تجارة السلاح .. دروب الثراء والموت (1-2)

أمير بابكر عبدالله

"كان علينا ان نسير أربعة أيام ليلاً ونهاراً حتى نبلغ (حمرة الشيخ) مقر الشيخ علي التوم وعاصمة الكبابيش، تلك القبيلة، ذات النفوذ الواسع في تلك المنطقة الشايعة في غرب السودان وحيث توجد أضخم ثروة حيوانية من الإبل تموج بها وديان تلك المنطقة ومراعيها ومناهلها، والرجال من خلفها يحرسونها بأسلحتهم النارية إذ لا يوجد رجل واحد يسير خلف إبله ولا يحتقب بندقية وقدراً غير قليل من الرصاص..." إذاً السلاح منتشر بصورة لافتة القبيلة كلها أبالة وبالتالي مسلحة. لكن المهم أن "لا تسل من أين لهم السلاح والرصاص فإن لهم مصادر شتى تمدهم بها". والأهم " وكان الانجليز يعرفون هذا ويتغاضون عنه".

الصورة: مواقع إلكترونية

لكن ما السبب؟ "ذلك لأن رعاة الكبابيش كثيراً ما يتعرضون عندما يوغلون في الصحراء في فترة الشتاء إلى هجمات مسلحة من بعض القبائل الرعوية الخاضعة للحكم الفرنسي كقبائل الكنين والفيزان في شمال أفريقيا وتدور بينهم رحى معارك عنيفة يغنم فيها المنتصرون إبل المهزومين، وقد يعيد المهزومون الكرة عاماً آخر ويتربصون بأي من أفراد القبيلة الأخرى يرعون إبلهم على الحدود فيغيرون عليهم ويثأرون لقتلاهم ولإبلهم المنهوبة."

لعل أول إشارة لانتشار السلاح في دارفور جاءت في كتاب "ذكرياتي في البادية" للأستاذ الراحل حسن نجيلة، وطالما انتشر السلاح وممكن الحصول عليه  يعني ذلك أن هناك تجارة واسعة منتشرة وسوق رائجة تغذيها من ناحية الرغبة في الإحساس بالأمن في ظل امتلاكه ومن ناحية أخرى الرغبة في التفوق والقدرة على السيطرة سواء للنهب والإغارة أو الثأر. إن كان ذلك في النصف الأول من القرن الماضي، فإن شواهد انتشار تجارة السلاح في السودان وغيره من البلدان لا تحتاج لكثير بحث لاكتشافها، وهذا ما سيجعلنا في البدء نتطرق لصناعته وعوالمه قبل تناول تأثيراته على المنطقة والسودان تحديداً، ومساهمة انتشاره وسهولة الحصول عليه، سواء عن طريق سماسرة أو دول وأنظمة حاكمة لعوامل مختلفة، في تهديد الأمن القومي وزعزعة الاستقرار، فصوت طلقة واحدة، وإن كانت طائشة، تشق عنان السماء أكثر صخباً وإثارة للذعر من حروب السياسة الكلامية.

أكثر الأعمال الفنية التي تطرقت لمسألة تجارة السلاح هو الفيلم السينمائي أمير الحرب "Lord of War"، مثل دور البطولة فيه الممثل الشهير نيكولاس كيج الذي لعب دور شاب روسي هاجرت أسرته إلى الولايات المتحدة الأمريكية ودخل عالم تلك التجارة التي يعتقد منذ البدء إنه المجال الذي سيبرع فيه. ورغم الشواغل الأخلاقية التي اهتم بإرسالها الفيلم والإشارات المهمة بقذارة الدور السياسي الذي يلعبه قادة العالم الثالث،  لكن الأهم هو الجملة المفتاحية التي بدأ بها الفيلم الذي قال على لسان بطله " هناك أكثر من 550 مليون سلاح ناري في جميع أنحاء العالم مما يعني سلاح لكل شخص على الكوكب ... السؤال الوحيد كيف نستطيع تسليح الأحد عشر الآخرون ، مئات الناس يقتلون في العالم .. أتسأل بأسلحة من يُقتلون ثم أقول لنفسي لماذا لا يُقتلون بأسلحتي؟"

تلك الجملة أعلاه تكشف أن صناعة وانتاج السلاح بمختلف أنواعه لم تعد تخدم مجرد استراتيجيات دفاعية أو هجومية للدول الكبرى، بل تعد واحدة من مصادر الدخل القومي بمقادر إسهامها في الاقتصاد وبمقدار ما تنفق تلك الدول على ميزانية الدفاع وتطوير تسليح جيوشها. حسب التقارير المنشورة عن ميزانية الدفاع لأعلى الدول إنتاجاً للسلاح، تقف الولايات المتحدة الأمريكية على رأس قائمة الصرف بين تلك الدول، ويتجاوز حجم إنفاقها ال 700 مليار دولار أميركي سنوياً ما يعادل حوالي 5% من الناتج المحلي (بلغة أهل الاقتصاد)، تليها في سلم القائمة الصين التي تنفق حوالي 150 مليار دولار على ميزانية دفاعها 2% من الناتج المحلي، وتأتي روسيا في المرتبة الثالثة بمبلغ يتجاوز ال70 مليار دولار ما يعادل قرابة ال 4% من الناتج المحلي. ويختل هذا الترتيب بالنسبة لأعلى الدول تصديراً للسلاح وإن كانت الولايات المتحدة الأمريكية لا تبارح رأس القائمة حيث صدرت في العام 2012 فقط أسلحة إلى مختلف دول العالم بمبلغ يقارب ال9 مليارات دولار،  ثم روسيا بمبلغ 8 مليار دولار في ذات العام، وتأتي الصين بعدها في المرتبة الثالثة بمليار و700 مليون دولار، ثم كل من المانيا وفرنسا بمبالغ تتجاوز المليار قليلاً. إذا كانت تلك الأرقام المعلنة رسمياً فإن ما يجري تحت الطاولة من تجارة يشكل أرقاماً مختلفة وغير معلومة جراء العقودات السرية التي تبرم بين أطراف مختلفة، وبطرق متعددة.

سطح صفيح ساخن

فيما سبق تحدثنا عن بضع دولة فقط من بين الدول المنتجة للسلاح في العالم وتستخدم أحدث ما توصلت إليه من تقنيات في هذا المجال في أغراضها الدفاعية والحربية، وتتاجر به أيضاً وغيرها من الدول الأخرى. نتيجة لذلك يمكن القول بكل ثقة إن العالم يجلس على مستودع ضخم للسلاح. سلاح بهذا الكم الهائل تنتجه مصانع تغذي الخزينة العامة لتلك الدول لا بد أن تتبعه مهارات في العرض وقدرات توزيع عالية مثلها مثل المنتجات الأخرى التي تغزو الأسواق. لكنها ليست كأية سلعة، إذ تلعب فيها المصالح السياسية الدور الرئيسي ومؤامرات الاستخبارات المعلم البارز التي تغذي الصراعات بين الدول وبعضها وتؤجج الصراعات الداخلية داخل الدولة الواحدة. المعادلة واضحة جداً لكيما يستمر انتاج تلك المصانع لابد من إيجاد أسواق مستمرة للاستهلاك، تلك الأسواق لا تقام إلا في ظل الحروب والنزاعات التي تستدعي التسليح. تلك الحقيقة الأولى في عالم تجارة الأسلحة. يمكن الإدعاء بكل اطمئنان أن الحروب والنزاعات يبدأ نسج خيوطها مع دوران ماكينات تلك المصانع، لن يحصل أعضاء مجلس إداراتها على امتيازاتهم الضخمة ولا كم العاملين الهائل على رواتبهم وعلاواتهم إذا توقف الانتاج. 

إزاء هذا الانتاج الضخم الذي تقدر مبيعاته سنوياً بنحو 60 مليار دولار من الأسلحة التقليدية، والانتشار الواسع لها مما جعل العالم يقف على سطح صفيح ساخن من لهيب البارود، سعت الأمم المتحدة إلى إقرار معاهدة دولية لتنظيم التجارة الدولية للسلاح التقليدي. وقد تم التفاوض على المعاهدة في مؤتمر عالمي تحت رعاية الأمم المتحدة في 27 يوليو 2012 في نيويورك. حيث لم يتمكن المؤتمر من التوصل إلى إجماع حول النص النهائي، ولذا تم عقد لقاء جديد للمؤتمر في 28 مارس 2013، والذي فشل أيضاً، فتقرر تحويل المعاهدة للتصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة، لأن إقرارها في الجمعية العامة يحتاج إلى ثلثي الأصوات. وفي 2 أبريل 2013 وافق 154 من 193 من الدول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة على نص المعاهدة وامتنع 23 عضواً عن التصويت وعارضتها ثلاث دول.

هي إذاً حلقات في سلسلة متكاملة كل منها تلعب دورها في استمرار انتاج السلاح، وأول تلك الحلقات هي المصانع المنتجة ودولة المنشأ، ثم المصالح السياسية لتلك الدول وطموحاتها في تحقيقها وفي السيطرة على عناصر وآليات قادرة على ذلك. يخدم تلك الحلقة كل جهاز الدولة من حكومات تنفيذية وبرلمانات واجهزة مخابرات. يتم ذلك بطرق مختلفة على رأسها فرض سياسة الأمر الواقع بقوة السلاح المتفوق، وهو استخدام مباشر للسلاح مثلما حدث في الحروب العالمية أو في حروب إقليمية قادتها تلك الدول المنتجة للسلاح مثل حب الولايات المتحدة وحلفاؤها في افغانسان والعراق. أو بطريقة غير مباشرة أو حروب الوكالة وتلك تجري بين بلدان ما عرف بالعالم الثالث في امريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا خاصة إبان عصر الحرب الباردة. 

الحلقة الثانية من تلك السلسلة هي الدول المستوردة للأسلحة وتشمل معظم دول العالم، وتلك تمثل السوق الرئيسي للتجارة(الشرعية) للأسلحة، ولكن تلعب فيها المصالح العليا للبلدان المنتجة دورها أيضاً في أي نوع من الأسلحة يجب أن يذهب إلى أي نوع من الدول، كما تلعب فيها حلقة سماسرة وتجار السلاح دوراً مهماً في تزويد بلدان بنوعية محددة من الأسلحة. وتلك الأسلحة تستخدم في تحقيق توازن القوى بين تلك الدول، كما تستخدم في النزاعات الحدودية بين البلدان بشكل رئيسي ويمكن لها أن تتطور إلى حرب شاملة بين دولتين أو مجموعة من الدول الإقليمية.

أما الحلقة الثالثة من السلسلة، هي الأسلحة المستخدمة في النزاعات الداخلية بين المجموعات المتمردة والأنظمة الحاكمة في دولة ما. ربما من المعلوم كيف تسلح الدول قواتها النظامية المسلحة، وهناك ميزانيات محددة (أو مفتوحة) ترصد لذلك، لكن يبقى السؤال كيف يتم تسليح الحركات المتمردة، على دولها، قواتها و أسباب وطرق ووسائل انتشار السلاح في بلدان عدة (السودان نموذجاً) وتأثير ذلك على الأمن القومي.

طريقان.. شرعي وغير شرعي

ليس صعباً – بشكل عام – تحديد أنواع مصادر الأسلحة ودخولها إلى بلد مثل السودان أو خروجها منه، لأنها لا تخرج عن مظلتين الأولى شرعية وهي التي تدخل البلاد بالطرق القانونية عبر بروتوكولات واتفاقيات يمكن مراجعة بلد المنشأ بشأنها وتشمل مختلف أنواع الأسلحة وكثير منها يصعب على الأفراد أو الجماعات الحصول عليها، كما ان الدولة نفسها تصنع أو يمكنها أن تصنع مختلف أنواع الأسلحة بكميات معلومة ويمكن ضبط وجهتها بإحصائيات علنية أو سرية، رغم ذلك تحضرني نكتة أحد قادة القبائل اليمنية الذي وقف أمام بوابة إحدى الوزارات في صنعاء وهو على متن (دبابة)، فأوقفه الحارس ليسأله ويفتشه بحثاً عن سلاح شخصي. 

المظلة الثانية ليست شرعية، أي يتم دخولها من وراء ظهر السلطات بطرق ليست قانونية، وذلك النوع معني بالأسلحة الصغيرة التي يمكن أن يمتلكها أي شخص نظامي أو عادي، وهو ما عناه بطل فيلم "أمير الحرب" ويفسر قوله " هناك أكثر من 550 مليون سلاح ناري في جميع أنحاء العالم مما يعني سلاح لكل شخص على الكوكب ... السؤال الوحيد هو كيف نستطيع تسليح الأحد عشر الآخرين". تلك المظلة تندرج تحتها سلسلة من الطرق التي تدخل بها وتخرج عبرها الأسلحة الصغيرة، ولعل أشهرها وأعرقها وأقدمها هو التجارة والتهريب فيما يعرف بطريقة "درب النمل"، وعندما نقول تجارة "هنا" فإننا لا نعني تلك التجارة التي مارسها فيكتور بوت تاجر السلاح الروسي الأصل والأشهر الذي استفاد من إنهيار الاتحاد السوفيتي القطب الثاني وانقسامه إلى جمهوريات، مستخدماً علاقاته واحتياجات تلك الدول الناشئة ليضع يده على أكبر مخزون للأسلحة في العالم، ويمارس نشاطه التجاري على نطاق العالم بصفقات مشبوهة زادت من وتيرة الحروب في العديد من البلدان، شملت الصواريخ والدبابات مثلما شملت الكلاشنكوف والذخيرة.

تجارة السلاح على طريقة "درب النمل" من الصعب حصر كمياتها وتأثيرها، ولكن مؤشرات أولية تعكس أن أعداداً مهمولة من الأسلحة الصغيرة تدخل السودان عبر الحدود مع الدول المجاورة. وكما جاء في ورقة عمل ضمن سلسلة تقارير "مسح الأسلحة الصغيرة" الذي يصدره "معهد الدراسات العليا للدراسات الدولية" بجنيف فإن "الأرقام المتاحة في سنة 2006 تظهر بأن الجمارك السودانية ضبطت في تلك السنة وحدها 4249 مسدساً و 533 بندقية كلاشنيكوف و 16851 طلقة ذخيرة، وغيرها من الأسلحة المستوردة بطريقة غير مشروعة من البلدان المجاورة، لا سيما مصر وإريتريا (مجلس الأمن الدولي، 2007a ، الفقرة 48).

وبمسح ما نشرته الصحف السودانية من أخبار مصدرها السلطات المختصة يمكن تصور أن هذه الأرقام بصورة أكبر ف(في  23 نوفمبر 2014 عثرت الشرطة السودانية على كميات من الأسلحة المهربة في منطقة شندي شمالي العاصمة الخرطوم، قادمة من ليبيا. وأِشارت الشرطة الى أن الشحنة المهربة تشمل 120 قطعة كلاشنكوف و20 مدفع قرنوف.) وفي (يوم 19 - 09 – 2012 تمكنت شرطة مكافحة التهريب بولاية "النيل الأبيض" السودانية من ضبط عربة محملة ب 37 قطعة سلاح ونحو 25 ألف طلقة، قبل نقلها إلى الخرطوم.) وفي (16/6/2010 وكشفت مصادر شرطية ان الشرطة الامنية نفذت عملية مداهمة على منزل احد تجار الاسلحة بمدينة دار السلام مربع 20 غربي محلية امبدة وضبطت 9 مدافع قرنوف وحوالي 270 من ذخائر الاسلحة الثقيلة) وفي (7/6/2013 أحبطت شرطة محلية باسندا بالقضارف، محاولة تهريب اسلحة قادمة من الخرطوم في طريقها الى اثيوبيا بمنطقة القلابات، وشملت الاسلحة عدد 29 مسدسا و800 طلقة كلاشينكوف.) وكذلك (في 3/12/2011 ضبطت قوات الأمن البحري التابعة لجهاز الأمن والمخابرات السوداني بولاية البحر الأحمر ، كميات من الأسلحة المتطورة المهربة، فى مرسى (هيدوب) جنوب مدينة سواكن بولاية البحر الأحمر).

يمكن ملاحظة تعدد معابر التهريب شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً مع حدود السودان، كما يمكن ملاحظة أن التهريب يمكن أن يكون إلى الداخل أو إلى خارج الحدود. لكن أهم الملاحظات التي تثير يجب أن ترفع من وتيرة القلق هي أن الكميات المضبوطة بواسطة الأجهزة المختصة يمكن أن تعكس حقيقة أخرى وهي إن هناك أضعافاً مضاعفة من الأسلحة لم يتم ضبطها (دخلت أو خرجت) وهو ما يحفز تجارها على الإستمرار رغم الضربات التي يمكن أن يتعرضوا لها بين الفينة والأخرى لما تحققه لهم هذه التجارة من أرباح فلكية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق