الحرب يشعلها المطر - 7

 لم يكن ذلك اليوم في مقر القيادة، مثل تلك الأيام التي تمر في هدوء وتبدو فيها الحركة عادية، عندما توقفت العربة ونزل منها مجذوب لأول مرة بصحبة قائد الجبهة منتصف النهار. الكل مشغول بتتبع أخبار وتفاصيل المعركة الأخيرة الدائرة رحاها في مواجهة القوات الحكومية وجماعات من المجاهدين التي تساندها.

لوحة الغلاف: فيصل تاج السر

بدأ هجوم المقاتلين قبل طلوع الشمس، ولا يزال القتال دائراً حتى اللحظة. الغرفة الأكثر اهتماماً في تلك اللحظات هي موقع طاقم العاملين في جهاز الإشارة ويتابعون الموقف لحظة بلحظة، منذ بدء هجوم المقاتلين على أهم المعسكرات التي تتمركز بها القوات الحكومية. وجد مجذوب نفسه في موقف تمنى لو يعود أدراجه من حيث أتى، بعد أن دخل قائد الجبهة إلى غرفة العمليات مباشرة دون أن يهتم بمرافقه كثيراً. 

زاد توجسه الذي لازمه منذ أن غادرت الطائرة مطار عنتيبي في كمبالا وإلى هبوطها في مطار أسمرا وأثناء تلك الرحلة التي استغرقت قرابة الست ساعات إلى أن وجد نفسه هنا في هذا الوضع. لكنه تجاهل الأمر فالأحداث التي مرت به خلال السنوات الماضية كفيلة بأن تجعل كل الأشياء تبدو عادية، ولا تثير انزعاجه وتقلقه. فهو منذ لحظة أسره في الجنوب بعد معركة شرسة دارت رحاها بين القوات التي وجد نفسه قائداً لها، وكانت القيادة قد كلفته بزيارة معسكرها للإعداد لزيارة قيادة الأركان للمنطقة، وبين قوات التمرد، كان يضع في ذهنه أسوأ الاحتمالات التي ستواجهه بعد أن أصدر قرار استسلام ما تبقى من الجنود إثر مقتل قائد المعسكر وانهيار الدفاعات وسيطرة المهاجمين على محاور النيران والمدفعية بتدميرها وتحييدها وبدأت طلائعهم في اقتحام الخنادق .

لن يبارح ذاكرته ذلك الصباح الخريفي بعد أسرهم بيوم واحد، وتلك الليلة التي قضوها يتقلب هو والآخرون على مياه الأمطار الجارية بغزارة بين أجسادهم ورائحة الوحل. لم يكن ذلك ما يقض مضاجعهم، بل رائحة الموت الذي نجوا منه ولا يزال محلقاً فوق رؤوسهم طوال الليل، كل التوقعات، كل الاحتمالات لا تقود سوى إلى طريق واحد ينتظره مصيرهم. وعندما انحسرت السحب الكثيفة ولاحت شمس الصباح، كانت هناك عربة نقل في انتظارهم، صعدوا إليها واحداً تلو الآخر وعلى ظهورهم مصوبة أفواه البنادق وتلك النظرات الغاضبة تخترق ظهورهم، دون أن يعلموا وجهتهم، لكنه وبحسب خبرته وتقديره للموقف الذي أمامه رجح ترحيلهم إلى مقر قيادة القوات الشعبية التي يتواجد فيها السجن الكبير للأسرى. ويعلم أن الوصول إليه سيستغرق أكثر من يوم مع الطرقات الموحلة هذه الفترة من السنة ووعورتها الطبيعية في الأحوال العادية، لكنه تنفس الصعداء قليلاً وهو ينظر إلى وجوه المقاتلين الكالحة وهم ممسكون بأعقاب بنادقهم، ووجوه رفاقه المرهقة التي غطاها بعض من انكسار وشيء من غضب.

أجواء الحرب والموت جعلت من الطقس الاستوائي في هذا الوقت شيئا لا يطاق، تلك الرطوبة العالية التي تخنق الأنفاس وحركة العربة في تلك الطرق الوعرة زادتا من مشقة الرحلة الطويلة، إلى أن وصلوا في منتصف اليوم التالي إلى وجهتهم النهائية. أخذوا مجذوب دون بقية الأسرى في موقع منعزل بينما ذهبوا بالآخرين إلى السجن الكبير، وفي ظروف أفضل قليلاً من الليلة قبل الماضية وتركوه لعدة أيام في هذا الوضع إلى أن اقتادوه إلى غرفة فيها بعض ضباط القوات الشعبية ويجلس خلف المكتب الذي يتوسطها قائد تزين كتفه نجوم ونياشين معلقة على صدره، وبدأ تحقيق مطول ومكرر معه استمر لأسابيع طويلة تخللتها صنوف من التعذيب النفسي والجسدي والتهديد بالقتل، لكنه كان يلمح ما وراءه ولم يكترث كثيراً. هم يعلمون كل المعلومات التي كانوا يسألون عنها، لذلك كان الأمر بالنسبة له تحصيل حاصل إلى أن قرروا إلحاقه ببقية الأسرى.

ستة أعوام قضاها بين مد الأمل وجزره، وحوله كثير من الجنود الأسرى وضباط أعلى وأقل منه رتبة منهم من سبقوه وآخرون لاحقون مع استمرار القتال. بعضهم سُجِّل في دفاتر الموتى هناك، فإذا بهم أحياء يرزقون ولكن لا أحد يعلم عنهم شيئاً إلى أن تفاجأ بهم أمامه حين اجتاز المدخل. منذ ذلك الوقت ظل يتمتع بحقوق رتبته مثله وبقية الضباط ولكن كأسرى حرب وذلك لم يغير من واقع الأمر شيئاً، فيما كان الأسرى من الجنود يستغلون في عمل سخرة مستفيدين منهم في كثير من الأعمال الشاقة والخفيفة. 

 ابتسم رغماً عنه وهو يجول ببصره في موقعه الجديد، وينظر إلى تلك الجبال وبينها الأرض القاحلة الممتدة تخترقها وديان جافة، هو يعرف تفاصيل هذه المنطقة وطبيعتها لأنه عمل فيها لعدة أعوام بعد تخرجه من الكلية الحربية وهو يحمل رتبة الملازم. فرق كبير بين طبيعة الحرب هنا وتلك الحرب الدائرة في الجنوب بين الغابات ووحل الأمطار الاستوائية وتلك الصخور الجرداء والأرض المنبسطة لا يحدها البصر.

الحرب هي الحرب، ذات الرائحة والطعم الذي طالما علق بذهنه وهو يقود قواته في الجنوب وعندما تنتهي وقائع معركة. هذا ما يظلل المكان الذي وجد نفسه فيه وحيداً غريباً الآن. حركة المقاتلين الخارجين والداخلين وهم ينتظرون في لهفة تفاصيل تلك المعركة التي أطلعه على انطلاقها قائد الجبهة وهم في منتصف الطريق. 

لطالما كره الحرب، وهو يعلم الممسكين بخيوطها في مركز اتخاذ القرار عندما استلم إشارة نقله إلى الجنوب مرة أخرى. غادر حينها وهو أكثر قناعة بلا جدوى مما يجري، لكنه ابن للزي الذي يرتديه وبار بالقسم الذي أداه وملتزماً بمطلوبات مهنته التي تحتم عليه تنفيذ أي أمر صادر إليه. عليه التنفيذ فتحت إمرته ضباط وجنود لابد أن يكون مثالاً لهم حين يصدر أوامره في ميادين القتال. 

قناعة عدم جدوى الحرب ترسخت لديه أثناء قضائه فترة عمله الأولى هناك، وهو يعيش أجواء السلام الذي استمر لسنوات بعد تلك الحرب الضروس، قبل أن تنطلق الشرارة مرة أخرى. أجواء تبدلت فيها الأحوال غطت وجوه الناس بابتسامات افتقدوها. فبدلاً من تلك الوجوه المرعوبة أثناء محاولتها الهرب كلما انطلقت صافرات الإنذار، عادت روح المناخات الاستوائية إلى الأجساد لتفك أسر أحزانها وتحولت الأمسيات، لا بل وكل الأوقات إلى مهرجانات من الرقص والفرح طوال العام، والجميع مقبلون على أعمالهم بتلك الروح. تلك بقاع لا يساورها القلق في حياتها إذا ما فارقتها الحرب.

الأشجار التي قاومت الحريق زمناً طويلاً عاد الاخضرار يكسوها تنضح بالندى من فرحتها، فالحرب شوهت طبيعتها فما عادت تثمر كما كانت ولا ظلها هو الظل. والحب الذي اختبأ خلف نظرات الكره والغبن الذي زرعته آلهة الموت، لمع بريقه وتدفق في الطرقات، كيف لا .. وإيفا تلك الغابة التي تعشق المطر.. سليلة حريق الصواعق الذي لا تطفئه ماء سوى مياهه التي ترويها. تفتحت ورود الحب داخلها منذ أن احتواها، وغادرتها الأشواك التي زرعتها الحرب داخل ثنايا صدرها.

انتبه مجذوب لنفسه، بعد وقت قصير، وانتفض جسده دون إرادة منه، عندما أدرك حقيقة أنه الآن في واقع مختلف يتوسط ساحة معسكر القيادة الذي وصله قبل قليل، وهو يرى أمامه طيفاً من المقاتلين اختلفت ألوانه يتحركون في حيوية داخل الأسوار وخارجها، يعتلي بعض الأفراد من قوة الحراسة تلك الأبراج التي ترتفع نحو أربعة أمتار عن الأرض وموزعة في الأركان. ما جال بخياله أن يرى كل ملامح الوطن هنا وفيهم من قاتلهم سنين عددا وعاش أسيراً لسنوات بينهم. صحيح أن القوات الحكومية كانت تضم جنوداً من كل الأنحاء، ويقاتل ضمن صفوف قوته أبناء من الجنوب، يصدر أوامر المعركة ضابط جنوبي أعلى رتبة منه لينفذها دون تردد. كان يصدر أوامره أثناء المعارك لقواته التي تقاتل في خندق واحد، لم يفكر في هذا الأمر إلا في آخر معركة، تلك التي ساقته إليها الأقدار حتماً، عندما رأى قائد القوة الرائد نلسون يقاتل بشراسة دفاعاً عن معسكره، متأملاً في ملامحه الصارمة وتخرج الأوامر منه عبر الجهاز متابعاً سير معركة صد الهجوم الذي شنته القوات الشعبية، إلى أن أصابته شظية سقط على إثرها صريعاً بجواره. تساءل، حينها، عن سبب وجوده هنا وعن ماذا يدافع وأبناء جلدته هم من يهاجمونه الآن. حينها أدرك عبثية تلك الحرب، وأن الأمر لا يتعلق بكل ما هو معلن بل أكثر سطحية لا تستحق كل هذه الدماء التي أريقت. 

استدرك لحظتها أن عقله مشوش بفعل إرهاق السفر وهو يقول في نفسه "ما الذي يحدث؟ الوطن يقاتل الوطن في كل مكان.. نفس المشهد يتكرر منذ تلك السنوات يحمل ذات الملامح والتفاصيل".

ثم انتبه عندما وجد يداً ممدودة إليه وصوتا يلقي عليه بالتحية:

- حمد لله على السلامة.. كل الموقع يرحب بك سعادتك.

خرجت منه زفرة هادئة وهو يرد التحية بمثلها.

- أنا آدم مسؤول في شعبة الإدارة في موقع القيادة.

- أنا مجذوب سلمان.. جئت مع ....

كنت أعلم من الواقف أمامي وكثير من التفاصيل عنه قبل استلامي إشارة قائد الجبهة بموعد تحركهم وبصحبته المقدم مجذوب. قصاصات الصحف التي كانت تصلنا، بين الحين والآخر، كانت لا تحمل بين طياتها غير الأخبار التي تجاوزها الزمن قصصا وحوارات وكتابات، من بينها بعض من قصة مجذوب التي تداولتها الصحف وروى جزءا منها في حوار معه بعد إطلاق سراحه.

قصة أسرى الحرب الذين أطلقت سراحهم القوات الشعبية في الجنوب، بالاتفاق مع قوات الثورة التي بدأت تتشكل ملامحها على الحدود في الشرق، كانت تملأ الصحف قبل اكتمالها، وكان المقدم مجذوب من أشهر الأسرى والأعلى رتبة من بين الذين طلبوا الالتحاق بالقوات المقاتلة في الجبهة بدلاً من العودة إلى العاصمة، ومواجهة ما سيكون في انتظاره بسبب تعقيدات القوانين العسكرية التي يعرفها. فإن لم يُحَل إلى المحكمة فمصيره التقاعد ولعنة الأسر التي ستطارده.

ولغياب قائد الشعبة بيتر كلفني قائد الجبهة من داخل غرفة العمليات بالاهتمام بالقادم الجديد حتى ينتهي من متابعة الموقف الميداني.

قلت وأنا أحمل عنه حقيبته متقدماً باتجاه السكن المخصص له:

- إلى حين عودة القائد بيتر مسؤول شعبة الإدارة سأكون متواجداً في الجوار إذا احتجت أي خدمة. 

لم أغب طويلاً، فبعد نهاية اجتماع قائد الجبهة رافقته وبصحبتي إيليا للاطمئنان على مجذوب. كانت معركة اليوم هي محور الحديث الذي دار بيننا، والقائد يقول له مبتسماً ممتلئاً بالنشوة:

- فأل حسن وصولك اليوم، انتصار كبير حققه المقاتلون وكثير من الغنائم استولوا عليها، ولكن قدمنا عدداً من الشهداء.

تابع مجذوب وصف المعركة وتفاصيلها كعسكري خبير بشؤون القتال والقائد يرسم على الأرض ميدانها بدقة، ثم تحول الحديث إلى السياسة تتخلله بعض الذكريات والأحداث العامة، وينحرف إلى سيرة الحرب منذ اندلاعها قبل أكثر من أربعين عاماً في الجنوب والثورات التي انتفضت فيها الجماهير.

شعرت بإلفة تجاهه وأنا أتابع تعليقاته، لكني أراقب عينيه التي تسترق النظر من حين لآخر إلى إيليا إلى أن صاح بصوت كبح جماح ارتفاعه بقوة:

- إيليا!!!

التفت إليه رفيقي في دهشة تملكتنا نحن أيضاً، وهو غير قادر على الإمساك بأطراف ذاكرته محملقاً في وجه مجذوب عسى أن ينفذ إلى علامة تدله على محدثه.

لاحقه مجذوب بضحكة قصيرة، وهو يقول له:

- كنت متوقعاً أن يصيبك الزهايمر وتفقد ذاكرتك، لكنك لا زلت تبدو شاباً.

وبعد ثوانٍ من الصمت، وأنا والقائد في وضع ترقب لما يدور، قفز إيليا متجاهلاً وجودنا ودمعة تماسكت أطرافها في عينيه:

- مجذوب سليمان! سعادتك! مجذوب بتاع إيفا!

أذاب الموقف المشحون بالعاطفة كثيرا من الجليد، واتصل الحديث عن ذكريات بينهما من عالم آخر كان وقتها إيليا جندياً في سلاح المظلات، القوة المساندة للمشاه في بعض المعارك التي جمعتهما معاً. كان هذا ما يحتاج إليه مجذوب في تلك اللحظة، موقف كهذا تهتز له أركان وجدانه التي تآكلت بفعل صدأ سنوات الأسر الطويلة، ووجد في حضن إيليا بوابة للعبور إلى العالم الجديد الذي ينتظره. 

ومع آخر النهار بدأت القوات التي خاضت معركتها الكبرى تصل إلى المعسكرات، وفي مقدمتها عربة تحمل جثامين الرفاق الذين فقدناهم. تلك لحظات مهيبة فيها شيء من الجنون واللا منطق، تتضارب فيها مشاعر الحزن بنشوة النصر. المقاتلون تنطلق صيحاتهم وأهازيجهم أثناء تقدمهم، يتلون أناشيد النصر هاربين من مشاهد الموت ليتناسوا الفجيعة. 

أطلق أفراد من القوة سبع طلقات في الهواء، قبل مغيب الشمس، إيذاناً ببدء مراسم دفن من فقدناهم في تلك المعركة الكبيرة، يخيم على الجميع حزن طاغٍ. أما حزني فكان خاصاً ودموعي تخشى السقوط في موقف لا تغسل الأحزان فيه سوى الدموع، وأمامي جثمان إسحق دوكة مسجى بين رفاقه، هارباً بنظراتي إلى كل فضاءات الكون إلا وجه إيليا، أعلم أنه سيكون نقطة ضعفي. أربعة أعوام قضيناها منذ أن انطلقت بنا العربة من الحمرة بصحبة عثمان الطاهر إلى أن أكملنا التدريب العسكري الذي كان هروبنا منه أحد أسباب وجودنا معاً في زمن الحصاد وأزقة الحمرة. اخترناه الآن بكامل وعينا. تم توزيعنا إسحق وأنا معاً إلى موقع متقدم في الخطوط الأمامية للجبهة، قبل أن يختاروني للعمل في شعبة الإدارة بعد شهور، أما إيليا فاختاروه للبقاء مدرباً لخبرته وانتقل بعد أكثر من عام لينضم إلى مركز القيادة مع الطاقم الإداري.

توتر أجواء الخنادق وتلك القشعريرة التي تسري في البدن قبل العمليات الصغيرة التي خضناها ولحظات القلق والترقب أثناء نصب كمين لقوة متحركة من القوات الحكومية، كلها جمعتني بإسحق أول عهدنا. غطت سماءنا كل الفصول، خضنا أول عملية عسكرية كاملة الدسم معاً، بدأنها من فصلها الأول عندما اختارنا قائد السرية مع اثنين من المقاتلين ذوي الخبرة من وحدة الاستطلاع. لا شيء يعتمد على الصدفة لدى قائد غرفة العمليات ولا لدى قائد السرية، ولا مجال لخسارة في الأرواح التي يصعب تعويضها. 

ظلت طلائع الاستطلاع تقوم بمهامها في رصد حركة معسكرات القوات الحكومية باستمرار، بالطرق الأولية لجمع المعلومات مثلما جرت العادة عن طريق السكان المحليين قبل أن تنطلق العمليات العسكرية فعلياً، إلى أن اكتمل تكوين وحدة الاستطلاع المباشر للتأكيد على كل ما تم الحصول عليه من معلومات والوقوف عليها بدقة.

قال لنا قائد السرية في توجيهاته الأخيرة قبل انطلاقنا الجملة الروتينية التي اعتاد أن يختم بها:

- نجاح هذه المهمة يتوقف على نجاحكم في رصد حياة المعسكر بكل تفاصيلها. أن نحقق هدفنا ونعود دون خسائر يعتمد عليكم، وإن فشلنا أو كانت بيننا خسائر ولو بنسبة بسيطة فهو دليل فشلكم وعدم قدرتكم.

انطلقنا نحن الأربعة لتنفيذ المهمة قبل غروب الشمس، وهي مهمة ستستغرق عدة أيام إن لم تتجاوز الأسبوع على ضوئها ستحدد غرفة العمليات الخطوة التالية. تزودنا بما يكفي من الماء والوجبات الجافة وما يلزم لقضاء عدة أيام في موقع الارتكاز الأخير الذي حددناه والمطل على معسكر القوة الحكومية. 

الطريق طويلة، والمجرى المائي برماله الكثيفة يعيق مرونة الحركة ونحن نحمل أسلحتنا ومتاعنا الذي يثقل الكواهل، لكن ما من سبيل في هذه المرحلة سوى اتخاذ هذا المسار حتى مغيب الشمس. هي المرة الأولى التي سأخوض فيها عملياً مهمة عسكرية وإن كانت ليست قتالية. بعض خوف وهواجس انتابتني، تملكني إحساس بأن القوات الحكومية ستكشف أمرنا وتفشل مهمتنا قبل إنجازها. كان إسحق دوكة بجواري دائماً وتنتابه ذات المشاعر لكنه أكثر قدرة على تجاهلها. ظل مبتسماً ومتماسكا يشد من عضدي، هي تلك اللحظات التي تختبر فيها من يمشي بجوارك في هذا الطريق .. طريق الموت. لم تخذلني رفقته، وقد اختبرتها في أيامٍ رخوة وانا أصادفه في أماكن كثيرة بعد مواسم الحصاد، كان فيها كريماً ووفياً.

"ما يحدث هو قهر للخوف أكثر منه اتصاف بالشجاعة. الشجاعة لا وجود لها كصفة إلا في ظل مواقف تستثير الخوف في دواخلنا"، راودتني تلك الفكرة قبل أن يصدر قائد قوة الاستطلاع أوامره بالتوقف عند نقطة الارتكاز الأولى. حالة من الصمت التام تلف المكان، حتى أوراق الأشجار وأغصانها التي تحيط بالمجرى المائي لا تحرك ساكناً، مما زاد من تصاعد حالة الدفء في صدري التي تعتريني كلما تملكني الخوف. نعم.. كنت خائفاً جداً من ذلك السكون المريب وهواجس شتى تتنازعني يحتويها الظلام ويساعدني في إخفائها عن الآخرين حتى إسحق. كنت أقهر خوفي تحت ستار الظلام بهمسات توحي بالثبات عندما أحدق في الأفق المعتم وألمح، أو هي مجرد تهيؤات، أشياء تتحرك.

جالت في خاطري كثير من الصور والذكريات وتساؤل كبير عن جدوى الحرب التي نخوضها سرعان ما قمعته قبل أن يسيطر على مكامن التردد الذي يتفاعل مع حالة الخوف التي تعتريني فيصيبني الخذلان بين رفاقي. ما كنت متأكدا منه أن أحداً منا لم يطرف له جفن، ينتظرنا النوم في طريقنا بعد بلوغ نقطة ارتكازنا الأخيرة. كان واضحاً، من تقلبهم ذات اليمين وذات الشمال واستعجال أحدنا باستلام نوبته في الحراسة أثناء تلك الساعات القليلة التي قضيناها في وثبتنا الأولى، أن أحداً منهم لم يذق طعماً للنوم سوى قائد المجموعة. 

الآن علينا مواصلة المسيرة لثلاث ساعات قبل بلوغنا تلك التلة الصخرية مع حلول الفجر وهي النقطة النهائية التي سنحط رحالنا فيها. لكن هذه المرة علينا أن نفارق طريق المجرى المائي الموسمي إلى طريق آخر تحفه الأشجار الشوكية على جانبيه، وهي من الكثافة حيث بالكاد يمر أحدنا متقدماً الآخرين في حذر شديد فالطريق بالكاد يتسع لمرور شخص واحد. هو خيار فيه كثير من المخاطر إذا ما نصبت لنا قوة معادية كميناً بين تلك الأشجار، ستسحق قوتنا في سهولة شديدة دون أن نفكر في إبداء أي مقاومة تذكر.  لكن ما من خيار غير ذلك الطريق للوصول إلى محطتنا النهائية إذا أردنا تفادي أي حركة للناس، خاصة الرعاة الذين عادة ما يلجأون للمجرى المائي عند حلول الظلام وحولهم تستلقي ماشيتهم وأغنامهم تحرسها الكلاب. 

قبل انبلاج الفجر بقليل والظهور التدريجي لذلك الغلاف الشفاف من الضوء، ليزيح دون ضجيج العتمة الممسكة بأطراف الفضاء، اتخذت المجموعة مواقعها أعلى التل الصخري المطل على الجزء الخلفي من معسكر القوات الحكومية الذي يقع على بعد نحو كيلو مترين اثنين، لكن سطوة المنظار العسكري تجعل المشهد كله وكأنه تحت أقدامنا.

عملية الاستطلاع التي نفذناها رسخت عندي مشاعر الخوف عند بداية كل عملية عسكرية خضتها بعد ذلك.. ذلك الخوف الذي ينتشر في كل منطقة الصدر ويصل إلى الرأس، لكنه سرعان ما يتلاشى مع انطلاقة أول رصاصة ويتبدد في الهواء الطلق مع ألسنة الدخان المتصاعد. تستحيل تلك المشاعر الجارفة مع انفعالات البدايات، إلى حالة من الخدر تصيب مكامن الخوف كلما اشتدت وطأة المعركة. كنا دائماً ما نبدأ عملياتنا بالهجوم على معسكر القوات الحكومية مع مطلع الفجر وتنتهي بشروق الشمس، لنكمل انسحابنا قبل تعزيز المعسكر المستهدف بقوات حكومية من معسكراتها القريبة المنفتحة، وقتها نكون في حالة أخرى لا يتسرب إليها الخوف وقد بلغنا موقعاً آمناً ونحن في طريقنا إلى رئاسة قواتنا.

كنت وإسحق ندير مؤشر المذياع عقب كل عملية نخوضها بحثاً عن المحطات الإخبارية لنستمع إلى ما تتناقله من تفاصيل ترفع من روحنا المعنوية، لا نستثني من ذلك محطة الإذاعة الحكومية. يبدو غريباً سعينا وراء أخبار صنعناها وشاركنا فيها بأنفسنا وخضنا أحداثها. فما أن ينجلي غبار عملية عسكرية خضناها بنجاح وبلغنا هدفنا من تنفيذها أو فشلنا فعدنا أدراجنا دون أن نصل إلى هدفنا أو نطلق طلقة واحدة، في كلا الحالتين نعود إلى مواقعنا بعد اكتمال مراحل الانسحاب وحصر غنائمنا وخسائرنا حتى تعلو أصوات الراديو هنا وهناك بحثاً عن خبر عنها.

لا أدري لماذا تصيبنا خيبة أمل عندما لا نسمع خبراً لحظتها، مع أن الكل يعلم أننا عدنا للتو وأن تلك النوعية من العمليات العسكرية تتطلب الكتمان الشديد والسرية العالية حتى لحظة تنفيذها، وعادة ما يبدأ تنفيذها أو ساعة صفرها مع آخر ضوء حيث يبدأ الإعداد لها والتحرك ناحية الهدف ويكتمل تنفيذها مع أول ضوء في اليوم التالي. عادة ما يسري الخبر بعد إصدار بيان بالعملية وتفاصيلها وتوزيعه على المحطات الإذاعية والقنوات الفضائية، الأمر الذي لا يحدث لحظتها كما جرت العادة بل بعد عودة القوة المتحركة إلى مواقعها ومعرفة تفاصيل العملية وإرسالها إلى المكتب الإعلامي.

مع انتهاء مراسم الدفن العسكرية لرفاقنا الذين كانوا بين ظهرانينا حتى يوم أمس، احتضنت إيليا. ووجدت مجذوب إلى جواري وهو يربت على ظهري، منذ تلك اللحظة توطدت علاقتي به، وكأنما اختاره الله أن يصل في هذا اليوم ليواسيني.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق