"الفاغنرية"... فاغنر من تفجير الألحان إلى انفجار القنابل – 2

قال تعالى في محكم تنزيله "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ" (14) – آل عمران. هكذا هو حال الناس أن يقعوا في حبائل الشهوات. ولم يخيب عبقري الموسيقى الألماني، ريتشارد فاغنر، مغزى الآية الكريمة فقد أشتهر في زمانه بحب النساء، ومعروف عنه قضائه لأشهره الأولى في جامعة لايبزغ بين الخمر والنساء. وما أن بدأ يتعرف على أزقة وردهات المسرح والموسيقى حتى تزوج بالممثلة مينا بلاتر لتبدأ رحلته الفعلية مع النساء والموسيقى والمسرح ليقضي حياته بين هذه وتلك، منتقلاً من حالة إلى أخرى نقيضة ما بين حياة الشظف والحاجة إلى حياة الملوك والأمراء.
الصورة: موقع الجزيرة نت

لكي تكتمل صورة المغزى الإلهي من الآية القرانية، جاءت مجموعة فاغنر الروسية ليكون أهم شواغلها القناطير المقنطرة من الذهب والفضة. لم تحتج المجموعة إلى وقت طويل منذ تأسيسها إلى التحول لقوة عسكرية ضاربة توكل إليها المهام الخاصة التي صارت فيما بعد تحت رعاية الدولة الروسية ووزارة الدفاع الروسية. فكما أشرت، جاءت بدايتها مع ظهور القرصنة البحرية في مناطق متعددة من بحار العالم، وخاصة بالقرب من منطقة خليج بحر العرب ومضيق باب المندب وتسيد الصوماليين للمشهد. حيث كان الغرض الرئيسي من تأسيس الشركة، التي صارت فيما بعد إلى ما هي عليه الآن، هو تكوين جيش من العسكريين المحترفين المتقاعدين من شتى الدول القريبة من روسيا بشكل أساسي وحتى بعض الدول البعيدة مثل الولايات المتحدة الأمريكية وكولومبيا في القارة اللاتينية.

القرصنة البحرية

كان غطاء تأمين السفن التجارية في عرض البحار مناسباً جداً لتسجيل شركة أمنية في هونغ كونغ يديرها عسكريان روسيان بعد تقاعدهما، خاصة مع تنامي ظاهرة القرصنة البحرية الصومالية التي بلغت ذروتها في تلك الأثناء، تزامناً مع خروج روسيا من المسرح الليبي وتداعيات المشهد في ليبيا وتدهور الأوضاع في اليمن. مع ملاحظة أن المناطق الثلاث المذكورة كانت مناطق نفوذ للاتحاد السوفيتي السابق لسنوات طويلة، عدا اليمن التي خسرتها بعد استعادة الوحدة بين اليمنين الشمالي والجنوبي.

كشف تقرير للجزيرة نت إن القراصنة الصوماليين يشنون هجماتهم على السفن العابرة لخليج عدن وباب المندب، إنطلاقاً من قرى صيد محاذية للساحل الصومالي في إقليم بونتلاند الذي يتمتع بحكم ذاتي عن الصومال، مما يتيح لهم رصد واستهداف السفن التجارية والأساطيل لالبحرية العابرة. وقدر التقرير عدد المنخرطين في نشاط القرصنة في العام 2012 بثلاثة آلاف شاب ومعظمهم من خفر السواحل السابقين.

وقبلها في 2009، نشرت صحيفة صنداي تلغراف البريطانية مقالا لكبير مراسليها للشؤون الخارجية كولن فريمان الذي اختطفه قراصنة صوماليون أثناء استقصائه لظاهرة القرصنة، وورد في المقال أن عدد القراصنة الذين يمخرون عباب البحر جيئة وذهابا عند السواحل الصومالية يقدر بنحو ألفي قرصان، ينفذون ست عمليات قرصنة في الأسبوع.

ولكن هل كان الغرض هو حماية السفن التجارية العابرة للمحيطات والبحار؟ هذا السؤال يمثل أهمية خاصة استصحاباً لتداعيات الأحداث السابقة ذات العلاقة بروسيا. فبعد فقدانها لليبيا، وهي منطقة نفوذ استراتيجي تجعلها تتحكم في كل جنوب أوربا، واجهت الآلة الغربية بزعامة واشنطن في سوريا المطلة على السواحل الشرقية للبحر الأبيض المتوسط وفرضت وجودها بقوة وحينها ظهرت مجموعة فاغنر كلاعب رئيسي في المشهد القتاللي السوري، وفي ذات الوقت بدأ تعد العدة للسيطرة على جزيرة القرم على البحر الأسود ولعبت فاغنر دوراً أساسياً واستراتيجيا في تلك المعركة التي انتهت بفرض سيطرتها على شبه الجزيرة وبالتالي على معابر البحر الأسود.

كل تلك الخطوات التي اتخذتها روسيا في محاولة لاستعادة أمجادها ونفوذها في مناطق سيطرتها السابقة، وعينها على خليج عدن وأيام جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية والرئيس علي ناصر محمد، بعد أن فقدت موطئ قدم مهم لها في ذلك الموقع الاستراتيجي العالمي بعد توحد اليمنين والسيطرة السعودية والأمريكية على المشهد في كل شبه الجزيرة العربية. وكان المدخل لذلك هو مواجهة القراصنة الصوماليين في خليج عدن وباب المندب بواسطة مجموعة فاغنر العسكرية.

اليمن السعيد

شاءت الأقدار أن تدخل اليمن وعلى قمتها الرئيس علي عبد الله صالح دائرة ثورات الربيع العربي ويهتز عرش الدكتاتور اليمني. تعلق الرئيس اليمني حينها بقشة روسيا في مواجهة الطوفان الذي بدأ يعصف بأركان حكمه. استغل صالح في لحظة ما أول فرصة واتته كهبة من السماء حين سقطت الطائرة الروسية "الآيروفلوت" في سماء سيناء وهاجمت روسيا كلاً من قطر والمملكة العربية السعودية واتهمتهما برعاية الإرهاب. وهو الاتهام الذي أكده تقرير لصحيفة "البرافدا" الروسية واسعة الانتشار حينها وأشار إلى نية موسكو استخدام المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة التي تنص على أن لكل دولة عضو في الأمم المتحدة الحق في الدفاع عن النفس في حالة وقوع هجوم مسلح على تلك الدولة، إلى أن يقوم مجلس الأمن الدولي باتخاذ إجراءاته للحفاظ على السلم والأمن الدوليين. ليشهد العالم بعد لحظات من هذه الأحداث لقاء الرئيس اليمني السابق بالسفير الروسي، ليخرج بعدها من رماده ويقول أمام مناصريه بأن الحرب في اليمن لم تبدأ بعد، ويعلن عن رغبته في حوار مباشر مع المملكة السعودية وليس غيرها، ويطالب بوساطة روسية إلى جانب المنظمة الدولية "الأمم المتحدة".

حضور اليمن في أجندة موسكو كان يحتاج لمنصة انطلاق لا يناسبها سوى الرئيس السابق على عبدالله صالح، وهو يمثل بالنسبة لها في ظل تلك الظروف والتطورات الأسد الجريح الذي يمكن أن يدير لها معركتها ضد المملكة العربية السعودية المتهمة لديها برعاية الإرهاب. فهي لا تستطيع التدخل المباشر في السعودية أو قطر، أو كما هدد مندوبها في الأمم المتحدة في وقت سابق دولة قطر بإزالتها من الوجود في استخفاف بصغر حجم مساحتها، لكنها ستلعب دوراً في تهديد أمن المنطقة وزعزعتها خاصة أن على رأس الدولة الروسية خريج مدرسة الكي جي بي العارف بأسرار إدارة الملفات الخارجية وقدرات المخابرات في تحقيق أهداف سياسية تخدم استراتيجيته وتطلعاته في استعادة نفوذ الإمبراطورية الروسية. وشاءت الأقدار أن يذهب الرئيس اليمني علي عبد الله صالح ويمحى اسمه من سجلات الأحداث اللاحقة، ومعه اختفى وجود مجموعة فاغنر العسكرية لتبدأ كما نبت شياطني في مناطق أخرى من العالم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق