الحرب يشعلها المطر - 8 / 9

 التقى آدم ألماظ كيداني مرة أخرى بعد عامين، في نزل وهو يحط رحاله بإحدى المدن الحدودية داخل الأراضي الأريترية لشراء احتياجات شهرية للقوات، بعد أن افتقدها ذلك اليوم وعلم أنها فارقت بلدة الحمرة. تلتها لقاءات متقطعة، على مدار السنتين لم تخمد تلك الجذوة التي اشتعلت بينهما وإن اختبأت بين ثنايا الزمن الذي مضى والزمن الآتي، ما بين رحلات الهضبة والمنخفضات. لم تفقد بهاءها ووجهها الضاحك الذي لا يزال ينثر الفرح حوله، وزادت تألقاً وكأنها سليلة آلهة تملؤهم شهوة الدم والخصب في نفس الوقت.

لوحة الغلاف: فيصل تاج السر

في طريقها من الحمرة، أول مرة، عابرة الجسر الذي استوى أعلى النهر الهادئ في تلك الأثناء بعد عنفوانه وثورته منذ شهور، وصار ماؤه مجرد خيط فضي يقطع ظهر الوادي بالتواءاته وانحناءاته، إلى الضفة الأخرى. ازداد خفقان قلبها، ليس ذلك الخفقان الذي تتسع له شرايين القلب دافعة شهقة الصدر للخروج، بل أشبه بالانقباض والتوجس والخوف، لحظة عبورها الأولى. هي ابنة تلك الجبال الممتدة وسليلة آلهتها مسكونة بطلاسم سحرها وتعاويذها، مدركة بأن كهوف تلك الجبال بوديانها ومضايقها ومنذ اهتزاز قشرة الأرض وتصدعها في أزمنة غابرة، تخفي مارداً لا يكاد يغفو قليلاً حتى تثور الآلهة في غمرة غرورها فتهتز الأرض لتوقظه مملوءاً بشهوة الدم. أدركت أن أمراً جللاً قادماً في الطريق، وتحت ركام الصمت الممتد حديث طويل يدور. قررت أن تتجاهل كل ذلك وتشاهد ما حولها من معالم جديدة.

الجبال هي ذاتها، والأرض بأنفاسها التي تستنشقها لا توحي لها بتغير ما. الوجوه التي تمر بها طوال الطريق ذات الوجوه، تحمل قسماتها صرامة الصخور والأرواح صقلتها قسوة الحرب الطويلة وأجواؤها المتغيرة ما بين لهيب شمس الصيف وزمهرير الشتاء. الطرقات تتزاحم حول أرصفتها بقايا آثار للحرب، مركبات لا زالت رائحة الحريق تفوح منها ومباني ثقبت جدرانها شظايا القذائف.

صورة أبيها تملأ وجدانها، تبحث في تفاصيلها عن سر تلك اللحظة التي رأته فيها والدم يسيل من جبينه ثم غاب بلا أثر، ويغيب الآن ليتراءى لها وجه أمها أثناء سير العربة. تمسك بوصاياها التي حملتها لها إلى خالتها بقوة وشدة كلما انقبض قلبها وتبسط يدها مع انبساط شرايينها وهي تنظر باطمئنان إلى صديق أبيها الذي يرافقها في رحلتها الأولى إلى تلك البلاد التي تزورها لأول مرة.. تغشاها بعض من سكينة وتنتابها لحظات فرح.

لا تدري سبباً لانفعالاتها المتناقضة وقد عجمت عودها تلك السنين التي ظلت تخدم فيها أطراف الثورة هنا وهناك، تنزع من فك ضباط الدرك ما يجودون به أثناء سطوة نشوتهم، وهي تتنقل بين موائد الحانات والقصور الملوكية في قندر، تطير بحصيلتها التي جمعتها إلى رفاقها مزهوةً. ظل صديق والدها يزورها باستمرار منذ لقائها الأول به وتجده متى احتاجت لذلك. وأثناء غيابه، وعادة ما يغيب أحياناً دون أن تعلم له وجهة، تحمل غلتها إلى من يشغل ذلك الغياب دون أن تسأل عنه الآخرين. هو الآن بجوارها، يقودها إلى حيث اكتشاف نصف آخر ظل في طي الكتمان، خالاتها وأخوالها وجدتها. جال بخاطرها أن تسأله الآن عن سر غيابه تلك الأيام، لكنها اكتفت بالتشبث أكثر بحقيبتها، منتظرة أن تكشف الساعات المقبلة كل المشهد أمامها.

تأملت في جدران ذاكرتها الخالية من مشاهد تلك الجدة وهي تراها في العديد من بيوت قريتها التي نشأت فيها. كانت في طفولتها تتمنى أن تكون لها جدة، أبوها جاء إلى القرية وأقام فيها مع أمها بعيداً عن مسقط رأسه. وجدتها مثلما رسمت صورتها أثناء الطريق، مستسلمة لدفء صدرها الذي غسلته الدموع وحضن خالتها وهن يلمحن فيها صورة الأخت الغائبة.

الأيام تأخذ دورتها، والماظ أكثر سعادة بمن حولها، لكن عليها مواصلة الحياة، فتأخذ حقيبتها وترحل متنقلة بين مدينة وأخرى لتستمر الحياة، إلى أن طاب لها المقام في تلك المدينة الحدودية التي تشبه ملامحها بلدة الحمرة لكنها أكثر رحابة ونظاماً، يسرت لها ثمرة جهدها أثناء الثورة استئجار حانة باتساع مدينة صغيرة لا كتلك السقيفة التي كانت تظلها في الحمرة.

استقبلت ذاك اليوم آدم بفرحة غامرة واشتياق، لكن يشغلها عملها المزدهر واستقبال رواد الحانة وإدارتها. دار بينهما حديث متقطع ما بين الذكريات وأحوالهما. كانت تجهل أحواله، وترتبك دواخلها قليلاً عندما يمر بخاطرها. تقمع ابتسامة تفردها الذكرى قليلاً، فلا مجال للاستسلام لحلم فالت لا يمكن الإمساك به. حدثته عن أهلها، جدتها خالاتها وأخوالها الذين التقتهم، حياتها الجديدة. قالت له:

- ربما جدك وجدتي التقيا في وقت ما.

ضحك من حديثها الأخير حتى الثمالة وضحكت هي على طريقتها وهي تنظر إليه بزيه العسكري، يحدثها عن الثورة والسلاح والحرب التي يخوضها مع رفاقه، ترى فيه ذلك الفتى القادم من المشاريع الزراعية لأول مرة وعلمته السير في دروب الحياة وفك شفرتها. حدثها عن كيف اشتاق إليها لحظة علم بغيابها وسفرها، وبحثه عنها في حله وترحاله في كل الوجوه خلال تلك الفترة. ذكرته بالليلة التي قضياها معاً في قندر أول مرة، عندما قالت له ستمضي الأيام وأسافر وتسافر. كان على آدم المغادرة لإنجاز مهمته التي جاء من أجلها إلى المدينة وكان عليها أن تهتم بالمتواجدين والقادمين، فتلك أيام نشاط السوق ورواجه.

الحياة تمضي هادئة بتفاصيلها اليومية الرتيبة لا يعكر صفوها سوى شجار يدور بين مرة وأخرى. رواد الحانة بوجوههم المعتادة يملأ ضجيجهم المكان ويغطي على تلك الطاولات الفارغة أثناء النهار، تنتظر غياب الشمس فتصل حركة القادمين ذروتها كلما تآكلت ساعات المساء واقترب الليل من حافة الانتصاف. ترتفع درجة حرارة دم الماظ .. دمها الممزوج بروح أبيها وأنفاس أمها متوتر لدرجة الغليان أثناء رحلته بين القلب والعقل، ورؤاها تلمح في الأفق حشداً ينسل من بين كهوف الهضبة ووديانها، والمارد يتململ في رقدته وقشرة الأرض مضطربة تنبئ عن زلزال. تستيقظ فجأة من نومها، أبناء عمومتها يجذبونها ممسكين بيدها وأبناء أخوالها يتنازعون يدها الأخرى وهي واقفة في حيرة من أمرها. 

الآلهة تحشد أرواحها الهائمة في فضاءات الكون، والمارد ينفض عنه آثار النعاس في هدوء لاعناً من أيقظه، يفتح عينيه على الهضبة والسهل وخطوط من الغضب لم يكتمل رسمها إلى نهاياتها بعد على وجهه. كل انحناءات الجبال ومسارات الوديان وتلك الكهوف الغائرة عميقاً والصخور العنيدة التي قاومت لقرون حرارة الصيف ولسعات البرد القارس وانهمار المطر، كلها تترقب ما سيحدث. هدوء السنوات، الذي دائماً ما يسبق العاصفة، تبدد في لحظة رعناء بانطلاق رصاصة اخترقت صدر الحد الفاصل بين الحكمة وأوهام الكبرياء، هتكته ومزقته فاتحة ثقباً بحجم الفجيعة الأزلية أطل منها وجه المارد وسط هتاف الآلهة، والماظ تغمض عينيها طويلاً لتفتحهما على تلك الرؤيا فتنكرها هاربة منها.

(9)

- الحرب هنا ليست كحروب المناخات الاستوائية، وإن كانت نتائجها تتشابه يا آدم، آلهة الحروب الاستوائية ليسوا هم آلهة حروب الهضبة، هناك دوي الانفجارات يمتص صداها الماء وتحجبها أشجار الغابات فلا تترقبها، وهنا يتردد صدى صوت نزع فتيل القذيفة قبل انطلاقها تحمله تلك الجبال والصخور ثم تنطلق القذيفة مخترقة غشاء الكون فيرعبك صداها قبل أن تنفجر، ويخدعك صداها فلا تدري بأي أرض ستقع، ويحدث انفجارها صدىً آخر أكثر رعباً.

تابع مجذوب بروح خبير في ميادين المعارك، ونحن نرتشف قهوتنا التي أدارتها علينا الماظ مرة أخرى:

- حروب الهضبة فاضحة ومكشوفة مثل الحروب القديمة التي تتقابل فيها الجيوش وجها لوجه والرجال صدراً لصدر. إنها الآن ليست كحربنا التي نخوضها الآن ولا كحرب التحرير التي خاضوها التي تواجه فيها الدولة أبناءها بالسلاح وليس كل السلاح. إنها الآن حرب دولتين، وحروب الدول أكثر دماراً تستخدم فيها كل الإمكانيات.

وهو ما حدث واستمر لثلاث سنوات بين أبناء العمومة، عندما بدأ الزحف من هنا وهناك. حشد الطرفان قواتهما على طول الحدود وكأنهما على موعد مسبق مع الموت، ودبت روح آلهة الشر المسكونة بشهوة الدماء في غرف العمليات، تمد ساقيها في استرخاء يشد من عصب الموقف المتوتر أصلاً وهي سعيدة بذلك أيما سعادة، إلى أن حانت ساعة الصفر. بوادر موسم الخريف والمطر لاحت في الأفق تتقدمها السحب القطنية القادمة من اتجاه الشرق، معلنة بداية اضطراب أحوال السماء عندما انطلقت أول قذيفة إلى المكان الذي انطلقت منه تلك الرصاصة التي فتحت ذلك الثقب، وبدأت حرب الثأرات على الطريقة القديمة بأحدث الآلات. التهبت الجبهات على طول الحدود وزاد اشتعال النار وألسنة لهيبها تخرج من أفواه الإذاعات التي تتغذى بالفجيعة، ووصلت أقاصي شمال الهضبة وجنوبها إلى تلك المناطق البعيدة عن مرمى النيران. 

لاحظت أن الماظ تابعت حديث مجذوب باهتمام، فطرأت على ذهني حالتها الراهنة فسألتها:

- لماذا بقيتِ هنا؟ لماذا لم تغادري إلى قندر وجذورك هناك؟

- وما الفرق بين هنا وهناك؟ بالنسبة لي كلهم أهلي فأنا أنتمي لكل هذه الأرض جذوري هنا وهناك.

قالتها بصوت آخر غير ذلك الذي أعرفه.

حتى لو شاءت ألماظ أن تجتاز الحدود إلى الضفة الأخرى ما كان ذلك ممكناً بعد انطلاق الحرب. كل الطرقات أحكمت الجيوش من الطرفين إغلاقها مع اشتداد حدة المعارك التي تنقل الإذاعات وصفاً كاملاً لها يزيد من وطأتها على النفوس المرهقة. وتجاوزت الآليات العسكرية مواقعها، وكلاهما يحاول اختراق دفاعات الآخر وكسر تحصيناتها ليتمكن من إلحاق ضربات أقسى به. لا مجال للانتصار في حرب كهذه، الكل خاسر والكل يطمع في إحداث أكبر الخسائر في الآخر لا الانتصار عليه. 

اقترب صوت قذائف المدافع وانفجاراتها إلى تخوم أخرى، إلى أن وصلت مسامعها أطراف المدينة الحدودية التي تقيم فيها ألماظ. الطائرات تحلق في سمائها خالقة مزيدا من الفوض في الأرض، ويتناقل الناس فيما بينهم وسط كل هذا الاضطراب الأخبار كيف شاءوا، إلى أن اقتربت مسيرة الزحف وطرقت أبواب المدينة نفسها، ففرت الجموع إلى حيث تدري ولا تدري، قبل أن تدخلها جحافل القوات فتصير خراباً.

إذا كان الملوك عندما يدخلون قرية يفسدونها ويجعلون أعزة أهلها أذلة، فإن الجنود لا يفهمون هذه القاعدة بل يقتلون ولا يميزون بين أعزة أهلها وأصاغر قومها حين يدخلون. آلهة الحرب هي التي تقودهم وتسيطر على أرواحهم، تغذيها بشهوة الدم، تستفزهم حركة عصفور صغير بائس مختبئ خلف الأغصان فيطلقون عليه وابلا من الرصاص، يرهقهم بكاء طفل لا حول له ولا قوة ويضاعف من توترهم وتنتابهم حالات من جنون لا يملكون القدرة على التحكم فيها.

حملت الماظ حقيبتها ورحلت، وجدت نفسها وسط الجموع التي تسير بلا وجهة محددة هرباً من الجحيم القادم، بحثاً من ملاذات آمنة تقيها نيران الحرب وزخات المطر القادم. الطريق طويل مليء بالعقبات والدموع والسهر نهاياته مشوشة، لا أحد منهم يدري ماذا ينتظره غداً. سائرون في طريق الآلام يحملون عذاباتهم على ظهورهم وينتظرون ساعة صلبهم، وعند تقاطع الطرقات تتناقص أعدادهم باستمرار. منهم من يختار فراق الركب ليذهب إلى وجهة أخرى، والآخرون يواصلون رحلتهم في الصراط المستقيم الذي أمامهم وكلاهما لا يدري ما النهاية التي سيبلغها.

وجدت الماظ نفسها مضطجعة داخل مجرى موسمي لمياه الأمطار يمر بمحاذاة بلدة "أم الخير"، لم تكن وحدها كانوا مجموعة من نساء ورجال وأطفال، قطعوا عشرات الأميال بعد مسيرة أيام بلياليها. وجدوا أنفسهم داخل هذا المجرى ليلاً فقرروا المبيت إلى الصباح. أشرقت عليهم شمس ذاك اليوم وهم على بعد عدة أمتار من البلدة، فقررت ألماظ البقاء فيها ومعها آخرون، بينما واصلت بقية المجموعة مسيرتها.

ثلاث جولات من الحرب التي استمرت لثلاث سنوات، والإذاعات تحمل من الأخبار أسوأها، عشرات الآلاف ماتوا أثناءها. لكن إلى جانب الموت تستمر الحياة وتتواتر الفصول في مواعيدها المعروفة وتسيل مجاري المياه القادمة من المرتفعات وتفيض منطلقة مع المنحدرات حتى تتلاشى في الأراضي المنبسطة والسهول.

ازدهرت "أم الخير" وعادت ألماظ إلى عملها الذي تجيده، إلى أن تمكنت من تشييد القلعة وشراء مولد كهربائي بعد الهدنة، معلنة عن افتتاح حانتها، فالبلدة ملتقى طرق تعبر منها قوافل الجنود والمسافرين والعابرين الحدود.

تمارس حياتها وتدير عملها بطريقة أقرب إلى السحر، لا يتملكها اليأس، تلك الضحكات تهبها روحاً أخرى حين تكشر الحياة من حولها، وتخرج الآخرين إلى رحاب حالة أخرى لا علاقة لها بواقع البؤس الذي يعيشونه.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق