكومة وتكشف الكثير من الأسرار المثيرة والأحداث التي تجري في العاصمة وفي مدن أخرى. لكنه خلال العامين الفائتين تفتح ذهنه على أشياء مختلفة ما كان يفكر فيها عادة، وهو يتكشف جوانب جديدة من حياة ألماظ، التي تماثله في العمر، مستحضراً روح جده وحكاوي فاطمة. 

وقفوا ثلاثتهم هذه المرة عند شجرة الموت، تلك الشجرة التي تقف عند خصر البلدة وتنشر ظلها طويلاً وتمثل أشهر معالمها بالنسبة للكادحين. كانت هي الملاذ الأخير لليائسين والمرضى، شيء عادي أن توجد جثة لميت تحت ظلها وكأنها درب أرواح الأشقياء إلى السماء. الأمر ليس عادياً أن يتجمع هذا الحشد تحت شجرة الموت. فالموت أمر عادي هنا وستجد الجثة من يواريها الثرى سريعاً فلا أحد يحتمل رائحة الموت، ولا يستحق هذا الجمع من الناس.

ألجمته الدهشة وهو يرى عثمان الطاهر، ابن مدينته وأشهر أبناء الحي، يقف وسط الجمع ووراءه عدد من الشباب لا تشبه ملامحهم تلك التي اعتاد على المرور بجانبها دون أن تلفت انتباهه. وعثمان يلوح بيديه وهو يتحدث إلى الواقفين حوله بصوت عالٍ ومعه بعض الأوراق في يده يوزع منها هنا وهناك. كان التجمهر في نهايته عندما قال عثمان للحاضرين وهو يختم حديثه:

- يجب أن تتحول هذه الشجرة إلى شجرة الحياة منذ الآن لا الموت، الأمر بيدكم أنتم في التغيير وإلا ستظلون دائرين في دوامة تنتهي بكم إلى هذا المصير. دعونا نتكاتف ونعمل لتحقيق هذا التغيير.

إنها لغة جديدة تطرق مسامعهم، بعضهم اكتفى بهزة من رأسه علامة الموافقة على هذا الرأي لكن دون فعل ملموس، فسرعان ما انفض الجمع إلى سامره، إذ كانت تلك الأيام الأولى لما بعد الموسم ويريد الجميع أن يعوض ما فاته طوال أشهر السنة. تفاجأ عثمان بوقوف آدم أمامه معترضاً طريقه وهو يحييه قبل أن يمد إليه يديه بحرارة، وكثير من الأحاديث عن الأهل والأحوال.

- لم أتوقع إطلاقاً أن ألتقيك هنا. ثلاث سنوات يا آدم منذ آخر مرة التقينا أمام منزلكم .. لا أذكر جيداً، لكن أظنها ثلاث سنوات.

- تقريباً.. منذ أن عرفنا بنبأ اعتقالك مرت ثلاث سنوات. لكن عرفت إنهم أطلقوا سراحك منذ مدة طويلة واختفيت.

- صحيح اختفيت، لأني سافرت، بل هربت إلى مصر بعد أن منعوني من السفر ولم يسمحوا لي بالحصول على جواز سفر حتى.

ثم تابع:

- المهم .. ماذا تفعل أنت هنا وهل ستبقى لأيام أم ستغادر سريعاً؟

عندما قال له آدم بأنه سيبقى في الحمرة لأسبوع على الأقل، أصر عثمان أن يذهبوا معهم بعد أن تبادل كل منهما التعريف برفقائه.

- لدينا مكتب هنا، استأجرنا منزلاً في الناحية الشرقية سيكون مفتوحاً باستمرار. وأنا سأظل بعض الوقت هنا قبل أن أغادر. 

نظر آدم إلى إيليا وإسحق، قبل أن يقترح على عثمان أن يلحقوا بهم بعد ساعات، فهم وصلوا الآن ولديهم بعض الأشياء لينجزوها، وسرعان ما افترقوا في اتجاه مركز البلدة. كان آدم مملوءاً بالرغبة في لقاء ألماظ ويفكر في قضاء كل هذا اليوم معها قبل أن يفكر في أي شيء آخر. اقترب من البيت، ولاحظ أن الحركة التي اعتاد أن يجدها لا أثر لها، ولا أثر لألماظ وجلستها المعتادة خلف الموقد وألسنة دخان البخور ورائحة البن المميزة التي أصبح يميزها من بين روائح البن الأخرى المنبعثة من كل الأرجاء. انتابه قلق فانحرف دون تردد إلى المتجر المجاور لسكنها، ووجد أببا تزاول عملها داخل المتجر ومشغولة بالبيع لبعض المتواجدين قبالتها.

لم يستغرق وقتا طويلاً ليعرف أن ألماظ غادرت الحمرة منذ شهر واجتازت نهر سيتيت إلى أريتريا في طريقها إلى مدينة تسني، ثم ستذهب إلى موطن أمها في مندفرا بالمرتفعات. هكذا وصلته الرسالة عبر أببا وهي لا تزال مشغولة بعملها دون أن تدعوه للجلوس مثلما تفعل في أوقات فراغها. أصابه الوجوم قليلاً، فقد اعتاد وجودها كلما جاء ومتى ما جاء مسكون بالتعب، فتزيل عنه رهق المسافات الطويلة وعناء المشاوير بضحكاتها وقهوتها ثم تأخذه إلى أعماق عالمها الآخر، تدرك أسرار وطلاسم شفرته فتحلها في سهولة ويتلاشى صخب البلدة كلها، بل يتلاشى كل شيء سوى عالم متخم بالنشوة يغمرهما. وها هو المكان خالٍ الآن يحيط به سكون لم يألفه رغم امتلاء الشوارع حوله بالغادين والرائحين وصيحات الباعة المتجولين وأصوات الغناء المرتفعة قادمة من جوف الحانات ومن أطراف المقاهي، كل هذا وإحساسه بالسكون والفراغ يتصاعد. غريب أمره؛ فهو لا يجد بأساً في أن يقضي وقته في أماكن أخرى وله صداقاته وعلاقاته العابرة أثناء تجواله بتجارته بين البلدات والمدن الصغيرة، فهو يقضي معظم شهور السنة في رحلاته، لكنه لا يشعر بحنين خاص إلى مكان سوى هذا البيت الذي يقف أمامه الآن في حيرة من أمره، منذ اللحظة التي يستنشق فيها الهواء بتلك الرائحة المميزة.

وجد قدميه تقودانه إلى حيث يمكن أن يجد رفيقيه أو أحدهما، ولكن قبل أن يصل منتصف الطريق المؤدي إليهما قفز إلى ذهنه عثمان الطاهر، وتذكر وعده بزيارته في المكتب خلال اليوم، فانطلق متجهاً صوب الناحية الشرقية من البلدة حسب وصف الموقع في ذاكرته.

استقبله عثمان الطاهر بحفاوة عهدها فيه منذ أيامه في الحي. لم يكن يكبره كثيراً في السن، لكنه منذ تخرجه من الجامعة التي درس فيها القانون، وبعد شهور قليلة من الانقلاب العسكري اعتقلته السلطات الأمنية مع آخرين، قبل أن يتمكن من الالتحاق بامتحان المعادلة ويبدأ مشوار مهنته التي هيأ نفسه لها. كان اعتقاله مثار استغراب لأهل الحي، فهم يعرفونه كابن لهم يقدم خدماته للجميع منذ نعومة أظفاره، تميزه دماثة خلق رفيع. كان يساعد تلاميذ المدارس أثناء عطلته السنوية في استذكار دروسهم، ويقيم للجالسين لامتحانات الشهادة معسكراً في دار أسرته إلى أن تبرع أهل الحي ببناء النادي بأموالهم وأيديهم، فصار مكاناً يقصدونه في مناسبات أفراحهم وأحزانهم، ومكاناً لعثمان ومن جاءوا من بعده يقدمون فيه الدروس مجاناً. خلق النادي مناخاً دفع الناس للاستفادة منه، وتطور الأمر إلى إقامة ندوات في السياسة والثقافة والتوعية، ومركزاً لتطعيم الأطفال، وصار يعرف بنادي ود الطاهر رغم اللافتة التي تحتل حيزاً عريضاً أعلى البوابة الخارجية. 

ظل آدم يحفظ له، كما الآخرين، كل ما قدمه له من مساعدات واهتمام أثناء فترة دراسته، ويحمل له تقديراً واحتراماً جعلاه ينتظر حتى يبادره عثمان الطاهر بسبب وجوده. لكنه لاحظ قبل دخوله عربة تقف خارجاً بلوحات غريبة، وتوجس قليلاً أثناء تجواله ببصره وهو جالس داخل الغرفة عندما لمح بعض الأسلحة الآلية مستندة إلى الحائط المقابل له، لكنه آثر الانتظار. ودار حديث عادي عن الأهل والحي والنادي وعن كثير من الأشياء التي يمكن أن تجمعهما، حتى وصلا إلى الصدفة غير المتوقعة التي جمعتهما منذ لقائهما تحت شجرة الموت.

وبدأ عثمان يروي له قصة خروجه هارباً بعد أن ضيقت عليه السلطات منافذ الحياة وظل تحت مراقبتها لشهور طويلة منذ إطلاق سراحه بعد عام كامل ظل فيه حبيس جدران السجن، كانت الأسابيع الأولى فيه جحيماً داخل الزنازين الانفرادية والتعذيب الذي برع فيه جلادوه. وعندما اتخذ قراره بالخروج، كان كل شيء جاهزاً ومعداً بحيث ينطلق من الحدود الشرقية إلى أن يصل جنوب مصر عن طريق قوافل الإبل بمساراتها. لم يخض في تفاصيل تلك الرواية كثيراً، لكنه اكتفى بأنه وصل إلى غايته بأمان والآن هو هنا يدعو العمال الكادحين إلى المواجهة المباشرة مع الحكومة بقوة السلاح.

- تعرف يا آدم كيف تغيرت الأحوال بعد الانقلاب وحملات القهر والتسلط التي تمارسها الحكومة.. يا أخي حتى النادي.. تذكر النادي الذي أصبح متنفساً للحي حولوه لمجرد بناية مشوهة لا يستفيد منها أهلنا.

حديث طويل يتدفق من داخل عثمان عن الثورة ضد الظلم والفساد الذي اجتاح البلاد بطولها وعرضها، وآدم منصت يومئ مرة علامة الموافقة على ما يقوله وأخرى يسرح بفكره بعيداً تتراءى له صور الثلاثة أعوام التي قضاها متجولا بين قرى وبلدات المنطقة وعابراً الحدود إلى الحبشة وأريتريا، وحياة المشاريع الزراعية القاسية التي تقابلها أيام قليلة نهاية موسم الحصاد تزدهر فيها أرواح وأجساد الهاربين من قسوة عام كامل. كان يفكر في إيليا بسنواته الخمسين وهو يكافح لهزيمة كل بوادر يأس يمكن أن تتسرب إلى نفوس من حوله وهو يحثهم على مزيد من الجد لأجل عائد يستحقونه في نهاية المطاف.

كثير من العاملين هاربون من جحيم الحرب وويلاتها في مناطقهم، وآخرون هاربون من ضيق العيش وانسداد الأفق والحرب ليست بعيدة عنهم. كلهم بسحناتهم المختلفة وألسنتهم المتنوعة جمعتهم تلك الأرض هبة المطر الأكثر أماناً، وملامحهم تتقافز أمام ناظري آدم، منهم الدينكا والشلك وإيليا إين الاستوائية، ومنهم من أقصى الغرب مناطق سمع عنها وأخرى لم يسمع بها من زالنجي وكاس والضعين وهؤلاء من أقصى الشمال وأولئك من جبال النوبة والبعض حمل حقائبه وغادر أواسط البلد وأبناء الشرق هم أهل المنطقة أصلاً، وآخرون مطبوعة في وجوههم جبال الأنقسنا ويجري في دمائهم النيل الأزرق، كم كانت سعادتهم وفرحتهم تلك الليلة عندما اختار إيليا طقس جدع النار الذي يبدأون به موسم الحصاد في مناطقهم، واحتلوا الساحة برقصاتهم وأغانيهم المميزة. كل تلك المشاهد تجمعت في صورة واحدة أمامه، وألماظ كيداني واقفة هناك في أقصى الإطار وهو يتابع حديث عثمان الطاهر الآن، إلى أن قال له:

- يا آدم .. ليس هناك حل إلا أن ندفع هؤلاء الغلابة لحمل السلاح لشن حرب على الحكومة، فهي السبيل الأقوى الآن للضغط من أجل استعادة الحريات والحقوق للناس.

قال له وهو يبدي بعض الاستيعاب لما يقوله محدثه وبعض حماسة:

- لكنهم أصلا هم هاربين من جحيم الحرب هناك.

توقف عثمان قليلاً عند ملاحظته، ثم تابع:

- الهروب لا يفيد، فالحكومة هي من يدفع الناس إلى الحرب، بعد أن سدت كل المنافذ في وجوهنا. وهي الآن تحاول تصدير الأزمات إلى جيرانها بعد أن استعصت عليها أزماتها. علينا مواجهتها بكل الوسائل، وحمل السلاح هو الوسيلة الفاعلة الآن وهناك آخرون يؤدون دورهم في أماكن أخرى.

وواصل:

- الآن بدأنا في التدريب وجمعنا أعداداً من المقاتلين جاءوا من مختلف المناطق، ولدينا إذاعة تدعو للثورة وتطرح أفكارنا ورؤانا وهي مسموعة على نطاق واسع.

قال له آدم مؤكداً:

- نعم .. كنت أستمع إليها أحياناً عندما كنا في المشاريع قبل أيام.

بوادر توتر بدأت تلوح في الأفق مع الحبشة وإريتريا على طول الحدود الشرقية، بعد أن هدأت أصوات المدافع وأزيز الطائرات التي استمرت سنوات طويلة، وتتناهى أصواتها وآثارها عابرة أثناء حرب التحرير التي انتهت بانتصار الثورة واستقلال الأريتريين فصارت الحدود الآن مع بلدين بدلاً عن واحدة. وعلم من عثمان أن حركتهم الآن سهلة بين الجارتين فهم يعبرون نهر سيتيت متى شاءوا إلى الحمرة ويعودون عبر الطريق الحدودي داخل إريتريا إلى أن يصلوا معسكر التدريب في أقصى شرق الإقليم.

قال آدم:

- إذاً ها هي الحرب تطرق دارنا هذه المرة، بعد أن كنا نسمع عنها.

ابتسم عثمان وهو يرى أنه اقترب من هدفه، وقال:

- عليك مساعدتنا في تجنيد عدد من المتواجدين هنا، فأنت تعرف الكثيرين منهم، وستغادر معي بعد أيام لتقف على حقيقة الأمر بنفسك ولن تندم.

سألته فجأة عن صديقي سعد الذي لم ألتقه مذ فارقته منطلقاً في رحلتي الأولى، علمت أنه سافر إلى مصر أثناء غيابي. كان عثمان الطاهر من أبناء عمومته ونشأ بجوارهم. حدثني عنه وفي صوته بعض استياء، فمنذ وصوله مصر اختار أن يمضي في طريق اللجوء والعيش بما تجود به المعونات، فأصبح مثل كثيرين هناك لا يهتمون بشيء سوى قضاء أيامهم في ضياع ويأس. لا أدري لماذا بدت لي كل الأمكنة والأزمنة متشابهة أثناء حديثه عن سعد.

بعد ثلاثة أيام قضيتها مع عثمان ورفاقه في الدعوة إلى العمل المسلح والالتحاق بقطار الثورة والقتال، غادرنا الحمرة وبصحبتي إيليا وإسحق دوكة وآخرون وافقوا ليغادروا الواقع البائس الذي يعيشونه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق