موسم حصاد السمسم الأول لآدم مثل نقطة فارقة في مقبل أيامه، لا تزال تفاصيلها حاضرة كلما وصل فوج جديد من المجندين إلى معسكر التدريب من تجمعات العمال الزراعيين. تحمل التفاصيل التي تتدفق حيوية بكل حكاياتها، مآسيها وأفراحها، قسوتها وبهجتها، الخوف والأمل، الحب والسهر ثم إدمان اجترارها.
لم يستوعب ذلك اليوم أن للحصاد طقوسا ومراسم إلا عندما وصل إلى المشروع بصحبة النور، حيث غطت سنابل السمسم المنتشرة على مساحة خمسمائة فدان، الأرض بلون ذهبي تحملها سيقانها القصيرة التي لا تزال متمسكة بلونها الأخضر. وتنتشر هنا وهناك سقيفات وبنايات صغيرة من المواد المحلية المؤقتة، وعدد كبير من العمال متحرك بين السنابل أو بجوار البنايات. أعمدة من الدخان تتصاعد ورائحة طعام تزداد نفاذاً كلما اقتربت العربة من موقع البنايات. اتفق معه النور على العمل ضمن المراقبين للعمال الزراعيين ومتابعة وحصر الإنتاج من مرحلة القطع وحزم سيقان السمسم إلى تعبئة الجوالات، بعد أن شرح له تفاصيل وطبيعة العمل ومهامه اليومية. ووعده بعائد مجزٍ بعد انتهاء عملية الحصاد.
مزيج من الشباب وبعض من تجاوزوا مرحلة الشباب وعدد من النساء، منتشرون على امتداد المشروع. كلهم اجتمعوا في تلك البقعة المنعزلة إلا من صوت أحاديثهم وضحكاتهم التي تطغى عليها أحياناً أصوات المغنين والمغنيات التي تبثها المحطات الإذاعية المختلفة. جاءوا من أرجاء مختلفة تميزهم سحناتهم ولسانهم وطريقتهم في الحياة ليجدوا أنفسهم داخل دائرة واحدة يتشاركون فيها كل شيء. لا بد من الامتثال لقوانين الطبيعة فلا وقت للبحث عن الاختلاف بل للتعايش لكي تنقضي الأيام ويحصلون على نصيبهم من الرزق بعد أسابيع من العمل الشاق، يفرون بعدها كلٌ إلى مبتغاه. بعضهم جاء منذ بداية الموسم مع عمليات الزراعية وآخرون جاءوا ليلحقوا بموسم الحصاد.
كان عليهم أن يختاروا طقساً من بين كثير من طقوس الحصاد التي اعتادوا ممارستها في مناطقهم. قرروا أن يتوجوا العم "إيليا" حكماً للفصل في أي الطقوس تلك التي سترسم ملامح الموسم، والتي ستبدأ بعد غروب الشمس. بدا لآدم لحظتها أن "إيليا" هو حكيم العالم، بشعره المنتمي للمناطق الاستوائية ولا تبدو عليه آثار الشيب ظاهرة، حتى جسده وبنيانه لا يوحي بتجاوزه الخمسين سنة من عمره لولا تلك الخطوط المرتسمة على وجهه.
- هو معروف في هذه العوالم، ومحبوب لفكاهته وقدرته على بث روح التفاؤل والمرح بين الحضور، لكنه لا يجامل في عمله حتى نفسه، لذلك اخترته كرئيس للمراقبين، وستعمل أنت بجانبه.
هكذا قدمه النور إلى آدم، وهو يوصي إيليا الاعتناء به وتدريبه ليبدأ في يوم غد العمل تحت إشرافه. وكذلك وجده آدم، فكهاً لكنه قادر على الإمساك بخيوط اللعبة واكتساب احترام الحاضرين. كان كبير القوم هنا بقامته القصيرة وخطواته السريعة النشطة، وجهه بخطوطه العميقة يكشف عن رحلة عمر عركتها الحياة، يتقدم الجميع وقت أن يتطلب الأمر وجوده في المقدمة، ويراقب من حوله في اهتمام أثناء العمل ويتدخل في صرامة عندما يرى أحدهم يتكاسل عن أداء واجبه. الوقت لديه محسوب بدقة وانضباط تجربته العسكرية واضح في كل خطوة يخطوها. أهله ذلك أن يختاره الجميع زعيماً عليهم وكبيراً لهم، ومنحه النور ذلك الامتياز عندما عينه مشرفاً على كل العاملين، ليتوج زعامته على جماعة متنوعة الجذور ومختلفة الأمزجة لكن تربطها مصلحة العمل واستمراره، فلا بد لها من زعيم يحكم سيطرته على كل ذلك الاختلاف ليحصدوا في ختام الموسم ما زرعوه.
بطبيعة وضعه المميز هذا، جلس إيليا ليختار من بين طقوس الحصاد واحداً يفتتحون به مسيرة أسابيع شاقة تنتظرهم حتى نهاية الموسم. تلك عادة تلازم العمل في كل المناطق الزراعية، كل أهل منطقة وإقليم لديهم طقوسهم التي يمارسونها، مهرجانات من الفرح والتفاؤل يطردون بها الأرواح الشريرة المتسببة في الأحداث السيئة التي مرت بهم خلال عام مضى.
عندما اختار طقس "جدع النار" لافتتاح موسم الحصاد، هلل أبناء الفونج من منطقة النيل الأزرق، وبدأوا الاحتفال والرقص قبل مغيب الشمس، لاختيار طريقتهم هذه المرة، وردوا الجميل للعم إيليا فوراً بأن نصبوه ملكاً لاحتفاليتهم، كما جرت العادة، ليمنح الجميع بركاته وصلواته ودعواته.
أطل القمر كاملا متربعاً على عرش السماء، لا تزاحمه النجوم في مملكته التي يكمل سيطرته عليها لأيام ثم يبدأ في التلاشي ملتزماً دورته الأزلية. وكما في الأساطير، لا يكتمل افتتاح طقس الحصاد، موسم ذروة نتاج الخصوبة ودفق الروح في الحياة، إلا باكتمال القمر.
غمرت الليلة الأولى آدم باحتفائيتها وإيليا بجواره مزهواً باستعادة أمجاده يخطو ويجلس بثقة وسط الجموع التي يضيء وجوهها الكالحة القمر. حتى القمر هنا مختلف ليس كما يطل على سماء المدينة، حيث يختفي ظله على الأرض بين الصخب والضجيج والأضواء الباهتة هنا وهناك. عريان هو الآن إلا من ملابسه، وانطلقت روحه مع أول صوت لإيقاع الطبول إعلاناً للبداية، كل الأرواح هنا انطلقت من عقالها، لا أحد يتحكم فيها الآن تفعل ما تشاء، تريد الصعود إلى السماء حيث القمر أو تنزل بالسماء إلى الأرض، وكأنها الليلة الأخيرة في العمر. أطلق قيودها وحل عقدتها أكثر ذلك الشراب البلدي المسكر الذي يسري في الدم ببطء، وما كانت تحتاج إليه لولا أنه من لوازم الاحتفاء، فامتلأت بها عدة براميل. فإلى جانب العجل الذي تبرع به، اشترى النور عدة جوالات من الذرة منذ أسبوع لإعدادها لهذا اليوم، فهو سيحتفل معهم لكنه لا يتعاطى ذلك الشراب، لذلك أخفى في عربته زجاجة من شراب الجن الحبشي الذي يفضله.
تناول آدم كوباً مليئاً من "المريسة" متردداً وهو ينقل بصره بين الجموع المنتشية وإيليا الذي ابتسم في وجهه قائلاً:
- اشرب يا آدم، سيكون أمامنا أسابيع من العمل الشاق ولن تجد فرصة كهذه إلا نهاية الأسبوع.
شرب كوبه حتى آخر قطرة، محاولاً تفادي الطعم اللاذع الذي سرى في حلقه أول مرة، وأعقبه بآخر على عجالة. رعشة انتفضت لها أطرافه انفعالاً وتفاعلاً مع تلك الحلقة التي شكلها العاملون بأجسادهم رقصاً على أنغام الطبول، وصوت أوتار ربابة يأتي ضعيفاً من الخلف. وجد نفسه وسط الدائرة بجوار المغني يهتز طرباً، وحوله جميع الشبان كاشفي الصدور يرقصون كلٌ بطريقته وزغرودة تنطلق من النساء القليلات اللائي تجمعن في زاوية أقصى الدائرة، وبين لحظة وأخرى تنفعل إحداهن بما يدور حولها فترمي بحيائها بعيداً وتجد نفسها داخلها متمايلة رقصاً، ما يزيد من اشتعال الحماسة التي لا تنقص أحداً. وضوء القمر له فعل السحر، كأنما بساط فضي منشور أعلى الدائرة فتتراءى الظلال خارجها دائرة باهتة. ومع تسارع الغناء والرقص، يتصاعد غبار خفيف إلى الدائرة الباهتة لتحمله الرياح بعيداً.
قال له أحدهم وهو في قمة نشوته:
- انظر؛ إنها الأرواح الشريرة تبدأ في الهروب إلى أن تحين لحظة جدع النار فيحترق ما تبقى منها، كل ما ستراه الآن من أجل أن نطرد تلك الأرواح ونرجمها، لنتمكن من جني محصول وفير ومقابل مجزٍ للجهد الذي بذلناه طوال شهور الموسم.
جاءت لحظة جدع النار مع منتصف الليل على غير التقليد المعروف عند أهلها الأصليين هناك في النيل الأزرق الذين ينتظرون إطلالة الشمس حتى يبدأوا في رجم الأرواح الشريرة. هناك تستمر الاحتفالات لعشرة أيام قبل الشروع في عملية الحصاد. عادة ارتبط بالخير والتطهر من الذنوب، يعاقبون المذنب بالجلد ليتطهر ويدخل عامه الجديد خالياً نظيفاً وهو يحتمل كل الآلام بجلد وصبر وبلا ضغينة، موسم تقام فيه الزيجات والولائم وتنعقد أثناءه المحاكم لتصفية الخلافات بين المتخاصمين. ينطلق الاحتفال من دار شيخ البلدة ويحضره العمدة الذي يطوف على جميع البلدات خلال العشرة أيام. يفتتحه الشيخ بكلمة عن التراث والأجيال الماضية والفروسية وغيرها، ثم يأتي دور الكجور الذي يتحدث عن الأمطار والأمراض ويدعو الآلهة أن تحفظ الناس والماشية من الشرور. بعدها تبدأ الاحتفالات والرقص والغناء على تلك الإيقاعات الساخنة. وبين فترة وأخرى تدار أقداح المريسة على الجميع ويتحلق أهل البلدة حسب أعمارهم.
لكن هنا في المشاريع الأمر مختلف والاحتفال يقتصر على ليلة واحدة حتى منتصفها. عليهم الاستيقاظ باكراً بعد أمسية أنستهم كل الشقاء وجددت فيهم الرغبة في الحياة والاستمرار مرة أخرى. ووسط حماسة الجميع أشعل إيليا النار في كومة من الحطب وأخذ كل واحد حزمة مشتعلة متجهين نحو القبلة يعُدُّون بصوت وتوقيت واحد إلى الرقم سبعة ثم يقذفونها بقوة في أرض فضاء بعيدة عن حدود سنابل السمسم.
أكثر من خمسة أسابيع انقضت قبل أن يقف النور وسط الجميع بوجه مشرق وهو يرى حصاد عامه مبشراً بخير وفير فاق توقعاته، وجوالات السمسم الجديدة برائحتها المميزة تزيد الإحساس بالاطمئنان والفرحة بالإنجاز. هو اليوم الذي يترقبونه منذ أربعة أشهر، تيبست فيها الأيادي وتشققت أطراف الأقدام الخلفية من الخوض في الوحل منذ أن أعلن الخريف قدومه. كل أطلق زفرة تخصه وحده، وهو يتسلم حصيلة أتعابه في فرحة غامرة وخوف كبير، فالآن انتهى الموسم بخيره وشره، وغداً ستفتح أبواب حياة أخرى يعلمون ما بداخلها. لكن الأمل في أن تتغير الأحوال إلى الأفضل يدفعهم لحمل حقائبهم على قلة متاعها. منهم من ييمم شطر مناطقه حيث أهله وزوجته وأبناؤه، وآخرون وجهتهم عوالم أخرى يعرفون أسرارها، تمنحهم رحيق حياة افتقدوه ولطالما ظل في مخيلتهم مع كل قطرة عرق سكبوها أثناء عملهم. وحتماً سيعودون من جديد ما أن تنتهي آخر "عينات" الصيف وتلوح "عينات" خريف جديد. ليسوا ذات الأشخاص الذين حملوا حقائبهم الآن، وربما هم أو بعضهم، كثير منهم أو قليل، لكن الأرض ستظل باقية تنتظرهم فاتحة ذراعيها للمطر والإخصاب والمخاض والحصاد دون أن يصيبها الملل، والفصول آخذة دورتها الأبدية تأتي في مواقيتها، محكومة باتزان الكون لذلك لا تغيب أبداً ولا تتأخر عن موعدها.
هكذا وجد آدم نفسه ممسكا بنصيبه من الغنيمة، ما كان يتوقع أن يحصل على هذا القدر من المال خلال شهر أو يزيد قليلاً. وما بين التردد والفرحة الغامرة التي شملته مثل ما حدث مع الآخرين، راودته فكرة أن النور ربما جامله ومنحه أجراً أكثر مما يجب. اكتفى بالفكرة دون أن يصرح بها عندما سأله النور وهو ينظر في وجهه:
- هل ستغادر إلى المدينة، أم تنتظر ليوم غد حتى أنتهي من تحميل بقية المحصول ونغادر معاً؟
قال له آدم بضحكة غطت على ملامح التعب والجفاف الذي اكتسى وجهه خلال أسابيع العمل المضني:
- لا... أنا ذاهب لاكتشاف عالم جديد. إذا عدت لن أجد فرصة للخروج من تلك الأزقة قريباً. اتفقت مع إيليا واسحق دوكة أن أرافقهم إلى الحمرة.
ضحك النور وهو ينظر في اتجاه مدينة الحمرة التي تبدو معالمها باهتة، داخل الخط الحدودي من جانب الحبشة ولا تكاد تبين إلا لمن زارها من قبل وارتسمت في خياله، وقال لآدم:
- حسناً... الحياة تستحق أن تكتشفها. سأزورها أنا أيضاً خلال الأيام القادمة لأبيع جزء من المحصول هناك هذه الأيام السعر مغري هناك، .. ثم صمت قليلاً ليواصل:
- لكن سآخذ منك ربع المبلغ لأسلمه لوالدتك، وسأقول لهم إنك سافرت إلى القضارف لأخوالك.
امتطى آدم وإيليا وإسحق ظهر جرار زراعي كان في طريقه لاجتياز الحدود إلى مدينة الحمرة، تاركين خلفهم أرضاً على مد البصر كانت قبل وقت قصير تنبض بالحياة وزخمها، تملأ جنباتها الخضرة والندى الذي تنضح به سيقان السمسم فترطب الجو قبل أن تنحرف زوايا أشعة الشمس في مسيرة انكساراتها لتتبخر. وأسراب الطيور على أشكالها بالآلاف تعبر فوق المشاريع منتشية بأرزاقها محدثة ضجة بموسيقى تغريدها الجماعي. كل ذلك استحال إلى اللون الترابي فعادت الأرض إلى طبيعتها الجرداء إلا من بقايا سيقان بارزة قليلا في انتظار أن تتلاشى بفعل الزمن وما ينتظر منها الموسم القادم فعمليات نظافة الأرض كفيلة به. لم يتبق سوى غابات من الشجيرات الراسخة أصلاً متصلة على مسافات بعيدة أو متقطعة كجزر في بحر واسع، وهي أيضاً بدأت تفقد بعض الشيء من بريق لون الخريف الأخضر الفاقع الذي يغلف أوراقها.
كل ذلك انقضى والجرار يئن فوق وطأة الطريق الوعر الذي شوهت تفاصيله مياه الأمطار بادي الشقوق والجفاف مما زاد الجلوس على ظهره لساعتين، قبل اجتياز الحدود، قسوة على قسوة. الرحلة الأولى زادت من قوة علاقته بإيليا وإسحق دوكة التي بدأت منذ اليوم الأول له في المشروع. هما وطغيان الرغبة في التحرر من تلك القيود التي ظلت تكبله طوال حياته لم تترك له مجالاً للتردد عندما اقترح عليه إيليا أن يعبر معهما الحدود ويصحبهما إلى بلدة الحمرة. وهي بلدة تحيا على فتح صدرها للجميع بلا استثناء، لا تعترف بالحواجز التي لا توجد أصلاً إلا في مخيلة السلطة، فالأرض منبسطة ومفتوحة على بعضها، لا توجد أسلاك شائكة ولا أسوار أسمنتية ولا نقاط للتفتيش هنا، يدخلها القادمون من كل الأبواب والزوايا. تقف السلطة هناك .. بعيداً في الناحية الأخرى من البلدة، حيث تبدأ حدود الدولة فعلاً فلا أحد يعبر الناحية الأخرى إلى أبعاد تتجاوز محيط البلدة إلا بوثائق سفر مختومة.
كل شيء ضاج بالحياة هنا، عمال المشاريع الزراعية حول المنطقة سجلوا حضوراً مبكراً وكأنهم على موعد سابق للقاء في أزقة المدينة التي تتحول في هذه الأيام بمتاجرها ومنازلها ونزلها سوقاً كبيراً حافلاً. ترتفع أصوات التحايا والسلام والثرثرة والقهقهة تملأ أركان بيوت القش صخباً، ولا يكاد الزاحفون ببطء أن يجدوا متسعاً من مكان من شدة الزحام. انتهى عيد الحصاد ليبدأ عيد آخر يمتد لأيام وأسابيع وعند البعض لشهور. روائح الشواء مختلطة برائحة الخمر الفائحة وأعمدة دخان البخور تعانق عنان السماء ينبعث منها طعم القهوة قبل تذوقه.
انفتحت ذاكرة آدم على مصراعيها وزادت اتساعاً وهو يرى جده الأرباب يتجول بجواره في المدينة، وتقمصته تلك الروح التي مضى عليها أكثر من أربعين عاماً قبل أن يتقاعد جده ممارساً تجارة الذرة حارساً مخازنه التي تمتلئ في مثل هذا الوقت من العام. لكنه امتثل لوصايا إيليا وإسحق دوكة اللذين يعرفان مداخل ومخارج هذا العالم جيداً، فصار يخطو في حذر منذ أن وطأت قدماه الأرض وهو ينظر مفتوناً بما يشاهده تتنازعه الرغبة في فتح صدره عريضاً ليستنشق كل العبق الذي يحاصره وإلقاء نفسه بكاملها في هذا العالم، والتمسك بتلك الوصايا.
هنا وفي يومه الأول من موسمه الأول التقى ألماظ كيداني، قادته قدماه إلى حيث كانت، تحيط بها أدوات صنع القهوة جالسة أمام موقدها المشتعل قبالة باب مسكنها، وكل المساكن هنا من القش وسيقان الأشجار بأسقفها المخروطية المائلة إلا بعض المباني الحكومية وبعض متاجر هنا وهناك ارتفعت قوائم بنيانها على أعمدة من الحجر أو البلوك الأسمنتي تغطيها سقائف الزنك، وأحياناً تلك المنسوجة من المواد المحلية.
شعر بشيء ما، غير معتاد، وهو يقطع المسافة بين طرف الشارع المزدحم والناصية التي تجلس فيها، وهاتف يقض مضاجع صدره بأن "أذهب .. أمضي في طريقك". فمضى وهو متردد قليلاً ينظر إلى الخلف عل بصره يقع على إيليا أو اسحق، لكن دون جدوى. ربما كان يفكر في العودة مرة أخرى إلى هناك، ولكنه انتزع نفسه وهو مدرك بأن الساعة قد حانت ولا سبيل سوى أن يمضي إلى حيث تقوده قدماه. لا يبدو الأمر صدفة، كانت مشغولة لحظتها بقلي البن وتتمايل في مقعدها رقصاً مع أغنية منبعثة من مذياع بجوارها لا يميز صوته إلا عدد قليل من الجالسين بجوارها في مقاعد بلدية التي توزعت حولها، على غير كثافة المواقع الأخرى. فجلس الذي بهت على أحد المقاعد "كل شيء فيها يضج بالرقص" قال لنفسه أو هكذا رآها أول مرة.. طريقة جلستها، صوتها وهي توزع حديثها هنا وهناك وضحكتها.. شيء ما في صوتها مثير للدهشة، قادرة على أن تنثر حولها مُتَّسعاً من البهجة والخفة التي تذهب بوطأة تلك الأرواح المثقلة.
كانت طاغية على من حولها بألقها، وتلك الهالة التي لابد وأن تلفت الانتباه إليها من أول لحظة. وشعر بحمى خفيفة تسري في جسده وهو يراها تهمس في أذن أحدهم، وينطق وجهها الضاحك مزيداً من الضحك. وجع ما مصاحب لتلك الحمى التي اعترته وبدأت في النزول إلى أسفل، ليرتبك أكثر أثناء محاولته إخفاء حالة الانجذاب المغناطيسي الدائر داخل مجالها.
رمقته بنظرة فاحصة نفذت من صدره إلى ما ورائه، وقضي الأمر عندما ابتسمت في وجهه بترحاب وهي واقفة تقدم القهوة لمن حولها، وتسكب بعض كؤوس شراب الجن لمن يطلب. ناولته فنجان قهوة وهي تقول له بعربية تآكلت حواف حروفها وتكسرت، لكنه تعمد أن يترجمها إلى أنها أيضاً جاءت إلى الحمرة قريباً وأن عليه إخبارها بطلباته وستفهم ما يريد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق