نشر موقع جريدة "السوداني" مساء اليوم 2 يناير 2023، ضمن مواقع صحفية أخرى، خبر الزيارة المفاجئة لرئيس المخابرات المصري للخرطوم عشية الاقتراب من التوقيع على "التسوية السياسية"، تحت عنوان "رئيس المخابرات المصرية يصل الخرطوم وينقل رسالة شفوية من السيسي إلى البرهان". وجاء في متن الخبر "أن رئيس المخابرات العامة المصرية اللواء عباس كامل وصل اليوم الخرطوم في زيارة رسمية، والتقى برئيس مجلس السيادة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، بحضور مدير جهاز المخابرات العامة، الفريق أول أحمد إبراهيم مفضل. ونقل رئيس المخابرات المصري، رسالة شفوية لرئيس مجلس السيادة من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، تتعلّق بالعلاقات الثنائية، وسُبُل دعمها وتطويرها وترقية التعاون المشترك بين البلدين في كافة المجالات – بحسب ما أورده إعلام مجلس السيادة".
هي ليست الزيارة الأولى منذ إنقلاب 25 أكتوبر 2021، بل سبقتها زيارات علنية وسرية، بحسب تقارير صحفية. وحول العلاقة بين مصر والسودان سبق أن كتبت مقالاً في مارس 2021، أثناء زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السياسي للخرطوم يكشف عن إصرار الجانب المصري لعرقلة أي محاولات للسودان لتجاوز ما هو مرسوم في الذهنية المصرية. وكان عنوانه "مصر والسودان .. الغيرة الضارة".
تزامناً مع زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للخرطوم الأيام الماضية، وبالأحرى سبقتها، انطلقت حملة قوية تشير إلى محاولات تحشيد شعبي للدفع في اتجاه إعادة التوازن للعلاقات بين مصر والسودان، حيث درجت الأولى على اعتبار الثانية مجرد حديقة خلفية وبعد أمني إلى جانب الاستفادة القصوى من ثرواتها الخام، أكثر من كونها دولة ذات سيادة لها مطلق الحرية في تحديد مسارها السيادي رغم حرصها على إقامة علاقات مميزة مع الجارة مصر بحكم عوامل كثيرة تربطهما، على الرغم أن مصر "كانت شريكة في استعمار السودان".
لن أخوض كثيراً في محتوى الحملة ضد مصر، إذ تابعها الجميع مؤيداً ومعترضاً، ولكن سأتوقف هنا عند تسجيل صوتي للأستاذ الشهيد محمود محمد طه، في ستينيات القرن الماضي، تناول فيه العلاقة مع مصر بإسهاب وحدد موقف القوى السياسية من طبيعة تلك العلاقة التي تراوحت منذ ما قبل إستقلال السودان بين الاستقلال التام والاتحاد مصر. لكنه قطع بوحدة السودانيين فيما يتعلق بالسيادة، مشيراً إلى اصطفاف كل السودانيين خلف رئيس الوزراء عبد الله خليل عندما أمر بضرب كل من يحاول احتلال حلايب "في المرحلة ديك ما كان في اتحادي واستقلالي.. الشعب السوداني كلوا هب في غيرة شديدة إنه الأرض دي لازم تكون سودانية".
وقبلها في رسالة مبكرة عقب "ثورة يوليو المصرية" 1952، وبشهر واحد، بعث محمود محمد طه رسالة إلى الرئيس المصري محمد نجيب جاء فيها ضمن موضوعات أخرى "وشيء آخر، نحب أن نشير إليه، هو علاقة مصر بالسودان، فإنها قامت، ولا تزال تقوم، على فهم سيء. فإن أنت استقبلتها بعقل القوي فتستطيع أن تبرئها مما تتسم به الآن من المطمع المستخفي، والعطف المستعلن، فإن السودانيين قوم يؤذيهم أن يطمع طامع فيما يحمون، كما يؤذيهم أن يبالغ في العطف عليهم العاطفون".
إضطراب العلاقة بين مصر والسودان مرده إلى الريبة والهواجس من النظرة الاستعلائية والأبوية التي تحاول فرضها الأولى على الثانية. فمصر، ومنذ استقلال السودان، تحاول أن تكون بوابة الخرطوم إلى العالم وأن لا تسمح أبداً بتجاوزها فيما يتعلق بعلاقات السودان بالدول الأخرى، خاصة شمالاً، سواء على المستوى الدبلوماسي أو السياسي أو الاقتصادي والثقافي. وهي تمارس كثيراً من الضغوط والتحايل التي تحاول بها الإبقاء على هذا الوضع.
لعل أقرب نموذج لمحاولة محاصرة السودان وإرغامه على البقاء تحت العباءة المصرية، هو ما اكتشفته لاحقاً وأنأ أنقب في أحداث اغتيال الدبلوماسيين الأمريكيين والملحق البلجيكي بواسطة عناصر من منظمة "أيلول الأسود" الفلسطينية في مارس 1973 أثناء حفل استقبال أقامته السفارة السعودية بمباينها في حي العمارات آنذاك توديعا للقائم بالأعمال الأمريكي واحتفاءً بوصول السفير الأمريكي الجديد. وكنت قد نشرت كتابة توثيقية اعتمدت فيها على عدد من المصادر، واستفدت كثيراً من وثائق محفوظة في دار الوثائق السودانية، لكن ما اكتشفته لاحقاً، وحصولي على بعض القصاصات القديمة التي وفرها لي صديق عزيز هو الدكتور بابكر عمر الحاج موسى بعد اطلاعه على الكتاب الذي نشرته باسم "اغتيال السفير الأمريكي في الخرطوم".
تشير تلك الوثائق والقصاصات إلى الغيرة الشديدة للحكومة المصرية من قدرة السودان على تجاوز مصر في إقامة علاقات مميزة مع واشنطن ليرتفع تمثيلها في الخرطوم إلى درجة سفير مقيم، ويشتم من تلك الغيرة رغبتها في أن يكون السفير الأمريكي بالسودان مقيما بالقاهرة وليس الخرطوم.
وتعود أصل الحكاية إلى قطع الدول العربية لعلاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية عقب حرب يونيو 1967، أو النكسة التي بسببها تمددت الدولة الإسرائيلية في الأراضي العربية حتى سينا المصرية. عقب انقلاب يوليو 1971 في السودان وإلقاء الرئيس السوداني اللوم على الاتحاد السوفيتي بدعم الانقلاب عليه، انتهزت الولايات المتحدة الفرصة للتقرب إلى السودان ولعب كل من د. منصور خالد ود. عمر الحاج موسى وآخرين دوراً مهماً في توجيه نميري عقب تلك الأحداث إلى المسار الأمريكي، حتى إنهما اتهما من قبل مصر بالعمالة للمخابرات الأمريكية. وفعلاً سافر د. عمر الحاج موسى إلى واشنطن في يوليو من العام 1972 بدعوة رسمية لتحريك ملف إعادة العلاقات بين البلدين، وهو الأمر الذي توج بترقية العلاقات إلى مستوى السفراء في العاصمتين. وكان السودان هو أول دولة عربية تعيد علاقاتها الكاملة مع واشنطن عقب تلك المقاطعة تلتها بعض الدول.
هذا التطور اللافت في العلاقات بين واشنطن والخرطوم أدى إلى انزعاج الحكومة المصرية، ودفعها إلى اللعب على كرت القضية الفلسطينية، وسودت الصحف المصرية صفحاتها في ذلك الوقت بأن السودان "خان" و"باع" القضية الفلسطينية، وغيرها من الدعاوى التي تكشف مدى الغيرة التي تملكت الحكومة المصرية. وتشير بعض الدلائل إلى أن الحكومة المصرية لعبت دوراً أساسياً وتشجيع منظمة "أيلول الأسود" الفلسطينية لتنفيذ عملية السفارة السعودية التي كانت نتيجتها اغتيال الدبلوماسيين الأمريكيين والبلجيكي، في محاولة لتصوير السودان بأنه دولة غير مستقرة وغير آمنة وضرب العلاقات الأمريكية والسودان أو على الأقل إعادتها إلى المربع الأول. ومعروف طبعاً أن مصر بعد أعوام قليلة وقعت اتفاقية "كامب ديفيد" للتطبيع مع إسرائيل، وكان السودان أول الداعمين لها وسط مقاطعة عربية واسعة أدت إلى عزلة مصر وبعدها عن محيطها الإقليمي.
وبالرغم من العلاقات المتذبذبة بين الخرطوم والقاهرة إبان فترة حكم الإنقاذ، إلا أنها كانت أكثر الفترات هدوءاً في أروقة الحكم المصري نتيجة للعزلة الدولية التي تسببت فيها سياسات النظام البائد، ولا يغيب عن الذاكرة التأييد القوي الذي أبدته مصر لانقلاب الإنقاذ في 1989، الذي قطع الطريق أمام الفترة الديمقراطية الثالثة، فالديمقراطيات الثلاث السابقة كانت تشكل هاجساً لمصر خوفاً من خروج السودان من العباءة الأبوية.
كثيراً من القراءات والتحليلات صاحبت الزيارة الأخيرة للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ولكنها أغفلت هذا العامل المهم، فموضوع العلاقات السودانية المصرية من وجهة نظر القاهرة يجب أن تستمر وفقاً لرغبات القاهرة، ودلائل الزيارة تشير إلى انزعاج مصر من التطورات الأخيرة في السودان والانفتاح الكبير على العالم الخارجي والاهتمام الغربي والأمريكي بتطوير علاقاته السياسية والاقتصادية بالخرطوم، والزيارات المكوكية لمسؤولين غربيين رفيعين خلال فترات قصيرة للسودان، والإشارات الإيجابية الأمريكية على مستوى البيت الأبيض والخارجية والكونغرس تجاه دعم السودان وتعزيز قدرات الحكم المدني فيه وصولاً إلى الانتخابات التعددية المتوقعة. ذلك ما أزعج مصر أكثر من قضية سد النهضة أو انزعاجها من الرأي العام السوداني السالب تجاهها أو العلاقات الاقتصادية بين الدولتين على أهمية ذلك في الأجندة المصرية، ولكنها كلها تلي الإمساك بخناق الملف السوداني الخارجي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق