"الفاغنرية"... فاغنر من تفجير الألحان إلى انفجار القنابل - 1

هكذا بد الأمر لي. إنهم يريدون تشويه اسم فاغنر عبقري الموسيقى ومفجر ألحانها، لا وبل يريدون طمس اسمه ومحوه من ذاكرة الوجدان الإنساني و"تلغيم" تلك الألحان الباذخة بمفخخات القتل والرعب. أشتهر ريتشارد فاغنر أو "ريخارد فاغنر" المولود في 1813 في مدينة لايبزغ الألمانية والمتوفي في مدينة البندقية بإيطاليا في 1883، بالتأليف المسرحي والموسيقي، وسادت عبقريته الموسيقية بعد غياب بتهوفن الذي تسيد النصف الأول من القرن التاسع عشر.
الصورة: شعار فاغنر

لكن فاغنر أشتهر أكثر بأنه من أكبر المعادين للسامية واليهود في عصره، وأنه مهووس بالنقاء العرقي الذي أسس للنازية فما بعد، وكان من الموسيققين المفضلين لدى هتلر بعد ذلك. وما هو مبذول في سيرته الحياتية والفنية قوله إن اليهودي في طبيعته غير كفء في التعبير عن نفسه فنياً سواء من خلال مظهره أو عبر لغته وخاصة من خلال طريقته في الغناء" ويضيف "اليهودي لا يستطيع سوى أن يقلد". ولعل موقفه من معلمه اليهودي لفنون الموسيقى وكيف ناصبه العداء بعد أن اشتد عوده.

ربما ليست صدفة، ففي الاحتفال بالذكرى الـ200 لمولد الموسيقي ريشتارد فاغنر والذي صادف العام 2013 وبدأ الاعداد له بشكل كبير، كانت بدايات الظهور لما عرف فيما بعد بمجموعة فاغنر المسلحة "Wagner Group"، وانتشرت جماعاتها المسلحة في مساحات كببيرة وضمت مقاتلين من عدة جنسيات بما فيها الولايات المتحدة وجنسيات أوربية من فنلندا والنرويج والتشيك ومن كزاخستان وبيلاروسيا. بدأت الفكرة بتأسيس شركة لحماية السفن من القراصنة وتسجيلها في هونغ كونغ بواسطة فاديم غوسيف ويفغيني سيدوروف. وبعدها بعام، إي في 2014، ظهر اسم فاغنر في ما عرف بعد ذلك بجمهورية لوغانيسك الشعبية شرقي أوكرانيا، وبشكل أكثر وضوحاً بعد اقتحام روسيا لشبه جزيرة القرم في 2014، كمجموعة مزودة بأسلحة قتالية متنوعة.

الدب الروسي يستيقظ

العام 2013، كان حاسماً بالنسبة لورسيا في الإفاقة من بيات دبها القطبي من سباته الذي لازمه طوال مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. وهي التي عانت جراح تمزقها الداخلي إلى جانب انحسار دورها العالمي وتراجعه. وجاء المقلب الكبير الذي حصلت عليه روسيا، عندما استغفلتها أمريكا ودول حلف الناتو، بقبولها فرض حظر الطيران على ليبيا القذافي ودخول الحلف في الحرب المباشرة لإسقاط النظام الليبي عقب ذلك، جعلها تراجع حساباتها وتبرز أنيابها. وكان أحد أنيابها دعمها ووقوفها خلف انتشار مجموعة فاغنر التي ستكون ذراعها في كثير من أنشطتها التي تحاول من خلالها استرداد نفوذها السابق.

وربما أخذت الفكرة في الوقوف خلف أنشطة فاغنر على التجربة الأمريكية في تأسيس مجموعات عسكرية من مرتزقة مثل "بلاك ووتر" التي لعبت دوراً مؤثراً في العراق إبان الاحتلال الأمريكي لها. هذا غير المواجهة بالمثل التي عبرت عن أعلى أشكالها في ما عرف بحرب القوانين حين صادق الرئيس الأمريكي على ما عرف بقانون "ماغنيتسكي"، وسرقي ماغنيتسكي هذا قانوني ومحامي روسي اشتهر بمحاربة الفساد في روسيا، مات أثناء فترة حبسه بتهمة الإساءة لمسؤولين روس. وبموجب هذا القانون أصدرت وزارة الخزانة الأمريكية لائحة تحظر التعامل مع من طالتهم شبهة اتهام الضلوع في موت ماغنيتسكي. لم تتأخر موسكو كثيراً بالرد بقانون شبيه، اطلق عليه قانون "ديما ياكوفليف"، وهو طفل توفي بسكتة دماغية في يوليو 2008، بعد أن تركه والده بالتبنّي الأميركي مايلز هاريسون، بمفرده في سيارة لمدة 9 ساعات. وهو قانون يحظر على المواطنين الأميركيين الذين ارتكبوا جرائم بحق المواطنين الروس الذين يعيشون في الخارج، أو الأميركيين الذين كانوا متورطين بهذه الجرائم، دخول الأراضي الروسية.

سوريا مركز الانطلاق

مثلت سوريا مركز الانطلاق الأولى التي بدأت معها موسكو في استعادة نشاطها الخارجي، لتبدأ إدارة معركة المواجهة مع الولايات المتحدة ، استخدم فيها الطرفان كل اسلحته الذي يجيد اللعب عليها. وبدأت روسيا في استخدام لعبة الروليت التي تجيد استخدامها وهي لعبة فردية مرعبة جداً لا يدري كلا الطرفين المصوِّب والمستهدف هل ستنطلق الرصاصة أم لا عندما يطلقها الأول تجاه الآخر. وهي مبارزة برصاصة واحدة فقط لأجل استرداد كرامة إثر إهانة تعرض لها أحد الطرفين لا تمسح سوى بقتل أحدهما الآخر بهذه الطريقة. وهي أن كانت تعتمد على الصدفة والحظ في مستوى من مستوياتها لكنها تربك حسَّاسات الشجاعة لدى الطرفين.

فيما واصلت الولايات المتحدة ممارسة لعبة البيسبول في مواجهة غريمتها، وهي لعبة جماعية تعتمد على توزيع الأدوار في التغلب على الخصم، ويشارك رامي الكرة في ضمن بقية الفريق المؤلف من تسعة لاعبين في تأمين الوصول إلى النقطة النهائية لفريقه، ومن بين التسعة لاعبين هناك من يعملون خلف النقاط الأربع لتأمين وصول الكرة إلى فريقهم.

كان أول نجاح لروسيا في خطة تمددها ودخولها معترك التوازنات الدولية بكل قوة إنطلاقاً من سوريا، هو تنازل الرئيس باراك أوباما عن حقه الرئاسي في تسديد ضربة عاجلة على نظام الأسد عقب ما عرف بـ"كارثة الكيماوي"، وأحال الأمر إلى الكونغرس الأمريكي للبت في أمر التدخل العسكري والحصول على تفويض منه، وهو حق رئاسي أصيل تمنحه له سلطاته في إصدار أوامره بتنفيذ الضربة دون الرجوع إلى الكونغرس، وعليه بعد ستين يوماً من ذلك تقديم مبرراته أمام نوابه.

أصول لعبة البيسبول

التراجع الأمريكي ليس بسبب سأم الشعب في الداخل من الحروب الخارجية فقط، بل هناك عوامل أخرى على ذات الأهمية بالنسبة للسياسة الأمريكية الخارجية. فإذا كانت السياسة الداخلية تفرض على أوباما والديمقراطيين الحذر إثر تراجع مؤشر التأييد لبرامجهم وتأثير ذلك على مستقبل الحزب في أي انتخابات قادمة، فإن لعبة البيسبول لا تقوم إلا على العمل الجماعي وبدأت السياسة الخارجية الأمريكية تفقد الكثير من المساحات عقب توريط حلف الناتو في الحرب على ليبيا، وتداعيات المشهد الليبي إثر الإنقضاض على وتقويض نظام القذافي. هذا غير الندبة القديمة جراء كذبة السلاح الكيماوي الذي يمتلكه نظام صدام حسين كمبرر للتدخل في العراق.

كذبة الكيماوي العراقي وكذبة أن الناتو سيكتفي –فقط- بمنطقة حظر طيران في ليبيا لتحييد سلاح الجو الليبي فيها لصالح الثوار كمبرر لكسب الدعم الدولي لقرار التدخل، وما حدث بعد ذلك من تداعيات، جعلت من روسيا التي شعرت بالخديعة للحيلولة دون استخدامها لحق النقض (الفيتو)، وكدولة تستعيد عافيتها وتطمح للعب دورها كما في السابق، تقف بقوة في وجه أي قرار او بيان تنطوي سطوره على ملمح للتدخل في سوريا طوال فترة الأزمة الممتدة منذ العام 2011. واستدعى الأمر أن تستخدم حق النقض (الفيتو) داخل مجلس الأمن إلى جانب الصين لأي توجه ضد سوريا.

إذا كانت المصلحة الروسية تقتضي ذلك إنطلاقاً من منصة إعادة التوازن المختل للعالم بعد تراجعها لسنوات عقب انهيار الاتحاد السوفيتي وانفراط عقد جمهورياته الخمس عشرة، إلا أن تراجع الحلفاء الرئيسيين لواشنطن كان الأبرز والأسطع في عوامل التراجع الأمريكي تجاه ضرب سوريا في ذلك الوقت. بريطانيا –الحليف الأبرز لواشنطن- كانت فقداً مؤثراً لترابط التحالف العسكري الدولي المتعارف عليه، ولم يكن رفض مجلس العموم البريطاني لأي تدخل عسكري في سوريا بمثابة ضربة لرئيس الوزراء البريطاني، وقتها، ديفيد كاميرون فقط، بل تأثرت، على إثر موجته الزلزالية على حكومة المحافظين في بريطانيا، أركان البيت الأبيض، وجاءت ألمانيا برفضها الدخول في عمل عسكري ضد سوريا لـ(تتم) الناقصة.

واحدة من العوامل المهمة أيضاً كانت في من سيتحمل التكلفة المالية لتوجيه الضربة العسكرية لسوريا في ظل الخوف من التكلفة السياسية؟ إذا كانت الحرب على أفغانستان تحملتها مجموعة دول على رأسها الشركاء في حلف الناتو، وكذلك الحرب على العراق التي دفعت تكلفتها من الخزينة العربية وبترول العراق مقابل الغذاء الذي كانت 30% منه تذهب كتعويضات، ثم الخزينة الليبية بعد أن سالت أنابيب النفط ونشطت موانئه في التصدير. في المشهد الحالي، وربما كان عاملاً رئيسياً، هو أن الضربة العسكرية ستتحمل مسؤوليتها المالية الولايات المتحدة الأمريكية وحدها إذا ما حاولت تجاوز تأييد مجلس الأمن وتراجع حلفائها الأساسيين، خاصة وإنها ضربة لا تهدف لإسقاط النظام مثلما حدث في ليبيا، وسوريا نفسها – إذا بقي النظام أو سقط- ليست لديها قدرات مستقبلية لتعويض الخسائر الأمريكية (فكل شيء ليس لله).

لكن السؤال الذي ظل يطرح نفسه بقوة منذ ذلك الوقت، هو عن مدى التراجع الأمريكي وقدرة الروس على الإستفادة من الأماكن الشاغرة. وها هي الولايات المتحدة تستيقظ لتدخل لعبة البيسبول الأمريكية في مواجهة الروليت الروسي مربعات الإثارة الأولية في الملعب الأفريقي، بعد أن استيقظت واشنطن لتكتشف تسلل الدب الروسي، عبر ثغرة مجموعة فاغنر، في غفلة منها على مساحات واسعة من القارة السمراء. وإن كان الدب الروسي قد فارق بياته الشتوي، في ظل انشغال الأولى في ميادين أخرى، منذ ترسيخ أقدامه في معركة سوريا بعد خسارته معركة ليبيا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق