قراءة في ذكريات حسن نجيلة

هكذا تكتب الذكريات، هذا ما طرأ على ذهني وأنا أغوص مع المرحوم الأستاذ حسن نجيلة في عمق بادية الكبابيش من خلال ذكرياته في البادية. سأتطاول كثيراً إن تحدثت عن اللغة المميزة والأسلوب الذي يبعث على الدهشة فيجعلك معلقاً بين السماء والأرض قبل أن تضع الكتاب جانباً وتكتشف إنك أتيت على كل سطوره دون أن تدري.ورغم إنني قرأته في حياتي الباكرة واستمتعت به مثلما الآن لكني سأقف على جوانب من تلك السيرة المشغولة بالاجتماع والثقافة والسياسة والاقتصاد فيه، عبر ملاحظاته الذكية والدقيقة عن الحياة في البادية.

وقف المرحوم حسن نجيلة على الصراع في مناطق البدو الرحل في دارفور أو كردفان في إطارها القبلي بسبب المرعى والمياه، ورغم إنه لم يشهد التداعيات الأمنية عقب إعلان المجاعة في ثمانينيات القرن الماضي في خواتيم سنوات النظام المايوي، وتطورها إلى من نهب مسلح وقطع طرق إلى حروب أهلية وحركات مسلحة، إلا إنه لفت إلى حقائق لا تنتبه لها سوى (عين النسر). 

منذ بداية رحلته إلى دار الكبابيش انتبه حسن نجيلة إلى ظاهرة السلاح، لم يكتف بالملاحظة العادية إلى أن ركب مفتش المركز (المستر لي) –الذي يسافر في معيته- يتكون من ثمانية من جنود البوليس المدججين بأسلحتهم، اثنان منهم في المقدمة والستة الآخرون في مؤخرة الركب "لحراسته أو لإعطاء ركبه الهيبة الرسمية الحكومية"، بل انتبه –في ذلك الزمان- إلى حقائق مهمة لا زالت تؤثر على مجريات الأحداث، بل يكاد بسببها ينفرط العقد أو ما تبقى منه، وعلى رأسها التداخلات الحدودية والتدخلات الخارجية ودورها في انتشار السلاح. فهو يتذكر في (إلى حمرة الشيخ) زيارته الأولى بتكليف رسمي من المركز لإنشاء مدرسة متنقلة في مضارب قبيلة الكبابيش الرحل.

"كان علينا ان نسير أربعة أيام ليلاً ونهاراً حتى تبلغ (حمرة الشيخ) مقر الشيخ علي التوم وعاصمة الكبابيش، تلك القبيلة، ذات النفوذ الواسع في تلك المنطقة الشايعة في غرب السودان وحيث توجد أضخم ثروة حيوانية من الإبل تموج بها وديان تلك المنطقة ومراعيها ومناهلها، والرجال من خلفها يحرسونها بأسلحتهم النارية إذ لا يوجد رجل واحد يسير خلف إبله ولا يحتقب بندقية وقدراً غير قليل من الرصاص..." إذاً السلاح منتشر بصورة لافتة القبيلة كلها أبالة وبالتالي مسلحة. لكن المهم أن "لا تسل من أين لهم السلاح والرصاص فإن لهم مصادر شتى تمدهم بها". والأهم " وكان الانجليز يعرفون هذا ويتغاضون عنه". 

لكن ما السبب؟ "ذلك لأن رعاة الكبابيش كثيراً ما يتعرضون عندما يوغلون في الصحراء في فترة الشتاء إلى هجمات مسلحة من بعض القبائل الرعوية الخاضعة للحكم الفرنسي كقبائل الكنين والفيزان في شمال أفريقيا وتدور بينهم رحى معارك عنيفة يغنم فيها المنتصرون إبل المهزومين، وقد يعيد المهزومون الكرة عاماً آخر ويتربصون بأي من أفراد القبيلة الأخرى يرعون إبلهم على الحدود فيغيرون عليهم ويثأرون لقتلاهم ولإبلهم المنهوبة."

الانتباهة المبكرة للأستاذ حسن نجيلة ليس لواقع الصراع القبلي الداخلي فقط، والذي أشار إليه في بعض مواضع ذكرياته، وإنما العابر للحدود تجعل لكتابه قيمته المرجعية مثل غيره من الكتب التي أصدرها. فهو تسجيل حي وميداني يمكن الباحثين والمعنيين –وربما فعلوا- من قراءة الواقع الماثل أكثر عمقاً وأوقع أثراً، خاصة تغذية عوامل الصراع القبلي الذي يكفي أن تشتعل فتيلة ناره بمجرد إنطلاقة رصاصة –حتى طائشة- لتسيل دماء كثيرة. تغذية هذا الصراع القبلي يتم في حضرة السلطة إما بغضها الطرف عن ما يحدث أو قلة حيلتها حيال ما يحدث أو رغبة منها، لأغراض سياسية، أن يحدث ما يحدث. هكذا لم يتغير المشهد منذ أن وصل الأستاذ حسن نجيلة، ولم تتشكل لقطاته بوصوله بل ظل متصلاً بحقبة زمنية سابقة، وما زال المشهد متصلاً في تجلياته الجديدة برؤى إخراجية ومونتاج أكثر حداثة.

لم تكتف الذكريات بتلك الإشارة العابرة لحقيقة الانتشار الواسع للسلاح وسط القبائل البدوية في تلك المنطقة، ففي موضع آخر (في دار الشيخ علي) تجيء الإشارة للسلاح من خلال تناقض الرؤى بين شيخ الكبابيش ولإدارة الإنجليزية في مسألة التعليم. فقد كان الشيخ علي لا يرغب في فتح مدرسة مثله وكثير من زعماء العشائر في مناطقهم، بالرغم من انه كان يسعى لتعليم أبنائه في أمدرمان. من بين أسباب عدم رغبته تلك هو خوفه من عيون الحكومة تنقص عليه الحرية التي يعيشها وقبيلته، حيث جاءت الإشارة للسلاح "فالسلاح مثلاً يباع في وضح النهار دون خشية من احد والرصاص كذلك يباع بينهم في سهولة ويسر، ويصنع بعضه محلياً إذ يستجلب البدويون نوعاً معيناً من البارود الجبلي والقصدير ونوعاً معيناً من الكبريت ويصنعون من هذا الخليط رصاصاً يصلح للاستعمال..

يظن الأستاذ حسن نجيلة إن واحدة من دوافع زعماء العشائر بمن فيهم الشيخ علي للوقوف في وجه التعليم في مناطقهم "خوفهم من أن يدفع التعليم أبناء القبيلة إلى التمرد على سلطانهم"، وكأنها ملاحظة استباقية لما يحدث الآن، فواقع الحال الآن يقول إن نسبة ارتفاع الوعي هي ما دفعت بالتمرد على السلطان في سبيل المطالبة بالحقوق. وغير خشيتهم التمرد عليهم، كان الزعماء حريصين على حالة التجييش الدائمة للقبيلة في مواجهة القبائل الأخرى.

وقد كان لإدارة الاستعمار رأي آخر، يلتقي مع وجهة نظر زعماء العشائر ويناقضها في ذات الوقت، فهي مع توسع التعليم هناك في مناطق البادية خوفاً من تعليم أبناء الزعماء في أمدرمان، كما كانت رغبة الشيخ علي زعيم الكبابيش. وكان ممثلها مدير كردفان المستر دوجلاس نيوبولد "يرى أن تفتح المدرسة في البادية ليعلم أبناء زعيم البادية في عقر دارهم فلا ينتقلون إلى امدرمان، ولا عجب أن يصر على هذا الرأي فهو يعلم جيداً إن النهضة الوطنية غرست بذورها في أمدرمان وأنها أخذت تبرز وتنمو بوجه يخيف الانجليز".

اتفق زعماء القبائل والإدارة الانجليزية على أن التعليم سيعقد من أوضاعهما، وفي ظل وجود هذا الكم من السلاح بالتأكيد سيزيد من حجم التعقيد مثلما يحدث الآن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق