"جلدة رابعة وعشرون"
بعد يومين من عودتنا ”المظفرة“ إلى سجن ”ربدة“، انفتحت علينا نافذة زيارات داخل السجن من بعض معارفنا في الفصائل المعارضة المتواجدة في المنطقة.. وكانت زيارات حملت بين حناياها طابعاً اجتماعياً ومؤازرة كبيرة، ساعد على اتساعها تلك المساحة من التساهل التي منحتها إدارة السجن لنفسها تجاه التعامل معنا.
جاءت زيارة الأستاذ أحمد عبدالرحمن، المسئول القيادي في فصيل ”مجد“ (اختصاراً لـ”مقاتلي الجبهة الديمقراطية“)، وهو فصيل طابعه الدعم المعنوي للعمل المسلح أكثر من كونه فصيل قتالي مؤثر، ويقف وراءه الحزب الشيوعي السوداني، جاءت زيارة ”أحمد عبدالرحمن“ لتعيدنا إلى مركز المعلومات.. وهي زيارة رأينا داخلها إشارتين، أولاهما أنها زيارة رسمية للحزب الشيوعي، الغرض منها التأكد من المعلومات المتداولة في الخارج عن وضعنا.. والثانية هي التأكيد على دور الحزب الشيوعي السوداني في تبنيه لقضايا المعتقلين.. لم تكن تلك الإشارات تهمنا كثيراً -بالرغم من أنني سأظل ممتناً للأستاذ أحمد عبدالرحمن والحزب الشيوعي لتلك الزيارة، كما ظللتُ ممتناً دائما له بتجربة ثرَّة اكتسبتها بفضله- بقدر ما يهمنا ما سنتلقاه من معلومات منه، ونحن البعيدين عن مصادرها منذ فترة.
أول تلك المعلومات هي محاولاته المستمرة لزيارتنا وفشله، نتيجة منع الزيارات الرسمية، وأنه قرر التعامل، بعد عودتنا من ”خور ملح“، بطريقة غير رسمية لاختراق ذلك الحاجز، وهاهو أمامنا، كما قال.. وثانيها غياب أي دور للتجمع الوطني الديمقراطي كمؤسسة ننتمي إليها سياسياً، للمساهمة في الضغط من أجل إطلاق سراحنا.
كان هذا الموقف –وسيظل- مثار دهشة في نفسي، أنا بالذات، وذلك لأنني كنت أعمل بشكل يومي في إحدى مؤسسات التجمع الوطني الديمقراطي، وهي المقر الرئيسي لمكتبه التنفيذي.. كنت لصيق جداً بقيادة المكتب التنفيذي، خاصة أمينه العام القائد باقان أموم، والذي ربما انشغل بمفاوضات الحركة الشعبية مع حكومة الخرطوم، فلم يعد مهتماً بمكتبه. وكذا بمسئول التنظيم فيه والأمين العام بالإنابة، الدكتور شريف حرير، والذي لا أجد له عذراً عن عدم إجراء حتى محاولة الاتصال منذ اعتقالي الأول، وإلى تلك اللحظة التي كان يتحدث فيها الأستاذ/أحمد عبدالرحمن.. فقد كنا نعلم أن الدكتور شريف يأتي بعربة التجمع الوطني الديمقراطي -من آنٍ لآخر- لزيارة المنطقة، أثناء وجودنا في يد المخابرات الإرترية، وبعد ترحيلنا لسجن الحركة الشعبية.. إضافة للأستاذ/إسماعيل سليمان الذي كان السبب في وجودي بمقر المكتب التنفيذي أصلاً، ثم الأستاذ حاتم السر أمين الإعلام والناطق الرسمي باسم التجمع، والذي اختارني للعمل ضمن لجنة الإعلام التي يرأسها.
موقف التجمع
بالرغم من حزمة الدهشة المرتكزة على عناصر وهمية داخلي، لكني لا استغرب موقف التجمع كمؤسسة، فهو إن ظل غائباً عن العديد من القضايا الوطنية المهمة، ومقصياً عن مراكز الأحداث بسبب ضعفٍ فيه، فما الذي كنا نتوقع منه ان يفعل تجاه قضية اعتقالنا، واستمراره كل هذه المدة، وهي قضية لا تعادل في قيمتها ذرة من حجم القضية السودانية..؟!
لم أستغرب موقف التجمع الذي قابل قضية اعتقالنا في صمت، خاصة بعد ترحيلنا إلى سجون الحركة الشعبية.. فرئيس الحركة الشعبية هو رئيس القيادة العسكرية للتجمع الوطني الديمقراطي، والأمين العام للتجمع عضوٌ بارز في الهيئة القيادية للحركة الشعبية..!! وإذا كانت قضية اعتقالنا لها علاقة بقيادة الحركة، فمن يجرؤ على الحديث معها، ناهيك عن الفعل الإيجابي..؟! ورغم الزيارة العرضية التي شرَّفنا بها عضو المكتب التنفيذي للتجمع، السيد ”معتز الفحل“ أثناء وجودنا في قبضة المخابرات الإرترية، إلاَّ أنها ستظل عرضية بسبب الظروف المحيطة بها، فهو لم يقم بزيارتنا بصفته ”التجمعية“، بل بصفته ”الشخصية“، ذلك في الوقت الذي لم يستطع فيه أحد من قيادات التجمع السياسية، أو الميدانية، اختراق ستار الحركة الذي ضربته حولنا، سوى تلك الزيارة التي نجح في تحقيقها ”الأستاذ/أحمد عبدالرحمن“ من خلف ظهر قياداتها.
ما صار واضحاً بالنسبة لنا من الحديث الطويل للأستاذ/احمد عبدالرحمن، أن هناك –فعلياً- حملة تقوم بها بعض الجهات (سودانية وغير سودانية) من أجل إطلاق سراحنا، وهي تمتلك كافة المعلومات عن حالتنا، بما فيها ترحيلنا، وإعادتنا من سجن ”خور ملح“.. ولكن يبدو أنه لا المخابرات الإرترية، ولا قيادة الحركة الشعبية في الجبهة الشرقية كان يعجبها الاستجابة لتلك الضغوط التي واجهتها قياداتها، فآثرت أن تبقينا في ذلك الوضع حتى آخر لحظة.. وهي طريقة تفكير تتسق ومنهج العمل الذي يتبعانه، كما تبين لنا خلال الفترة التي قضيتها في ”ضيافتهما“.
صارت أيام السجن تتوالى وهي أكثر ميوعة، فلا هي شدة السجن التي ألِفناها، ولا هي تحمل طعم الحرية، بل هي إلى طقس الشتاء في تلك الأصقاع أقرب، حيث الفضاء يكسوه ذلك التراب العالق لتبدو الأشياء باهتة..
جاء، في ظل تلك الأيام المتعب بسبب انحراف الشمس، جاء القائد ”توماس سريليو“، المسئول المكلف عن الجبهة الشرقية، تسبقه عربات قيادة الحركة في الجبهة.. ونستمع في صباح اليوم الذي تلاه إلى صوت المايكرفون يحمل صوته –ونحن خلف الأسوار- يخاطب قادة أفراد جيشه الشعبي وقادته، يحمل إليهم بشريات السلام القادم.
”جلدة خامسة وعشرون“
هل كل ما حدث بالنسبة لنا، وتلك المعاملة السيئة التي وجدناها من قيادة الحركة الشعبية بالجبهة الشرقية، هو بسبب خلافات الحركة و”التحالف“ حول طريقة استكمال الوحدة الموقعة بينهما..؟! وهل هناك خلاف أصلاً، أم إن وراء الأكمة ما وراءها..؟! هذا التساؤل ظل يراوح مكانه، في دواليب ذهني الخلفية، طوال فترة وجودي بين الأسوار، وأنا استرجع ذلك الشريط.
رئيسا الحركة الشعبية و”التحالف الوطني“ وقَّعا على اتفاق الوحدة بينهما -كما هو معلوم- في 28 فبراير 2002.. ولكن أهم الملاحظات حول هذه الخطوة أنها كانت محورية بالنسبة لـ”التحالف“ وأولوية في قمة سلم أولوياته، تليها بقية الاهتمامات والأولويات.. لكنها في أول السلم، أما بقيته فدرجات خالية..!! فيما مثَّلت للحركة الشعبية مجرد محطة سيعبرها قطارها شديد السرعة، في إطار تنافس أولوياتها التي تتسابق على درجات السلم لتحظى ببلوغ أعلاه..
اتفاق بالمقلوب
ولأنه اتفاق ”بالمقلوب“، جاءت مراحله الإجرائية بعد التوقيع عليه، فقد بدأ في التراجع منذ مراحله الأولى.. اتفق الطرفان، كما هو وارد في صلب الاتفاق، على تكوين لجان (سياسية، عسكرية وإدارية) لوضع تصوراتها لمرحلة تنفيذ الاتفاق.. واتفق الجانبان، أول ما اتفقا، على تكوين لجنة مشتركة (سبعة أعضاء من كل طرف).. ولأنه صار همه الأول، فقد شرع ”التحالف“ في التحضير اليومي، ورفع حالة الاستعداد داخله إلى درجة مائة في المائة.. ونجح بعد التشاور مع قطاع كبير من قاعدته، على المستوى الميداني ومكاتبه الخارجية والداخل، في تسمية السبعة أعضاء من طرفه للمشاركة في اللجنة المشتركة.. ووضع الأعضاء السبعة تصورهم لموقف ”التحالف“ لتنفيذ الوحدة على المستوى السياسي والعسكري، في مرحلة مبكرة بعد التوقيع على الاتفاق، فيما لم تُسَمِّ الحركة الشعبية من جانبها أعضاءها في اللجنة حتى هذه اللحظة..!! لتدخل مرحلة مفاوضات الحركة مع الحكومة، وينشغل قادتها بالسلطة والثروة المقبلة، وتتراجع مسألة وحدتها مع ”التحالف“ إلى ذيل قائمة أولوياتها.. ولكنها عملت على عدم انقطاع أمل ”التحالف“ في إيجاد مساحة زمنية تسرقها من بين زحمة جدول أعمالها الممتلئ.
نسبة لوجود كل أعضاء اللجنة من جانب التحالف في العاصمة الإرترية أسمرا، صارت الحركة تنتهز كل سانحة لحضور رئيسها لها إما للقاء القيادة الإرترية أو لحضور اجتماعات هيئة قيادة التجمع الوطني الديمقراطي، لتمنح ”التحالف“ ووحدته معها فتات زمنها.. ويأتي رئيس الحركة الشعبية، وفي معيته واحد أو اثنين من قياداتها، ليلتقي بأعضاء اللجنة من جانب ”التحالف“.. ويطول الحديث من جانب ”التحالف“، وتصدر بيانات تتصدر قائمة أخبار الصحف باقتراب إنجاز الوحدة بينهما.
ما أحدثته خطوة التوقيع على اتفاق الوحدة من خلافات داخل ”التحالف“، منذ فبراير 2002، وما أفرزته من خلافات نتيجة عدم حسمها، هو ذلك الشرخ الكبير بين صفوفه.. خاصة وأن فريقاً كان يرى الإسراع بذوبان ”التحالف“ داخل الحركة حتى لا يفوتهم حمص المولد القادم، وفريق آخر يرى التدرج في إنجازها، إلى حين إكمال اللجنة المشتركة (التي لم تنعقد أصلاً) أعمالها، وتحقيق الوحدة على أسس سياسية وتنظيمية واضحة.
لعبت الحركة على هذين الحبلين المتوازيين داخل ”التحالف“، ولم تُقصي فريقاً لصالح فريق على المستوى الرسمي.. فقيادتها تلتقي الطرفين، وتؤكد أنها مع الوحدة مع ”التحالف“ وفق منهجها.. يمضي الزمن، ويتعمق الجرح، وتقف قيادة الحركة متفرجة على كلا الفريقين، وربما تزيد –بطريقتها- حطب الوقود، وليبقى من يبقى، وليفنى من يفنى.. لم يكن ذلك مهماً بالنسبة لها.
ما أكدته بعض قيادات الحركة لي، إن موقف أحد الفريقين يوافق هواها، فيما أكد لي البعض الآخر أنهم لا ينحازون لأي الطرفين، إلى حين فراغهما ووضوح الرؤية بالنسبة لهم.. وهناك الكثير من الممكن قوله حول موقف الحركة من تلك القضية.. فالفترة منذ فبراير 2002 وحتى فبراير 2004، جرت أثناءها مياه كثيرة تحت الجسر، يُحسَبُ بعضها لها، والبعض الآخر عليها.. ولكن، أين موقع وجودنا في سجون الحركة الشعبية بالجبهة الشرقية من تلك المياه..؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق