البيان الأول.. مبررات سياسية لانقلابات عسكرية

البيانات الأولى للانقلابات العسكرية التي عطلت مسار العملية الديمقراطية وتطورها في السودان، حفلت بالعديد من المحاور المشتركة وتأسست حيثياتها جميعاً على فشل (مزعوم) للنظام السياسي الديمقراطي وعدم قدرته على تحقيق التنمية والاستقرار. وكذلك برزت فروقات واضحة في جوهر كل بيان على حدة من حيث تصديه للقضايا التي حددها في صلب متنه، وهي ذات القضايا التي جاءت مآلات التصدي لها أسوأ بكثير من التوقعات في حال استمرار النظام السياسي الديمقراطي على علاته.

الصورة: من موقع الراكوبة

اتفقت البيانات الأولى للانقلابات العسكرية الثلاثة (إنقلاب نوفمبر 1958، إنقلاب مايو 1969، وإنقلاب يونيو 1989) في مقدمة حيثيات شروعها لقلب نظام الحكم الديمقراطي، على إرجاع الأزمات السياسية التي بررت بها فعلتها إلى الأحزاب السياسية، لكن كل بيان تناول المسألة بتفاصيل مختلفة حسب المناخ السائد وقتها، وحسب الظل الذي يستظل به قادة الانقلاب. أما بيان البرهان، في 21 أكتوبر 2019، رغم تشابهه في الجوهرة مع بقية البيانات إلا أن أمره مختلف.

جاء في بيان الفريق إبراهيم عبود «البلاد وصلت إلى حالة من سوء وفوضى وعدم استقرار للفرد والمجموعة وقد امتدت هذه الفوضى إلى أجهزة الدولة والمرافق العامة دون استثناء، كل هذا يرجع أولاً وأخيراً لما تعانية البلاد من الأزمات السياسية القائمة بين الاحزاب جميعاَ». متهماً تلك الأحزاب بالجري وراء كراسي الحكم والنفوذ والسيطرة على موارد الدولة وإمكانياتها، مستخدمة من أجل ذلك كل الطرق المشروعة وغير المشروعة.

اتفق مع هذه الرؤية البيان الأول للعقيد أركانحرب جعفر نميري الذي قال «لم يكن هم الأحزاب المختلفة إلا أن تتسلل إلى مواقع الحكم، ثم تمسك بزمام السلطة لمصلحتها الخاصة دون اعتبار لمصلحة الشعب، فعم الفساد والرشوة في أجهزة الدولة. "وهي ذات الرؤية التي جاءت في بيان العميد عمر حسن البشير الأول "إن قواتكم المسلحة ....... وترقب بكل أسى وحرقة التدهور المريع الذي تعيشه البلاد في شتى أوجه الحياة، وقد كان من أبرز صوره فشل الأحزاب السياسية في قيادة الأمة لتحقيق تطلعاتها في صون الأرض والعيش الكريم والاستقرار السياسي".

بيان الفريق عبود جاء مقتضباً، ورغم تطابق سببه الأساسي مع تلاه من بيانات، إلا أنه جاء على خلفية مختلفة عن تلك التي صدرت عنها البيانان الآخران. كما أن هناك إختلاف جوهري وهو أن البيان لم يدع إن تلك كانت ثورة بل «هو المسلك الرئيسي بأن يقوم جيش البلاد ورجال المن بإيقاف هذه الفوضى ووضع حد نهائي لها»، وهو ليس إنقلاب على قيادة الجيش نفسها وإنما استلمت قيادة الجيش نفسها السلطة. لذلك ليس بين طياته رائحة تغيير، بل هو لإبطال مفعول التدهور الأمني والفوضى والفساد (السائدة حسب حيثيات الانفلاب). على خلاف ذلك جاء بيان مايو صريحا بأنه «اتفق قاادة هذه الفئة المخلصة على إنهاء هذا العهد عن طريق القوة، وتولي أمر الجيش في هذه اللحظات رجال عاهدوا الله على التضحية بدمائهم رخيصة في سبيل إسعاد هذ الوطن، وانضم إليهم من المدنيين رجال لم يتخلفوا يوماً عن ركب الإخلاص والوطنية.» إذاً هو لم يدع إن ما حدث هو إستلام الجيش للسلطة، بل إنقلاب على النظام السياسي برمته بما فيه قيادة الجيش، وذلك واضح من رتبة قائده (عقيد). كما إنه إعلان عن (ثورة) وتغيير جذري في منهج الحكم "وبفضل هذا اللقاء المبارك ستتولى الثورة من هذه اللحظة إدارة شئون البلاد". مع بعض الإختلافات الطفيفة جاء بيان (العميد عمر البشير)، ورغم إنقلابه على الجيش وقيادته ضمن إنقلابه على النظام السياسي برمته جاء في إستهلال بيانه الأول "إن قواتكم المسلحة المنتشرة في طول البلاد وعرضها ظلت تقدم النفس والنفيس حماية للتراب السوداني وصونا للعرض والكرامة، وترقب بكل أسى وحرقة التدهور المريع الذي تعيشه البلاد في شتى أوجه الحياة".

ويختمه (البيان) ب"قواتكم المسلحة تدعوكم أيها المواطنين الشرفاء للإلتفاف حول راياتها القومية، ونبذ الخلافات الحزبية والإقليمية الضيقة.. تدعوكم للثورة معها ضد الفوضى والفساد واليأس من أجل إنقاذ الوطن، ومن أجل استمراره .. وطناً موحداً حراً كريماً. عاشت القوات المسلحة حامية كرامة الوطن .. عاشت ثورة الإنقاذ الوطني .. عاش السودان حراً مستقلاً.. والله أكبر.. والعزة للشعب السوداني الأبي..". في ما ورد كل الوضوح بالتخفي والتمويه خلف القوات المسلحة، فالقوات المسلحة وحسب الدستور من أولى مهامها حماية الدستور والنظام الديمقراطي، كما أنها بطبيعتها وتكوينها لا مجال داخلها ل(ثورة) إلا بالتمرد والإنقلاب عليها.

من التناقضات الملاحظة في بياني (مايو) و(يونيو) هو إرتكازهما على إنتفاضات جماهيرية ثارت ضد الحكومات العسكرية. فقد جاء في بيان نميري أن مايو "مقتدية في كل ذلك بهدي مبادئ أكتوبر الخالدة، رافعة شعارها، مرددة أناشيدها، سائرة في نفس الطريق"، بينما جاء في بيان البشير الأول "إن الشعب السوداني مسنود بانحياز قواته المسلحة قد أسس ديمقراطية بنضال ثورته في سبيل الوحدة والحرية". فثورة أكتوبر إندلعت ضد نظام عبود العسكري، فيما إنتفضت الجماهير ضد حكم نميري في أبريل 1985.

لم يتعرض البيان الأول لإنقلاب عبود في نوفمبر 58 للجنوب كمشكلة وقضية لها تأثيرها على مجمل المشهد السياسي، فيما جاء بيان نميري مايو 69 أن الجماهير رفضت الحكومات الحزبية لجملة اسباب من بينها "لأنها عجزت عن حل مشكلة الجنوب، وجمدت كل الوسائل التي بذلت لحل هذه المشكلة حلا يعيد الطمأنينة والاستقرار إلى ذلك الجزء العزيز من وطننا الحبيب"، أما بيان البشير الأول في 89 فقد خاطب مشكلة الجنوب من زاوية الحرب والقدرات القتالية والتعبئة التي أقعدت بالقوات المسلحة في مواجهة (التمرد)، أو كما جاء في البيان "إن قواتكم المسلحة ظلت ترقب كل هذه التطورات بصبر وانضباط، ولكن شرفها الوطني دفعها لموقف إيجابي من التدهور الشديد الذي يهدد الوطن، واجتمعت كلمتها خلف مذكرتها الشهيرة التي رفعتها منبهة للمخاطر ومطالبة بتقويم الحكم وتجهيز المقاتلين للقيام بواجبهم، ولكن هيئة القيادة السابقة فشلت في حمل الحكومة على توفير الحد الأدنى لتجهيز المقاتلين".

في ختام بيانه طلب الفريق عبود من جميع المواطنين أن يلزموا السكينة والهدوء وكل إلى عمله، وطمأن الأجانب الرسميين والجاليات على سلامة أنفسهم ووعد بتبني سياسة بناءة مع كل الدول عامة والعربية خاصة والشقيقة مصر بخصوصية أكثر. أما العقيد جعفر نميري فختم بيانه بالطلب من المواطنين الكرام الإنصراف إلى أعمالهم كالمعتاد، واليقظة من المخربين من قادة الأحزاب، وأن الثورة ستضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه الوقوف أمام تيار التغيير الجارف. وعلى خلافهما جاء بيان العميد عمر البشير الأول داعياً المواطنين إلى الثورة ضد الفساد والفوضى واليأس.

أما الفريق عبد الفتاح البرهان فوضعه غريب بين زمرة الانقلابيين، فقد جاء في ظل التصعيد الجماهيري الذي أعقب إعلان الفريق عوض بن عوف تنحيه عن رئاسة المجلس العسكري الذي استولى على السلطة في البلاد في 11 أبريل 2019، واعتقال رئيس نظام الانقاذ المشير عمر البشير بعد إصرار الجماهر على مواصلة اعتصامها أمام كل مواقع ىقيادة القوات المسلحة في مختلف مدن البلاد طلباً لسقوط نظام الانقاذ. والقصة معروفة بأن بن عوف تولى الرئاسة لمدة يوم واحد، قبل أن تعلن الجماهير رفضها له باعتباره أحد أبرز وجوه النظام الشمولي الدكتاتوري. فاختار بن عوف التنحي لصالح الفريق عبد الفتاح البرهان الذي كان وقتها مفتشاً عاماً للقوات المسلحة.

وجاء في خطاب تنحي بن عوف "أعلن أنا رئيس المجلس العسكري الانتقالي التنازل عن هذا المنصب واختيار من أثق في خبرته وكفاءته وجدارته لهذا المنصب، وأنا على ثقة بأنه سيصل بالسفينة التي أبحرت إلى بر الأمان. وعليه فقد اخترت بعد التفاكر والتشاور والتمحيص الأخ الكريم الفريق أول عبد الفتاح البرهان عبد الرحمن رئيسا للمجلس العسكري الانتقالي خلفا لي".

وهكذا وجد البرهان نفسه رئيسا للبلاد، وبعد عامين ويزيد من عمر الفترة الانتقالية، وبعد أن شارفت فترة توليه رئاسة مجلس السيادة الانتقالي المتفق عليه بموجب الوثيقة الدستورية على الانتهاء، لصالح أحد أعضاء المكون المدني في المجلس، نفذ انقلابه على سلطته وأطاح بالمكون المدني في السلطة في 21 أكتوبر 2021. أي بعد أكثير من عامين منذ توليه رئاسة البلاد أعلن البرهان بيانه الأول، الشبيه بكل البيانات الأولى لسابقيه مع بعض التعديلات الضرورية التي تتماشى مع التطورات السياسية الساخنة التي لا تزال تقض مضجعه.

ما بين البيان الأول ومسارات السياسة في ظل الأنظمة التي جاءت عن طريق إنقلاب عسكري بون شاسع، لا تؤكد إلا على شيء واحد وهو الصبر على النظام السياسي الديمقراطي وأن المؤسسة العسكرية يجب أن تكون ضمن المؤسسة السياسية الديمقراطية، تحميها وتصونها وتقف حائط صد لمن يحاول تعطيلها، لا المساعدة في تقويضها وتعطيلها، ففي ذلك فائدة للوطن والمواطن وللحرية والتنمية والسلام، ويجب صيانة تلك المؤسسة بابعاد شبح الحزبية عنها لأنها ملك للدولة وللوطن والمواطن.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق