الحرب يشعلها المطر - رواية 5

 ضحك مجذوب طويلاً وهو يقول لي:

- شهر واحد وأصبحت تجيد مطاردة النساء واصطيادهن بعد أن كنت تجهل هذا العالم إلا في أحلامك!، لكن يبدو أن ألماظ صارت قدراً، كلما تمضي السنوات تجدها في طريقك.

لوحة الغلاف: فيصل تاج السر

عشر سنوات منذ قادتني قدماي في ذاك اليوم لألتقيها أول مرة، وكما قال مجذوب دائماً ما أجدها في طريقي كأنها قدر لا يريد أن يفارقني. 

قلت لمجذوب وأنا أشير إليها:

-هي السبب في أن اتخذ قراري بالانضمام للعمل المسلح ضد الحكومة.

ثلاثة مواسم أكملتها في العمل في مشروع النور، وما بينها كنت أتجول بين الحمرة وود الحليو وأصل أحياناً إلى مناطق أخرى لتصريف السلع التي أتاجر فيها، هكذا أشار علي النور بدلاً من العودة إلى المدينة. وقدم لي كثيرا من المساعدة التي وطدت علاقاتي ببعض التجار في كثير من المناطق، فأصبحوا لا يخشون على استرداد أموال سلعهم التي أشتريها بالآجل، ولا أنا أخشى على أموالي التي يحتفظون بها أمانات لديهم. كنت أحياناً أعرج على مدينة القضارف لآخذ بركات روح جدي، وألتقي بأخوالي وأقضي بينهم بضعة أيام أسترد فيها أنفاسي اللاهثة ويرتاح جسدي من رهق الطرقات التي أطرقها، وأخرى أشتاق لأمي وأبي فأزورهم لأيام مجدداً نذوري التي قطعتها بأن أداوم على حبهما وطاعتهما، وتقبل أبي الأمر مستسلماً، أما أمي فكانت رغم قلقها أثناء غيابي فرحة بروح أبيها التي تراها الآن أمامها تمشي على قدمين. 

تجاوزت تجارتي داخل الحبشة بلدة الحمرة إلى مدينة قندر النائمة في أحضان أعلى القمم الجبلية في سلسلة الهضبة الغربية التي دخلتها أول مرة فغمرتني رائحة البارود وآثار المعارك بين الثوار وقوات الدرك، ومرات أغامر بالتسلل لأصل إلى مدينة تسني وكانت حرب التحرير الأرترية تشهد فصولها الختامية. كل ذلك إلى أن يحل ميقات الحصاد، فأعود إلى العمل في المشروع وألتقي بالكثيرين وأولهم إيليا وإسحق. كنت سعيداً بتحرري من قبضة أسوار المدينة، لاكتشف عشقي للحركة والسفر، وأتقنت سريعاً كل لغات المنطقة ما ساعدني كثيراً في تصريف أعمالي وتسهيلها خلال عامين.

لم تكن ألماظ كيداني مجرد محطة عابرة فقط ألجأ إليها كلما حطيت رحالي في البلدة، لكنها شيء من نفَس قديم استنشقته ملأ رئتي وأنا أجلس أمام فاطمة مستمعاً لحكاويها. شيء ما في ألماظ يذكرني بها ويبعثها من رماد ذاكرة الطفولة، اكتشفت ذلك عندما سافرت للمرة الأولى إلى مدينة قندر وكانت برفقتي ألماظ. وافقت دون تردد، بل تحمست للفكرة عندما اقترحت عليها مرافقتي. كانت رحلة أشبه بالحلم الجميل والكابوس معاً، فرغبتي وفرحتي بالسفر إلى مدينة القلاع التي سمعت عنها الكثير في حكايات جدي يقابلها رعبي من الطريق إليها الذي لم يشفع لي أمامه جلوس ألماظ إلى جواري.

الطرق الجبلية محفوفة بالمخاطر في التواءاتها وانحداراتها الحادة، صعوداً وهبوطاً، تزيد من خفقان القلب وثمة ما يقف في منتصف الحلق، ليست غصة، لكنه شيء ناعم لا يكاد يبرح مكانه حتى وإن أصاب الأذنين ما هو أشبه بصمم مؤقت بسبب العلو الشاهق. وفي محاولة لتجاهل الخوف ومداراة الاضطراب يكون التظاهر بالاستسلام لإغفاءة، بينما الصدر يموج بحالة غليان يخفف من وطأتها البسملة والحوقلة وآية الكرسي وبعض من يس إضافة لأوراد سرعان ما تتصاعد زفيراً حاراً عند بلوغ نهايات الصعود أو الهبوط. ويبلغ الصمت أوجه في لحظات الذروة كما في الأفلام أو الروايات المثيرة حين تقف الحياة على حافة الأعصاب. 

هكذا قطعت بنا العربة مسافة الطريق بين السهل المنبسط لعشرات الكيلومترات إلى أول عقبة إلى آخرها من الحمرة إلى قندر. كان الطريق ترابياً عبر سهل ممتد إلى أن بلغنا أطراف الهضبة فتغير الحال. صار  لا تمتد إليه ألسنة الأسفلت بعد ساخرة من وعورة الأرض، ولا انفجرت أصابع الديناميت لتهد معابد آلهة الأولمب وتفتح نفَّاجاً تنزلق عبره المركبات في انسياب وسهولة ويسر. تلك أولى رحلاتي البرية الحقيقية التي صادفت من الوقت مساءه، لنلج مفتتح العقبة في ظلمة داكنة حيث الطريق لا يسمح سوى بمرور عربة واحدة فقط، ولا تمد رأسك خارج نطاق العربة.. ستجد يمينك ظلمة الجبل الشاهق ويسارك حيث الهاوية الحادة تبتلع الظلمة داخل جوفها لتصير ظلمة مضاعفة. حتى الضوء المنبعث من أمام العربة يبتلعه فضاء الظلمة الممتدة أمامها ولا يكاد يبين إلا أثناء الانعطافات ليراكم ذبذبات الخوف للحظات ثم يذوب في اللا شيء، أما الضوء الأحمر المنبعث خلف العربة فلا أثر له.

ما بين التوتر وذروة القلق في حالتي الصعود أو الهبوط، تتنزل آلهة الأولمب، جاءتني فاطمة كما "هيرا" في أساطير الأولمب، محلقة على جناحي طائر خرافي مثل خرافتها. كنت لحظتها أتساءل كيف لسائق العربة أن يعلم بخلو الطريق من عربة قادمة من الاتجاه المعاكس للعقبة، سؤال إشكالي لم أجرؤ على طرحه وقتها لألماظ في تلك الرحلة، ربما خوفاً من بروز خوفي على السطح أو محاولة أكثر لإبداء التماسك.

هبطت فاطمة من قمة الجبل، لترسل إلى حلماً بعثه بها الإله زيوس تقول فيه "أسرح بخيالك بعيداً عن الخوف والقلق وستقطع المسافة الأصعب دون مشقة". ولكن عقلي صفحة يلفها ظلام من كل اتجاه فَفيمَ أسرح بخيالي. وكأنها قرأت أفكاري لتنفض عنها ريش جناحيها الخرافيين وتستحيل تلك الفتاة التي لطالما حفزت خيالي ليبدأ رحلة الخلق.. خلق القصص والروايات والساعي لخلق أسطورته الخاصة.

فاطمة فتاة ندية، كما في الحكايات الشعبية انطبعت صورتها داخلي ولا تكاد تبرح مكانها، لا زالت بخدِّيها النضرين تنزلق من كل واحد منهما ثلاث شلوخ دقيقة تضفي على ملامح وجهها ضوءاً مميزاً. لن أتخيلها ما حييت، وإن التقيتها الآن، بغير تلك الصورة، بورتريه محكم الصنعة والإطار. حاضرة الآن بحكاويها التي تأخذ بالألباب والأنفاس خاصة تلك المحتشدة بالأحداث والقتال والثورة، وهي التي ولدت من رحم الثورة الإريترية إبان حكم هيلاسلاسي إمبراطور الحبشة.

منذ أن فارقتنا، إلى بيت زوجها، كثيراً ما ألتقيها بين ثنايا القصص والروايات ومراقي البطولات والتضحيات. لكنها لم تحتويني كما كانت تفعل دائما وأنا صغير، وتأخذني خفية في بعض رحلاتها حيث يجتمع نساء ورجال شباب وشابات لا تكاد تميز بينهم من كثافة الجدية التي تعلو وجوههم وذلك الشعر الكث الذي يكسو رؤوسهم. لم تحتويني سوى هذه المرة التي انتابني فيها الخوف والعربة تقطع بنا المسافة بين منحدر جبلي حاد صعوداً وهبوطاً. ونحن نجتاز ذلك الوادي وكأنه مسكون بالجن، تظل داخله محاطاً بتلك السلسلة الجبلية ذات الارتفاعات الشاهقة إلى مسافة تتجاوز الثلاثين كيلومتراً، والعربة تسير ببطء من وعورة الطريق الصخري. عشرات الكيلو مترات وساعات من الدهشة التي تمتص كل ذبذبات التوتر والقلق.

عندما هبطت فاطمة بابتسامتها العريضة تلك واحتوتني هامسة في أذني بحلم زيوس "هل تصدقني الآن؟ كل ما قصصته عليك عن الثورة والثوار والتضحيات الجسام التي قدمها أهلي تجدها بين تلك الصخور وأنت تهبط وترتفع في تلك الهضبة".

صدقتها الآن وأنا أرى حطام الآليات العسكرية المتناثرة على طول الطريق، وإن كانت الأرض ليس ذات الأرض والجبال ليست تلك الجبال، وانفجرت ذاكرتي حين تربعت ذات مساء وجلست القرفصاء بجوارها. وانطلقت تحكي عن بطولة أبناء الثورة وهم ينفذون كميناً ناجحاً لرتل من آليات الدرك المدرعة، وكيف أن فتاة من بينهم قفزت إلى أعلى الدبابة وقذفت بقنبلة القرنيت اليدوية بعد أن نزعت فتيلتها، لتوقف سير تلك القافلة عند مدخل الوادي. لم تحركها دوافع أغاممنون الراغب في تحرير هيلين من طروادة، بل كانت هيلين هي الوطن بالنسبة لهم، هو ما جعل قلبها وقلوبهم وهم يحتمون بسواتر جبلية ويصوبون نحو مؤخرة الرتل بعد أن ضربوا مقدمته، ليصير جسده محاصراً داخل الوادي، وتتوالى الضربات ويرتفع غبار معركة غير متكافئة ليغطي عنان السماء.

أما عندما تحكي عن الذئاب، فكانت رعدة تسري في كل بدنها البض، إنها تخاف أيضاً من تلك الحيوانات الناعمة الشرسة. صدقتها عندما رأيت زعيم القطيع واقفاً في زهو وغرور في منتصف الطريق لا يحرك ساكناً، رافعاً رأسه إلى أعلى وينظر في اتجاهنا في ثبات، ملوحاً بذيله وضوء العربة يعكس بياض فروه الناصع، شعرت بذات القشعريرة تسري في كل بدني.

كل ذلك الوقت كنت موزعاً بين هيرا وأندروميدا وأنا ممسك بيد ألماظ كيداني، أضغط عليها في قسوة انتبه لها فجأة لأخفف ملمسها إلى أن بلغنا مشارف قندر المدينة التي تتوسد بناياتها أحضان الجبال.

من هنا انطلقت رحلة ألماظ مع الثورة؛ بعد أن ألقت قوات الدرك القبض على والدها ورأت الدم يسيل من رأسه وسال دمها هي، في تلك الأثناء قررت اللحاق بزناب، بنت قريتهم، في مدينة قندر. كانت زناب خبيرة بأسرار المدينة وأحوالها بعد سنوات من العمل كنادلة في نزل وحانة كابرا واليا المعروفة. بأنوثتها الطاغية ووجها الطفولي لم تجد ألماظ صعوبة في الالتحاق بالعمل في الحانة ومن ثم تسللت بهدوء إلى أروقة المدينة وهي تكبر عاماً بعد آخر وتزداد نضجاً. كانت كمثلها من المدن مليئة بالعسكر الذين يتزاحمون على الحانات ليل نهار، والحرب دائرة هناك في جبهات القتال، فقندر من أهم المراكز التي توجد فيها قاعدة عسكرية كبرى، تتوزع منها أرتال المتحركات إلى مختلف الجبهات، وتنطلق من مطارها الحربي الطائرات المقاتلة. فهي الأقرب إلى الحدود من الجهة الغربية، حال تجدد النزاع حول المناطق الزراعية في مناطق جنوب القضارف، والقاعدة الخلفية للتشكيلات التي تقاتل الثوار بعد الانقلاب على الامبراطور واندلاع الحرب الأهلية وتطال يدها أراضي أرتريا تحاول وضع حد لمد التحرير هناك.

ما كانت أحوال ألماظ وحياتها ستتغير، بل كانت ستمضي في طريقها العادي كأي امرأة تتدفق أنوثتها على طاولات الحانة وهي تقدم خدماتها وحولها عالم تحركه الشهوة في مساراته. ما كانت ستتغير لولا أن التقاها أستاذها السابق في قريتها وصديق والدها داخل الحانة بعد سنوات. لم تصدق عينيها، هرولت ناحيته وسط دهشة الحاضرين، واحتضنته بكل قوة وإلى أن فاق من دهشته كانت تلاحقه بالسؤال عن أبيها وإن كان لديه خبر منه.

قال لها هامساً وهو يتلفت حوله:

- ليس هناك جديد.. ولا خبر عنهم جميعاً، المهم كيف أحوالك؟ أراك تدبرت أمرك وتعيشين حياة المدينة.

أرادت أن تبتسم لكن طفرت من عينيها دموع بالكاد أمسكتها. هنا تغير كل شيء عندما طالبها بالاستمرار في عملها دون أن يتغير شيء، لكن عليها أن تقتص لوالدها وهي تؤدي عملها. 

لم تفهم شيئاً في بداية الأمر، لكنه شرح لها المطلوب بتفاصيل قليلة. أن تتقرب أكثر من ذوي الرتب العليا في جيش الدرك وتخدمهم أكثر، وتنقل له كل ما يدور من أحاديث تدور بينهم أثناء تواجدهم في الحانة.

- ثم احذري أن يعرف أحد أن أصل والدتك من منطقة مندفرا في أريتريا، لا يجب أن يعرف أحد ذلك.

جبهات القتال وقتها في ذروة معاركها والمقاتلون في صفوف حركات التحرير يقتحمون حصون معسكرات الدرك في كثير من المناطق. واستطاعت أن تلعب دورها بإتقان دون أن تعرف قيمته ولا ما يقوم به أستاذها ولا من تعرفت عليهم بعد ذلك وأصبحوا حلقة الوصل بينهما. لكنها من أجل والدها ومشهد تلك اللحظة الفاصلة المطبوع على جدران ذاكرتها، دفعها إلى العمل بأكثر من طاقتها.

أمسكت ألماظ بيدي ونحن نعبر بوابة نزل وحانة كابرا واليا، وهي تقول لي في انشراح غطى على تعب الرحلة الطويلة الشاقة:

- هنا كنت أعمل لسنوات.

لم يكن الأمر يحتاج لأن تقول لي ذلك، فما أن توسطنا قاعة الحانة حتى صاحت إحداهن وتلتها أخرى ترحيباً وهن ينطقن باسمها، قبل أن يبدأ مشهد من العناق تغمره بعض الدموع. قفز تساؤل عريض في مقدمة رأسي لحظتها، وأنا أرى بهاء المكان رغم آثار الحرب في المدينة، عن واقعها الذي تعيشه في بلدة الحمرة التي يلفها البؤس إلى أن يحين موعد الحصاد من كل عام فيبعث فيها الحياة من جديد. لم أفهم ذلك ولا وقفت عنده كثيراً، خاصة أن النساء أعددن لنا مائدة خاصة، وسط نظرات رواد الحانة الذين ألقى بعضهم التحية على ألماظ في مودة تنم عن غياب طويل.

كانت ليلة حافلة عرفت فيها ألماظ ظهراً عن قلب دون أن أتجرأ بسؤالي الذي أرقني مرة أخرى عندما قالت لي بصوت واضح وحاسم:

- اسمع يا آدم، لنكن واضحين، أنا لا أسعى لأن يكون لي زوج أو أطفال في الوقت الحاضر. وأنا أعرفكم جيداً ما أن يحلو لكم الجو حتى تستكينوا وتستقروا.. سنمضي أيامنا وحياتنا.. تسافر وأسافر، تغادر وأغادر وعندما نلتقي نجدد عهودنا كما فعلنا أول مرة.

كأس مضاعف واحد من الجن كان كفيلاً بأن يطرد كل الأرواح الشريرة التي ستعكر صفو الليلة. لكن عند عودتنا مرة أخرى إلى الحمرة أدركت بأنها ليست مجرد فتاة تجلس على مقعدها قبالة بيتها، تبيع الخمرة والقهوة وضحكاتها والحب، هناك شيء آخر يضاهي كل تصوراتي عن فاطمة. صرت أتعامل معها بحذر أكثر دون أن يتراجع شغفنا كلما رجعت حاملاً تجارتي إلى أن أعود متجاوزاً الحدود كل مرة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق