واحدة وثلاثون جلدة على مؤخرة رجل - 15

”جلدة ثانية وعشرون“
السيد رئيس الحركة الشعبية...
لم أكُ أرى الأسرى إلاَّ لماماً، ونحن نخرج –تحت حراسة مشددة- لإحضار فضلات الحمير ”الزبالة“، وتحضيرها ليقوم المتخصصون بـ”تزبيل“ حيطان المباني المنشأة من الطوب اللبن، هذا هو العمل الرئيسي الذي كنا نقوم به، إلى جانب عمل خفيف في مجال الإنشاءات داخل أسوار السجن.. هذا بعد أن خرجنا من زنزانة الحبس الرباعي.
الصورة: فيس بوك
تعتبر منطقة ”خور ملح“ الموقع الرئيسي لتجميع الأسرى في الجبهة الشرقية، والذين يتجاوز عددهم الثلاثمائة، حسب ما ورد إليَّ من معلومات.. وسجن ”الأسرى“ -كما ذكرت سابقاً- يقع على بعد حوالي الكيلومترين من موقع سجن ”المناضلين“. ولم يكن يسمح لنا بالتحدث إليهم، ولا بالاقتراب منهم، على عكس ما يحدث في سجن الحركة بمنطقة ”ربدة“.
 في ”ربدة“ كان يجمعنا بالأسرى السور الكبير، ويفصلنا عنهم تلك الأسوار الداخلية، إذ كان ذلك السجن محاط بسور شوكي كبير، ويضم داخله، إضافة لمساكن الحرس وموقع الطبخ، ثلاثة مواقع منفصلة، ومسوَّرة بالشوك.. كل على حِدة.. الموقع الأول يضم السجناء والمعتقلين من الضباط ذوي الرتب، والثاني يضم ضباط الصف والجنود، إضافة لنا والمدنيين الذين يتم التحفظ عليهم لأية أسباب.. أما الموقع الثالث فيضم بعض الأسرى بشكل رئيسي، إضافة لبعض حالات الحجز المؤقت لأفراد الجيش الشعبي، وشخص رئيسي، هو المساعد ”بيول“، المعادل الثاني لـ”كواج نيور كواج“ المتحفظ عليه داخل موقعنا.
أول مرة ألتقي فيها بأسرى الحرب من الجيش السوداني كانت إبان فترة اعتقالي الأولى بواسطة المخابرات الإرترية في سجن ”أدر سار“.. كانت محض صدفة، إذ أُمِرتُ في أحد الأيام بالتوجه مع مجموعة معتقلين من العسكريين الإرتريين لتشييد بعض البنايات في معسكر حرس الحدود، بدلاً من برنامجنا اليومي المتمثل في تكسير ونقل الصخور من جبل يبعد نحو كيلومترين عن موقع ذاك السجن.
وجدت أسرى الجيش السوداني يعملون في تشييد تلك المباني، الخاصة بمعسكر حرس الحدود الإرتري، وتحت حراسة مقاتلي الجيش الشعبي لتحرير السودان.. وهم يعتبرون وضعهم مميزاً لقربهم من مواقع تتيح لهم التحرك في نطاق أوسع.. كانت تلك –حينها- مفاجأة بالنسبة لي، حيث طرأ سؤال داخلي، وهو: لماذا يستخدم حرس الحدود الإرتري أسرى الجيش السوداني لدى الحركة الشعبية في تشييد مبانيه..!؟ وكان من الممكن أن ترسل الحركة الشعبية فصيلة كاملة من قواتها لأداء تلك المهمة، إذا كانت راغبة في تقديم العون لحرس الحدود الإرتري.. من الطبيعي أن يوجد أسرى في ظل الحرب، ومن الطبيعي أن يعملوا كسجناء حرب في مختلف المواقع التي تخص من قام بأسرهم، وفقاً لقوانين أسرى الحرب التي تتبناها المواثيق الدولية.. ولكن استخدامهم بواسطة طرف ثالث أثار في نفسي العديد من التساؤلات.
لكن الأسرى الموجودين في سجن ”ربدة“ وضعهم مختلف عن غيرهم. فهم يقومون بأداء بعض المهام الخفيفة في الإدارات الرئيسية المتعددة للجيش الشعبي في رئاسته العامة بالمنطقة، ويقضون معظم وقتهم خارج الأسوار إلى ما قبل غروب الشمس، ورغم الغبن الذي يطفح من وجوههم، إلاَّ أنهم يعيشون حياة طبيعية وسط أفراد الجيش الشعبي.. بل بعضهم يتحرك بحرية أكبر مما يمكن تخيله في ظل هذا الوضع، بل يعملون في سوق المنطقة الصغير في بعض المحلات التي تديرها الحركة أو أفرادها.
دينكا في الأسر
واحدة من المفارقات ”المُبكِمُضحِكة” هو لقاء رفيقي في رحلة الاعتقال ”حامد إدريس“ بالأسير ”الهادي“، وكان الأول هو القائد الذي حقق معه عقب أسره في إحدى عمليات قطاع مدينة كسلا.. ها هما يجلسان بجوار بعضهما، في تمام الصباح والمساء، داخل السور الكبير، قبل أن يتوجه كل منهما إلى سوره الشوكي الخاص، بعد أن يتجاذبا أطراف الحديث ويحمِّله الهادي ببضعة قطع من ”الخبز“ ”تسنِدنا“ بقية الليل البارد.. لكن ما ظل يقدمه لنا الأسرى من عون ومساعدات وعن رحابة صدر، يفوق ما كنا نتوقعه خاصة في تلك الفترة التي صادفت شهر رمضان، فهم يتحركون بحرية كبيرة، وكسروا كثيراً من الحواجز بينهم وبين مقاتلي الجيش الشعبي على المستوى الحياتي اليومي، وليبقى ما في النفوس في النفوس..!!
أما المفارقة الثانية، فهي وجود عدد من أبناء الدينكا -وغيرهم من أبناء القبائل السودانية في الجنوب- ضمن أسرى الجيش السوداني لدى الحركة الشعبية، وأبناء الدينكا هم الأسوأ حظاً من بين أبناء القبائل السودانية الأخرى.. كانوا يعاملون معاملة سيئة، والنظرة إليهم، حتى بين السجناء من أبناء قبيلتهم، كانت نظرة فيها كثير من الاحتقار، لدرجة أن عبَّر أحدهم عن ذلك قائلاً: ”لو كنت ضمن القوة التي أسرت ذلك الدينكاوي لقتلته في مكانه“.. وجمتُ وأنا أسمع ذلك القول.
ألقى جوُّ السلام العام، والإرهاصات باقتراب التوقيع على الاتفاق بظلاله على الآخرين، ولكنه انعكس على الأسرى بشكل أكبر.. ولمع بريق من أمل في نفوسهم بقرب استنشاق نسمات الحرية، وصار الواحد منهم يسير محلقاً، يكاد يقفز على عتبات الزمن، ليدفع عجلته بقوة إلى الأمام.. واستيقظت أحلام كانت قد وُئِدَت بعد طول سنين.
هاهي الأخبار تحمل لهم نبأ تصريحات قيادات الحركة والحكومة من نيفاشا، باقتراب خروجهم من غيابت الجُب، إلى هواء الحرية بطعم الشمس الحارقة.. فتركنا الذين في سجون ”خور ملح“ يتطلعون لكل شاحنة قادمة من ذلك الأفق، الذي تكسر خطه نتوءات الجبال وانفتاح الوديان.. ليتها تحمل علامة الصليب.. الصليب الأحمر الدولي.. تلك المنظمة الدولية التي كثيراً ما ساعدتهم وعملت على فتح قنوات اتصال بينهم وأسرهم في السودان، وكان لها من الأثر الإيجابي ما جعلهم يتشبثون بالحياة أكثر.. ها هم الذين منهم، موزعون حول منطقة ”ربدة“، يتم تجميعهم في سجنها، لتتدافع آمالهم باقتراب الموعد.
”جلدة ثالثة وعشرون“
السادسة من صباح الثلاثاء الثامن عشر من شهر يناير 2005م، وقف على رأسي حكمدار سجن ”خور ملح“، الرقيب أول ”دينق مرتاح“ يأمرني والآخرين، بترتيب أمتعتنا، وتجهيزها استعداداً لمغادرة السجن.. كان سعيداً جداً وهو يحمل إلينا هذا النبأ، ويضيف في كبرياء العالِم ببواطن الأمور: ”ستتحقق رغبتكم.. ومن هنا إلى أهلكم مباشرة“.. ويتابع والسعادة تغمره أكثر: ”لن يستغرق الأمر سوى ساعات.. ولكننا سنلحق بكم قريباً.. فالسلام خلاص.. ونحن جاهزين“. وقد كان ”دينق مرتاح“ حقيقة ”مرتاح“.. وقد اقترن هذا الاسم به لأنه يحب الراحة.. ولكنه من الشخصيات التي يحبها الإنسان، حتى وإن كان ”سجَّانك“.. فله من القدرات ما يزيل بها كل عنائك وأنت تقف أمامه، أو إن هو وقف أمامك، ويجعلك ”ترتاح“.
كأنه عرس.. عرس خروجنا من ”كرش الفيل“.. وقف الجميع (أفراد الحرس والنزلاء) يتسابقون في إلقاء التحية علينا، وتهنئتنا بهذا الحدث، ووجوه النزلاء تحمل أملاً كبيراً، وابتسامات متفائلة، مع بعضٍ من حزن لفراقنا.. ورافقنا الرقيب أول ”دينق مرتاح“ إلى خارج السجن، حتى مباني رئاسة الاستخبارات القريبة منه، لتطأها أقدامنا للمرة الثانية خلال أقل من شهر.. كان في استقبالنا الملازم ثاني ”طون أرياي“ ووجهه يوحي بخيبة أمل كبيرة، وهو يأمر بخروجنا هكذا، دون أن يحقق رغبة الحركة الشعبية في انضمامنا إليها..!!
دار بيننا حوار متقطع قبيل مغادرتنا لمنطقة ”خور ملح“، أكد فيه على ما قاله لنا في لقائه السابق بنا، وعبَّر فيه عن استيائه عموماً من وجودنا في ذلك الموقف، وقال إن الوضع تغير كثيراً الآن (بالنسبة لنا)، إذا يتوقع ان نغادر مواقع الحركة إلى السودان قريباً، فقط هناك إجراءات ستتم في منطقة ”ربدة” حيث رئاسة استخبارات الحركة في الجبهة الشرقية.. وأكَّد لنا أننا سنبقى في مباني إدارة الاستخبارات، وليس في السجن، إلى أن تكتمل إجراءات مغادرتنا.
علمتني التجربة ألاَّ أثق كثيراً في أي حديث في مثل هذه الظروف، فسيَّان الأمر لديَّ.. البقاء في السجن، أو في مباني رئاسة الاستخبارات، طالما أنا مرغمٌ على البقاء، وليست لي خيارات أخرى.. ولكن، ظل هاجس احتمال عودتنا للمخابرات الإرترية (باعتبارنا أصلاً موجودون هنا بسبب أوامر إرترية) يؤرقني، مثلما يؤرق بقية رفاقي.. وقد بدأنا في وضع تقدير موقف منذ السادس من يناير، عندما تأكد لنا -وبالوثائق وشهادة اللجنة- بأن الأمر بوضعنا رهن الاعتقال هي المخابرات الإرترية، أو كما يكتبونها في السجلات الرسمية ”Friends“، وإن احتمالات إعادتنا لهم واردة.
العودة إلى سجن ربدة
إذن، ترحيلنا مرة أخرى إلى منطقة ”ربدة“ هو إعادتنا إلى حيث بدأنا مشوار الاعتقال، ولكن لماذا تريدنا المخابرات الإرترية بعد أن جعلت من الحركة الشعبية في الجبهة الشرقية الشماعة التي ستعلق عليها مسئوليتنا..؟! فالجميع يشهد بأننا قد تم ترحيلنا من سجن المخابرات الإرترية إلى سجون الحركة الشعبية، ومسئولو فصائل التجمع الوطني الديمقراطي المتواجدون بالمنطقة يعلمون بوجودنا في سجن ”ربدة“ التابع للحركة، كما يعلمون بترحيلنا إلى ”خور ملح“ الأكثر عمقاً داخل الأراضي السودانية.. أهي مرحلة الإفراج عنَّا، أم شيءٌ آخر تدبره..؟! بلغ بنا الاستياء ذروته من احتمال عودتنا إلى تلكم الجهة، برغم علمنا أن وضعنا صار أكثر أمناً، بعد لقائنا يوم عيد الكريسماس بالملازم ثاني ”طون أرياي“.
عبَّر لنا ”طون“ مرة أخرى –قبل أن يودعنا ونحن نمتطي صهوة العربة التي ستقلنا إلى ”ربدة“- عبَّر لنا عن رغبة الحركة الشعبية في أن نعمل ضمن هياكلها السياسية والعسكرية، وأكَّدنا له احتمال حدوث ذلك في غير هذه الظروف.. فنحن نؤمن بمشروع ”السودان الجديد“ الذي تتبناه الحركة الشعبية، ونؤمن بدورها الكبير والمؤثر في الساحة السياسية السودانية، رغم كل ما تحمله داخلها من جينات ”السودان القديم“، ولكن دعنا نقرر من موقع كوننا أحراراً في إرادتنا، وليس فيما نحن تحت حدِّ السيف.
تأكدنا من مغادرة منطقة ”خور ملح“، بعد أن تجاوزت بنا العربة ذلك المنحدر الحاد والوعر الذي يفصلها عن تلك الأرض المنبسطة جنوبها.. وها نحن نسير في اتجاه منطقة ”ربدة“.. الجبال حولنا ذات الجبال، وأشجار المناخ شبه الصحراوي المتناثرة هنا وهناك، والمتكاثفة عند حواف مجاري مياه الأمطار الموسمية هي ذات الأشجار.. والغبار العالق خلف العربة هو ذات التراب.. لا شيء جديد، سوى أننا قفلنا راجعين من دهاليز كابوس، لنستيقظ على وقائع كابوس آخر تنتظرنا أحداثه.
تلوح ملامح ربدة في الأفق، بعد رحلة طويلة وشاقة، لنجد بعد دقائق معدودات أن العربة اجتازت بنا المجرى المائي العريض لتقف داخل سور مبنى رئاسة استخبارات الحركة الشعبية.. لا أحد ينتظرنا ليوضح لنا ما هي الإجراءات التي يجب علينا اتباعها، ولكن جاء بعد حوالي الساعة والنصف من يأمرنا بالتحرُّك..!! ألم أقل إنني لا أثق في أي حديث في مثل هذه الظروف، فها نحن الأربعة داخل السور الشوكي –الذي لم يتغيَّر فيه شيء- مرة أخرى، ليستقبلنا الحرس -قبل النزلاء- هذه المرة استقبال الفاتحين، ويحتضنوننا بدفء يعادل وزنه طقس يناير البارد.
لم يكن لكل ذلك ما يبرره سوى مجرد عاطفة تجتاح الأنفس، أو هي محاولة إراحة ضمير مثقل، ويعود كل شيء إلى وضعه الطبيعي.. وهو ما حدث بالفعل، إذ أننا حُشِرنا إلى حيث موقعنا السابق، وأخلى لنا النزلاء في أريحية وود تلك السقيفة الكرتونية التي شيدناها قبيل ترحيلنا إلى ”خور ملح“.
لكن السجن خالٍ، عدا النزيلين الدائمين ”أليكو“ و”أبوحديد“ اللذين يرزحان تحت وطأة ثقل تهمتيهما (القتل)، إضافة إلى بعض مقاتلي الجيش الشعبي.. أما صديقنا ”كواج نيور كواج“ فلم نجد له أثراً طوال يوم عودتنا الأول، مما جعلنا نتساءل عن سبب غيابه.. فيما ظل وضع الأسرى كما هو، تتآكلهم حالة الانتظار، وينهب وجدانهم لهيب الأمل في حياة بين أهلهم، بعد طول غياب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق