اغتيال السفير الأمريكي ف الخرطوم - 4 - ألعاب على أنغام الرصاص

الرابع من سبتمبر عشية بدء تنفيذ العملية بدا يوماً حافلاً بالنسبة للرياضيين المشاركين في الألعاب الأولمبية، فكل الأمور تسير باتجاه التصفيات النهائية وميداليات الذهب والفضة والبرونز. لكن هنالك ميداليات أخرى كانت تخص الفدائيين الفلسطينيين، انشغل أبو داؤود القيادي في منظمة أيلول الأسود بتوزيعها على الحقائب التي اشتراها قبل يومين. كانت تلك الميداليات عبارة عن أسلحة كلاشنكوف ورشاشات وقنابل يدوية وأدوات ومعدات مساعدة، إضافة لملابس رياضية ووجبات غذائية تكفي الفدائيين ليومين أو ثلاثة.

الصورة: موقع DW

مضي النهار ثقيلاً على أبي داؤود بعد أن انجز مهمته الإبتدائية والتقى بقائدي العملية التنفيذيين "تشي" و"محمد" أول النهار، ووزع عليهما الحقائب لتسليمها لبقية الفدائيين، على أن يلتقي الجميع عند التاسعة مساءاً. كانت التعليمات التي أصدرها أبو داؤود مشددة بأن يغادر الفدائيون فنادقهم اليوم بعد أن يدفعوا كل مستحقاتها دون أن يثيروا أي نوع من الشبهات حولهم.

وقد كان أن حضر الجميع، الثمانية فدائيون الذين تلقوا تدريبات مكثفة في ليبيا في هذا النوع من العمليات، يرتدون البذلات الرياضية الملونة ويحملون حقائبهم ليلتقوا للمرة الأخيرة بأبي داؤود ومن ثم التوجه إلى حيث موقع التنفيذ. ولم يمل أبو داؤود من ترديد تعليماته بخصوص العملية بأنها عملية سياسية وليس الغرض منها قتل الأسرى، بل الإبقاء عليهم أحياء قدر الإمكان. وكذلك التوجيهات الخاصة بالتفاوض وكيفية التصرف إزاء وسائل النقل التي سيوفرها الألمان لتقلهم إلى المطار هم والأسرى.

لم يتبق شيء سوى الانتظار، والوقت في هذه الحالات يمضي ثقيلاً لا يكترث، إلى أن إقتربت عقارب الساعة من الثانية صباح الخامس من سبتمبر. غادر الجميع الموقع الذي إلتقوا فيه وكان مطعماً صغيراً، عندها طلب أبو داؤود من الجميع تسليم جوازات سفرهم وكل ما يتعلق بالوجهة التي أتوا منها. ثم انطلق الجميع تجاه القرية الأولمبية حيث تسكن البعثات الرياضية موزعة على عدد من البنايات والفنادق داخلها. وكانت الاستطلاعات الأولية كشفت مواقع تواجد البعثة الإسرائيلية الموزعة في ثلاث شقق.

بداية النهاية

نزل الفدائيون من عربات الأجرة التي كانت تقلهم على مسافة من المدخل الغربي للقرية الأولمبية. كان كل شيء هادئاً وطبيعياً، وانتخب أبو داؤود مكاناً ليرتكز فيه قرب الحائط المحيط بالقرية، الذي يبلغ ارتفاعه مترين، ليعبر الجميع على ظهره. حركة غير عادية لفتت نظر أبو داؤود قبل أن يعد نفسه تماماً للإرتكاز، فعلى بعد عشرات الأمتار كانت مجموعة من الناس تتحرك محدثة ضجة وصخباً ويرفعون عقيرتهم بالقهقهة والغناء.

صرخ تشي: أمريكيون.

سأله أبو داؤود: هل أنت متأكد؟

قال: بالطبع مع هذه النبرة واللهجة المماثلة لا يمكن أن أخطئها.

هاهم يصلون إلى مدخل القرية والأبواب مقفلة بعض منهم بدأوا يحاولون تسلق السياج المشبك، كان هؤلاء من الرياضيين العائدين إلى شققهم. فكر أبو داؤود في إستغلال هذه الفرصة الذهبية ليستغلها في تسلل الفدائيين إلى داخل القرية، وذابت المجموعة وسط الأمريكيين فبدت كأنها فريق رياضي بملابسهم وبدلاتهم الرياضية، ليس هذا فحسب بل ساعدوا الأمريكان في تسلق شباك المدخل، وهم بدورهم لم يترددوا في مد يد العون للفدائيين عند بلوغهم أعلى الحائط، وساعدوهم في إدخال الحقائب التي تحمل أسلحتهم وقنابلهم ويضعونها في الجهة الأخرى، وهم لا يدرون ما ستنبئهم به نشرات الأخبار بعد ساعات من الآن.

اقتربت الساعة من الرابعة صباحاً عندما بدأ الفدائيون ينفصلون من مجموعة الأمريكيين ويتجهون إلى حيث اهدافهم. وعاد أبو داؤود إلى الفندق حيث يقيم. كان بادي القلق يدير مؤشر الراديو من محطة إلى أخرى عله يستمع إلى ما يفيده ببدء العملية، لا شيء في الأخبار حتى نشرة السابعة. تصاعد القلق إلى صدر أبو داؤود وهو يتساءل إن كان الفدائيون قد فشلوا في تنفيذ العملية، وكان الاتفاق في حالة الفشل وخرجوا من القرية الإلتقاء في محطة الحافلات لإخراجهم من البلاد.

في أخبار الساعة الثامنة ورد الخبر "خمسة رجال مسلحين – من الفلسطينيين كما حدد الخبر – اقتحموا قبل الفجر بقليل شقق البعثة الأولمبية الإسرائيلية وقد قتل إسرائيلي واحتجز ثلاثة عشر آخرون. وقد هدد الفدائيون في بيان إلى السلطات الألمانية بقتل الرهائن إذا لم يفرج عن عدد من المعتقلين الفلسطينيين في إسرائيل وعن أشخاص آخرين.

توزع الفدائيون منذ دخولهم المبنى الذي يقيم فيه الإسرائيليون، إلى ثلاث مجموعات حسب الخطة المتفق عليها، بحيث تسيطر كل مجموعة على شقة من الشقق الثلاث المعنية. لم تجد أي من المجموعات الثلاث مقاومة تذكر، إلا ان حظ المجموعة التي يقودها محمد كان عليها مواجهة أحد الرياضيين وهو مدرب المصارعة في البعثة، فواجههم وقاومهم مما اضطرهم إلى إطلاق النار عليه فوراً. لم تكن البعثة الإسرائيلية كبيرة مما ساعد الفدائيين بعددهم القليل السيطرة على الموقف.

قبل شروق الشمس بقليل كانت الحكومة الالمانية وأجهزتها الأمنية تفور من هول الصدمة والمفاجأة، فشكلت غرفة طوارئ فوراً للتعامل مع الأزمة وكيفية إدارتها. كان واضحاً أن الشرطة الألمانية تجهل حجم الأزمة التي تتعامل معها، لذلك كانت الأخبار الأولى غير دقيقة، فقد أشارت إلى أن عدد المحتجزين الإسرائيليين ثلاثة عشر، أحدهما قتل بينما استطاع اثنان منهم الهرب أثناء عملية الاقتحام، كما أشارت الأخبار الأولية إلى أن عدد الفلسطينيين خمسة بينما هم في الواقع ثمانية أشخاص.

إنتشرت القوات الأمنية حول القرية الرياضية وامتلأت أسطح المباني بالقناصة في محاولة من الشرطة لسد المنافذ أمام الفدائيين، محيطة بالمبنى رقم 31 حيث الأحداث الساخنة تجري. في تلك الأثناء بدأت محاولات الحكومة الألمانية إختراق فضاء الأحداث، فبعثت ببعض الوزراء من بافاريا ومعهم مصري من أعضاء اللجنة الأولمبية ليلتقوا بمحمد مصالحة القائد السياسي للمجموعة الفدائية، وظل فيما بعد على اتصال دائم بالحكومة الألمانية بواسطة شرطية مترجمة.

الأمور تسير وفقاً للسيناريو المرسوم لها، فقد استلم الألمان البيانين، وبدأت الحكومة الألمانية الاتصال بإسرائيل لمعرفة موقفها من الحادث. الساعة تجاوزت التاسعة صباحاً عندما أعطى الفدائيون السلطات الألمانية مهلة حتى منتصف النهار لتنفيذ طلباتهم وتحضير وسائل نقل تقلهم إلى المطار، بعد إعداد الطائرات الخاصة التي ستقلهم إلى مصر مع أسراهم.

في هذا الوقت انتهت المهلة الثانية المحددة ظهراً، وكانت التقارير التلفزيونية تقول أن محمد الخطيب وهو مصري يعمل مديراً لمكتب الجامعة العربية في بون، نقل عرضا إلى الفدائيين بفدية غير محددة ومبادلة الرهائن بشخصيات ألمانية رفيعة المستوى تحل محلهم. رفض الفدائيون العرض ومنحوا السلطات مهلة أخيرة لساعة باديء الأمر، ثم حتى الساعة الثالثة بعد الظهر، ثم مددت للخامسة.

كان هناك انطباع بان تسوية قد تحصل بين السلطات الألمانية والفدائيين على الرغم من رفض الحكومة الإسرائيلية رفضا قاطعا الموافقة على أي إطلاق للمعتقلين، الا ان هذا الانطباع انعكس فجأة منتصف بعد الظهر إذ تأكد مقتل ضحية ثانية من بين الإسرائيليين المحتجزين واسمه جوزيف رومانو رافع أثقال. عند الساعة الرابعة والنصف شوهدت المصفحات المزودة بالرشاشات تدخل القرية، وبعد نحو خمس عشرة دقيقة حصلت حركات سريعة جامحة لرجال شرطة يلبسون السترات الواقية، ومن بين الكثيرين المتجمعين حول القرية راجت فكرة بأن الأمر بات قريباً من خاتمة مأسوية. لكن لم يحدث شيء وأعلنت النشرات الإذاعية أن وزير الداخلية هانس غينشر كان يتفاوض مع الفدائيين وأنه تمكن من محادثة ورؤية الرهائن. في الخامسة والنصف خفت حدة الإجراءات الأمنية وأخذت بعض المروحيات تحط بالقرب من القرية، وبعد نصف ساعة كانت التحضيرات لرحيل الفدائيين مع رهائنهم على متن طائرة من شركة لوفتهانزا.

الفجر الدامي

جرت التحضيرات لترحيل الفدائيين الفلسطينيين وأسراهم الإسرائيليين على قدم وساق، وهبطت مروحيات تابعة للشرطة الألمانية على أرض القرية الأولمبية لتقلهم من هناك إلى مطار فورشتنفلد بروك. بدت الأمور طبيعية، فقد تحرك الفدائيون ورهائنهم بالبص إلى المروحيات التي كانت في انتظارهم، في وقت متأخر من المساء. كل الإذاعات كانت تتابع لحظة بلحظة تلك الخطوات، وتعرض الصور على شاشات التلفزيون.

هبطت المروحيات داخل مدرج مطار فورشنتفلد بروك، وعلى مرمى البصر تجثم طائرة عليها علامة شركة اللوفتهانزا، هي الطائرة التي ستقل الجميع إلى مصر، وتتنفس بعدها ألمانيا الصعداء بعد أن يغادر أراضيها ذلك الكابوس. ترجل "تشي" ومحمد مصالحة، كل من المروحية التي تقله فقد كانا منفصلين لدواعي القيادة والسيطرة. لكنهما ارتكبا أول الأخطاء في العملية عندما توجها معاً إلى الطائرة اللوفتهانزا الجاثمة على أرض المطار لتفقدها من الداخل، وكان عليهما اصطحاب الجميع (الفدائيين والرهائن) حتى لا يفقدا السيطرة على الموقف.

لا أحد كان يتصور ما سيحدث إلا الشرطة الألمانية وقناصتها المنتشرون على بنايات المطار. فما أن خرج قائدا المجموعة الفدائية من الطائرة وهبطا السلم في اتجاه المروحيات حتى انهال عليهما الرصاص من كل جانب. ليتحول المطار إلى نار جهنم بعد ثوان فيما "تشي" ومحمد جثتان ملقيتان على أرضية المطار. تبادل الفدائيون إطلاق النار مع الشرطة الألمانية، وتواصل تبادل إطلاق النار لأكثر من ثلاث ساعات، حيث سقط جميع الرهائن قتلى من جراء تبادل إطلاق النار، فيما قتل خمسة من الفدائيين بمن فيهما القائدين "تشي" ومحمد". وسيطر الألمان على الموقف تماماً بعد أن استسلم الفدائيون الثلاثة الذين بقوا على قيد الحياة.

لم ينتظر أبو داؤود طويلاً، فقد رتب أحواله لمغادرة ألمانيا في كل الأحوال في نفس اليوم، إن نجح الفدائيون في الوصول إلى القاهرة أو فشلت العملية. وغادر إلى تونس حيث التقى أبو أياد هناك وغادرا معاً إلى ليبيا. 

حققت عملية ميونخ أهدافها رغم عدم بلوغها تحقيق هدفها المعلن وهو تحرير بعض السجناء الفلسطينيين وغيرهم في السجون الإسرائيلية، لكنها فرضت الوجود الفسطيني برغم محاولات إقصائه، وكسبت القضية الفلسطينية صدى كبيراً حيث سمع الرأي العام العالمي بالقضية الفلسطينية، وكشفت أن الإسرائيليين يمكن أن يُضربوا في أي مكان. هذا غير الفرح الذي عم مخيمات اللاجئين الفلسطينيين من لبنان إلى سوريا وصولاً إلى غزة.

تواصلت عمليات منظمة أيلول الأسود في اوربا ضد عناصر الموساد بعد ذلك. فنفذت منظمة أيلول الأسود بعد أربعة أيام فقط من نهاية عملية ميونخ، عملية ضد ضابط تابع للموساد الإسرائيلي في العاصمة البلجيكية بروكسل وأطلقت عليه النار. وقد برهنت تلك العملية بتوقيتها، بعد عملية ميونخ، أن الفلسطينيين باتوا يعرفون كيف يعملون في الخفاء، وكيف ينشئون الشبكات وينظمون العمليات الهادفة. وقد برهن على ذلك سلسلة العمليات التي نفذت بعد ذلك التاريخ وصولاً إلى عملية السفارة السعودية في الخرطوم.

استفادت هذه الحلقات من:

أرشيف جريدتي الصحافة والأيام الصادرتين إبان تلك الأحداث.

تقرير وزارة الخارجية المودع لدى دار الوثائق القومية (احداث أيلول الأسود في الخرطوم .ز الواقعة وردود الأفعال).

مذكرات أبو داؤود.

بعض المقالات والمتابعات في الصحف والانترنت.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق