اغتيال السفير الأمريكي في الخرطوم -5 - الخرطوم الشارع والمدينة

من طبيعة مثل هذه الأعمال والعنصر المهم في نجاحها هو المفاجأة وإحداث فعل الصدمة قبل أن يستجمع الطرف الآخر قدرته على الحركة والتفكير. وعنصر آخر لا يقل أهمية هو اختيار التوقيت ومسرح العملية، تلك هي عناصر شكلت عصب التخطيط لعملية الخرطوم واقتحام السفارة السعودية فيها من قبل أعضاء منظمة أيلول الأسود "Balck September" في فاتحة مارس 1973.


لم يكن إختيار الخرطوم العاصمة مسرحاً لواحدة من أكبر عمليات منظمة أيلول الأسود "Balck September" خبط عشواء، فقد توافرت فيها عناصر تنفيذ عملية جريئة أخرى سترفع من أسهم الفدائيين الفلسطينيين، وتعيد حسابات مشروع السلام الأمريكي في الشرق الوسط. عين أيلول ظلت ساهرة ويقظة في شوارع الخرطوم، تتابع وتراقب وترصد في دقة حركة من يدخلون في نطاق أهدافها. إذ لم يكن لمكتب منظمة التحرير الفلسطينية في الخرطوم في ذلك الوقت صفة التمثيل الدبلوماسي الذي يشغله روتين البروتوكولات الدبلوماسية. 

الدبلوماسيون في العاصمة يتحركون في سهولة ويسر، دون تعقيدات أمنية كثيرة، والتأمين حول السفارات الأجنبية لا يتخذ طابعاً متشدداً، فالخرطوم عاصمة آمنة بكل المقاييس ولم يحدث فيها ما يستدعي إجراءات أمنية مشددة. لذلك كانت حالة من الاسترخاء تسيطر حتى على السفارات نفسها، حيث لا تلمح تلك السواتر الخرصانية الضخمة ولا إجراءات الدخول المعقدة. وتكشف إحدى برقيات السفارة الأمريكية في الخرطوم إلى الخارجية الأمريكية هذا الأمر، فقد أرسل القائم بالأعمال في الخرطوم –حسب ترجمة محمد علي صالح للوثائق الأمريكية- برقية إلى وزير الخارجية الأمريكي بتاريخ 2 مارس 1973 موضوعها حراسة السفارة.

"إشارة إلى برقيات سابقة، أعلنا اللون البرتقالي للحالة الأمنية داخل السفارة. نحن نعاني من قلة المعلومات من دبلوماسيينا ومن السودانيين الذين يتعاونون معنا. ولهذا لا نقدر على تقييم أي انذار مسبق بالهجوم على السفارة.

أيضاً، ليست قوات الامن السودانية متطورة إلى درجة تجعلها قادرة على اكتشاف كل خطر إرهابي علينا، رغم أنها ترغب في ذلك. كما إن حالها يدعو للأسف. مثل جنود يحرسوننا لكننا نراهم نائمين وبنادقهم في أيديهم. أو نراهم مستيقظين لكنهم لا يهتمون كثيرا بالذين يمرون بالقرب من السفارة.

أيضاً، يرغب كبار المسئولين السودانيين في حراستنا وطمأنتنا. لكنهم يقولون أشياء لا نفهمها، أو لا نصدقها، مثل:

أولاً: يقولون إن خطر الفلسطينيين انخفض بعد أن قتلوا الدبلوماسيين الثلاثة. لكن، هل يقولون هذا لأن فلسطينيين قالوا لهم ذلك؟ أو لأنهم يعتقدون إن عدم رؤية الشر معناه عدم وجود الشر.

ثانيا: يقولون إن الفلسطينيين لن يقومون بعمل آخر ضدنا، حتى لا يزيد غضب السودانيين عليهم، ويسبب ذلك في إصدار أحكام أكثر قسوة عليهم. لكن، حسب معلوماتنا، الفلسطينيين الذين يؤيدون مثل هذه العمليات، والسودانيين الذين يعطفون عليهم، مجموعات غير عقلانية من الناس. إما غاضبون، أو يريدون الاستشهاد."

في نفس الوقت، عملت السفارة على تأمين مبانيها والعاملين فيها بإعادة ترتيب تأمينها ورفع درجته إلى أعلى المستويات مما جعل الحالة النفسية للعاملين هي خليط من الاستقرار والحذر.

العصفور يقترب من الشرك

كان على فواز (أبو مروان) أن يفعل شيئاً ما بعد توليه رئاسة مكتب فتح في الخرطوم، وهو العضو في منظمة أيلول الأسود، فهو يدرك طبيعة المكتب وطبيعة المهمة الموكلة إليه وإلى طاقمه. لا بد من استغلال الوقت في ما يمكن أن يحقق للقضية إنجازاً مهماً. نشط طاقم المكتب تحت إدارته في تنفيذ خطة موضوعة بعناية لمراقبة تحركات الدبلوماسيين الأمريكيين خاصة والغربيين والعرب عامة. ساعدهم في ذلك طبيعة القضية الفلسطينية ومكانتها لدى السودانيينن مما سهل حركتهم، وكذلك التسهيلات التي تقدمها لهم الحكومة وتنقلهم بعربات تحمل لوحات دبلوماسية.

ظلت المعلومات اليومية توضع على مكتبه كل مساء، بواسطة كرم (أبو غسان) ورزق القياديين في مكتب فتح. وكانت الخرطوم العاصمة كتباً مفتوحاً في شارع الخرطوم ببيروت، التي كانت تتابع حركة الدبلوماسيين الغربيين وأعضاء السفارة الأمريكية من على البعد. إذ كانت المعلومات التفصيلية اليومية ترد من قلب العاصمة الخرطوم ومن داخل مكتب فتح إلى شارع الخرطوم ببيروت ويتم تدارسها بواسطة قيادات منظمة أيلول المقيمين هناك. وكما ظلت القيادات تتابع أهدافها حيث تتواجد عناصرها في مناطق متفرقة من العالم، جاءت الخرطوم كواحدة من المسارح المحتملة لتنفيذ إحدى العمليات إذا ما توافرت واكتملت شروطها.

الإسترخاء الأمني

دخلت عدة عناصر لترشيح الخرطوم العاصمة مسرحاً للعملية القادمة، أولها المعلومات عن حالة الاسترخاء الأمني الذي يسود العاصمة بشكل عام، مما يسهل الأمر كثيراً للتخطيط وإدخال الأسلحة والتنفيذ. فالخرطوم كانت مشغولة بحدثين مهمين على الصعيد الأمني، فهي ستستقبل أول ذكرى لأعياد الوحدة الوطنية بعد توقيع اتفاقية أديس أبابا بين الحكومة وقوات الأنيانيا، ولكن مركز الاحتفالات سيكون بعيداً عن الخرطوم فالتجهيزات والترتيبات له كانت تجري في عاصمة الإقليم الجنوبي جوبا. هذا الأمر سيركز كل المجهودات الأمنية هناك بعيداً عن العاصمة. كما أن عناصر الأمن في الخرطوم مشغولة طوال الفترة السابقة للعملية بالمحاولة الإنقلابية للعميد متقاعد عبدالرحيم شنان، والتحقيقات حول الإنقلاب الذي قال عنه بيان لوزارة الداخلية إنه يهدف لإغتيال الرئيس جعفر نميري وكبار المسؤولين العسكريين، رغم أن هناك من يرى أن موضوع الإنقلاب ضخم أكثر من اللازم، خاصة وأن نميري إتهم الشيوعيين والأخوان المسلمين وأحزاب أخرى معاً بالتخطيط للانقلاب ودعم شنان.

لم يكتف قادة أيلول الأسود في شارع الخرطوم ببيروت بتلك المعطيات، لكن باغتتهم ضربة قوية عندما أعلنت السلطات الأردنية إعتقال القيادي في المنظمة وقائد عملية ميونخ أبوداؤود، مع مجموعة من الرفاق أثناء عبورهم الحدود الأردنية لتنفيذ عملية تستهدف أعضاء الحكومة الاردنية باحتجازهم في مقر الوزارة. جاء إعتقال أبو داؤود ليشكل دفعاً جديداً لتنفيذ عملية سريعة بغرض المطالبة بالإفراج عنه مع آخرين.

القرار

خرج القرار من شارع الخرطوم ببيروت إلى أعضاء المنظمة بمكتب فتح في العاصمة الخرطوم "إختطاف القائم بالأعمال الأمريكي في الخرطوم هو الهدف". إلتقط فواز الشفرة المرسلة من بيروت، وقلبه منشرح باختيار منطقته مسرحاً للعملية، وشرع فوراً في الإعداد لتهيئة المسرح. وكان السفير الأمريكي هو العصفور في البرقيات المشفرة المتبادلة بين الخرطومين. ضرب أعضاء منظمة أيلول الأسود حصاراً محكماً حول حركة السفير الأمريكي، وكانت مهمة كرم (أبو غسان) قيادة طاقم المتابعة لتحركاته.

اعترضت وكالة المخابرات الأمريكية الشفرة لكنها فشلت في تحديد المسرح، فقد إنشغلت داوئرها بمحاولة التفجيرات التي كشفت في نيويورك، وعندما اكتشفت خطأها كان الوقت قد مضى لإبلاغ السفارة الأمريكية بالخرطوم. 

هي الأقدار التي تساعد في نجاح كثير من الأمور أحياناً. فقد شاءت الأقدار أن تكون تلك آخر أيام القائم بالأعمال الأمريكي كريتس مور في السودان ليأتي بديل له للإستلام منه قبل مغادرته. وكان آخر تقرير كتبه إلى وزير الخارجية الأمريكية روجرز، هو ملاحظاته عن الرئيس السوداني نميري.

ملاحظات بعيداً عن الموت

"لثلاثة سنوات ونصف سنة، ظللت أراقب الرئيس جعفر نميري وهو يحكم السودان، مراقبة من بعد، ومراقبة مباشرة.  خلال هذه السنة فقط، قابلت نميري ست عشرة مرة، بعضها مع زوار أميركيين وبعضها نحن الاثنين فقط.  ومع اقتراب نهاية السنة، أرسل هذا التقرير وألخص فيه انطباعاتي عن نميري:

في أعماقه، يظل نميري عسكريا.  ويظهر هذا في تفضيله للمناقشات العسكرية ومقابلة العسكريين والتعامل معهم.  يظل قائدا ميدانيا، يفضل عدم التقيد بالبروتوكولات والرسميات ...

لاحظت إنه، مع الحرص على المحافظة على لوازم منصبه الرسمي، يميل نحو علاقات غير رسمية وودية مع مساعديه ومستشاريه، والذين طبعا يعاملونه في احترام يناسب مكانته.  كما أن هؤلاء، وخاصة صغار الضباط، يحبونه لأنه نميري الإنسان.

لاحظت أن نميري يجيد العمل أكثر من التفكير.  يجيد إصدار الأوامر، وإلقاء الخطب والتجول في المدن والقرى، وتقديم الوعود للمواطنين.  حتى بدون خطاب مكتوب  وبكلام شفهي، صار يجيد مخاطبة المواطنين، وكسب حبهم وتأييدهم.  وصار يقدر على إقناع كثير منهم بأنه واحد منهم. وإنه يمثل ما يريدونه في قائدهم، سوى في مظهره العسكري أو في قدرته على القيادة.

يقدر نميري على كسب الناس أكثر عندما يتحدث إليهم بدون خطابات مكتوبة.  في الحقيقة، تبدو هذه الخطابات المكتوبة مملة، في محتواها وفي طريقة إلقائها ...  

لكن، في الجانب الاخر، تعلم نميري إن الخطابات المكتوبة تحميه من الوقوع في أخطاء تسبب مشاكل داخلية وخارجية.  مرة سمعته ينتقد الرئيس الليبي معمر القذافي لأنه يتكلم بدون الاعتماد على خطابات مكتوبة.  وقال له إنه يسبب لنفسه مشاكل لأن وكالات الأخبار والحكومات تتابع ما يقول. لكن، من المفارقات أن نميري نفسه لا يفعل ما ينصح به.

لاحظت أن نميري تعود على الحكم، وتغلب على الخوف والتردد، وصار يحكم بطريقة عادية بدون توتر. صار يصدر الأوامر يميناً وشمالا، وأحيانا في عفوية، وكأنه، حقيقة، قائد ميداني.  صار يرى أن قدره (من الله) هو أن يحكم السودان.  

ولم يعد يشك في موضوعين: أولاً: شرعيته.  ثانيا: قدرته.

لكن، يقول ناقدوه إنه يصدر أوامر ولا يتابع تنفيذها. وإن هذا يدل على جهله بعلم الحكم، وهو علم معقد. نرى نحن إن الناقدين محقون هنا. لكننا نلاحظ الآتي عن نميري: أولاً: يتعلم الحكم بينما يمارسه.  ثانياً: يعرف إنه لا يملك كل المؤهلات.

نقول نحن إن هناك فرق بين أن يعرف وأن يعترف. وهو لم يعترف لشعبه ولم يعترف لي بنقص قدراته.  لكنه، أكثر من مرة، طلب منى معلومات وكتب تساعده في فهم الحكم، وخاصة المواضيع الاقتصادية ...

يتمتع نميري بثقة كبيرة في نفسه، ويوزع كثيراً من مسئولياته على وزراء ومستشارين يثق فيهم. لكنه، أحياناً، يغير رأيه بدون إبلاغ هؤلاء مسبقاً، أو استشارتهم مسبقاً. مثل قراره مؤخراً بإلغاء ضريبة الدفاع بدون استشارة وزارة الخزانة.

يحافظ كبار الوزراء والمستشارين على اتصالات شخصية، ومن وقت لآخر، مع نميري. من بين هؤلاء: منصور خالد، وزير الخارجية، وإبراهيم منعم منصور، وزير المالية.  لكنهم لا ينتقدونه إلا في مواضيع هامة جداً.

بالنسبة لنا، الأمريكيين، يرتاح لنا نميري كثيراً، ويبدو إنه، حقيقة، يثق فينا.  يبدو أن الوقت الذي قضاه في الولايات المتحدة، خاصة في قاعدة ليفينويرث العسكرية (في ولاية كنساس) أثر عليه كثيراً. لم نلتق أبداً بدون أن يتذكر أشياء من تجربته هناك. مثل فيلم عن التدريبات العسكرية طلب منه نسخة لتدريب جنوده. ومثل تنظيم هياكل عسكرية يريد أن يطبقها على القوات السودانية المسلحة.

صار واضحاً أن نميري، منذ الإنقلاب الشيوعي الفاشل في السنة الماضية، وقراره بالتحول نحو الغرب، لا يرى أمامه خياراً سوى الاعتماد علينا، خاصة في مجال المساعدات ...

لكن، يوجد اختلاف بين تودد نميري الشخصي العميق نحو الشعب الاميركي وبين المواضيع السياسية.  مثلا: في السنة قبل الماضية، دعا أميركيين من ولاية كنساس (منهم عائلة كان سكن معها لفترة من الزمن) لزيارة السودان. كانت المناسبة هي الذكرى الاولى للانقلاب العسكري الذي جاء به إلى حكم السودان. وكان يعادي الولايات المتحدة عداء قوياً.

شعرت باختلاف في معاملاتي مع نميري، بالمقارنة مع ما كان عليه الحال في بداية حكمه. كنت أقابله لأنفي عن الولايات المتحدة إتهاماته بمؤامرات ضده. الآن، أقابله لأقدم له مساعدات. وصارت مقابلاتنا ودية جداً. أحياناً يعد بتفيذ أشياء نطلبها منه، لكنه لا يتابع الموضوع. وأحياناً قبل أن أغادر أنا مكتبه،  يتصل تلفونيا بالوزير المسئول ...

عمر نميري اثنان وأربعون سنة. متزوج لكن بدون اطفال. أحياناً، تظهر زوجته علناً، وعادة تكون ضيفة رمزية في مناسبات تحضرها زوجات مسئولين أجانب زائرين. لكنها في مثل هذه المناسبات تتحدث قليلا.

يفهم نميري اللغة الانجليزية فهماً جيداً، وفي اللقاءات الخاصة، يقدر على الحديث بها في شبه طلاقة، لكنه يخلطها بكلمات عربية...

يقال إنه يشرب الخمر (من وقت لآخر)، لكنه لا يسرف في ذلك.  والآن يحاول تقليل تدخين السجاير.  في بداية السنة، كان توقف عن التدخين، لكنه عاد إليه بسبب مشاكل داخل مجلس الوزراء ... "

استفادت هذه الحلقات من:

أرشيف جريدتي الصحافة والأيام الصادرتين إبان تلك الأحداث.

تقرير وزارة الخارجية المودع لدى دار الوثائق القومية (احداث أيلول الأسود في الخرطوم .ز الواقعة وردود الأفعال).

مذكرات أبو داؤود.

بعض المقالات والمتابعات في الصحف والانترنت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق