النظم الاجتماعية والخبر الصحفي 2-2

يتأثر الخبر الصحفي في وسائل الإعلام المملوكة للدولة بالسلطة السياسية لأنها هي الممول الرئيس وصاحب الملكية التامة، كما أن إشهار المؤسسات الوطنية يتوجه إلى الإعلام المساند للسلطة، وتبقى الصحافة الحزبية مرهونة بوجود الحزب.

الصورة: مواقع الكترونية

أما وسائل الإعلام المستقلة فتتأثر أيضا بمن يسيطر عليها سواء المالك أو صاحب المؤسسة أو التمويل والإشهار، حيث تصبح اعتبارات السوق هي الأولى في الإنتاج الإعلامي، وكان لذلك أثره أيضاً في الأخبار، وقد أحس بهذا الخطر أحد الصحفيين المعاصرين فكتب يقول: يرى الناشرون أن الصحفيين ليس لهم إلا حق واحد هو إنجاز إنتاج يوافق رغبات الممولين، ثم ليسكتوا... وكذلك نفس الشأن بالنسبة للإعلام السمعي والبصري.

لقد أثبتت الأحداث دوما أن وسائل الإعلام تتعرض يوميا لقوى يمكن أن تخلط المعلومة وتشوشها سواء عن طريق شركاء هذه الوسيلة أو القائمين بالإعلانات فيها أو حتى أمرائها.

لقد تحوّل الإعلاميون- في عهد إعلام السوق- إلى " رجال بيع" ولم يقتصر ذلك على معدّي البرامج الاستهلاكية وصناع المواد الإعلامية المنوعة، بل إن مذيعي الأخبار والمعلقين السياسيين أيضاً أصبحوا كذلك " فالمنافسة قائمة على جذب جمهور المشاهدين لمتابعة الأخبار تماماً كما هي قائمة في كل البرامج الأخرى نظراً لأنه يتعين بيع الإعلانات لتعزيز وضع "البرنامج"... والنتيجة الحتمية لذلك هي البحث الدائب والمستمرّ من جانب معدي البرامج عن الإثارة والتشويق والحركة في تغطية الأحداث. فأين تتوفر الفرصة المواتية لذلك بأكثر مما يوفرها الكم الكبير من الأحداث اليومية الفاجعة في عصرنا هذا؟ "

كما يقوم إعلام السوق على مقومين أساسيين هما: الدافع التجاري، والاختيار الذاتي. وهما المقومان اللذان يريدهما صاحب الملكية أو الممول فالدافع التجاري يتمثل في الربح المنتظر من المادة الإعلامية المقدمة، والاختيار الذاتي يتمثل فيما يتفق مع مصالح المالكين والممولين وإيديولوجيتهم ، وبذلك فإن الاتجاه المتزايد نحو المواد الإعلامية الحافلة بالإثارة والمشحونة بالدراما حتى في المواد الإخبارية إنما هو استجابة طبيعية لمتطلبات السوق التجارية. تقول الدكتور جيهان رشتي: " إن الأخبار هي مجرد سلعة تجارية تعرض للبيع، وهذه السلعة يسهل ترويجها أو تسويقها كلما كانت غير مألوفة أو تتسم بطابع درامي... وعلى هذا الأساس كثيراً ما تضخم الأحداث أضعافاً مضاعفة ليس فقط لجذب القراء والمستمعين وإرضاء توقعاتهم أو لخدمة أغراض سياسية، بل أيضاً لخدمة أهداف تجارية. فهذا التضخيم سيزيد من مبيعات الصحف ويزيد جمهور الراديو والتلفزيون ".

ويمكن القول إن الخطر على وسائل الإعلام لا يتوقف على السلطة السياسية فحسب وإنما هناك عوامل أخرى تتمثل في ظاهرة تصنيع الإعلام والتأثير المتزايد للمنطق الاقتصادي من خلال الملكية وسيطرة الإشهار، حيث تحولت الحرية السياسية وحق الإعلام للمواطن إلى الحرية الاقتصادية للمتعهد أو الممول.. وهذه العوامل الاقتصادية ذات تأثير بالغ على القيم الإخبارية للمؤسسات الإعلامية .

النظام الثقافي والديني

ندين لإدوارد تايلور(1832-1917)، الأنثروبولوجي البريطاني بأول تعريف إناسي للثقافة: "الثقافة أو الحضارة بمعناها الإناسي الأوسع، هي ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والأعراف والقدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضواً في المجتمع."

الأيديولوجيا

لكي يصبح الحدث في مستوى الخبر ليذاع أو ينشر عبر وسائل الإعلام يجب أن يتضمن قيمه الإيديولوجية والفكرية، أي أن تأثير الإيديولوجية يبرز في عملية اتخاذ القرار بشأن الأحداث التي يجب تغطيتها، وهذه العملية تكون في أيدي رؤساء التحرير والناشرين والمحررين وحتى المخبرين أثناء جمع الأخبار، وتكون لديهم غالبا أفكار محددة في الطريقة الواجب إتباعها أثناء التحرير، وحتى وإن كان القائم بالاتصال يتمتع بالحرية والاستقلالية إلا أن هناك طريقة ما للتعرض لإيديولوجية ما، كما أن مبدأ الحرية في حد ذاته إيديولوجية أي أن القائم بالاتصال قد تأثر بإيديولوجية الليبرالية، إضافة إلى أن الحرية الإعلامية تؤدي بالشخص لإبداء رأيه بحرية ولا يمكن أن يكون رأي القائم بالاتصال بعيدا عن إيديولوجيته .

يمكن القول إن الإعلام اليوم أصبح أداة الدولة المهيمنة في الحقل الإيديولوجي، ولتوضيح ذلك مثال الإعلام الرسمي الحكومي والتركيز على الأخبار التي تركز على الأحداث الوطنية مثل تدشين مرافق عامة ومؤسسات ومصانع وغيرها من الإنجازات التنموية الوطنية، هذا التركيز يعود إلى أن تلك القيم الإخبارية خاضعة بشكل كبير إلى الإيديولوجية التي تطرحها السلطة والسياسة الإعلامية أي أن القيم الإخبارية تكتسي القيم الإيديولوجية .

لذلك نجد أن لكل وسيلة إعلامية أهدافها التي تراعي القيم الإيديولوجية ولها إعلامها الذي يختلف عن الإعلام الآخر بتحكم الإيديولوجيات المختلفة. إن الأحداث يجب أن تتضمن قيمة إيديولوجية كي تصبح في مستوى الأخبار الممكن إذاعتها أو نشرها، هذه الإيديولوجية هي فكر المؤسسة الإعلامية أو السلطة السياسية أو المالكين الخواص والممولين .

القيم الإخبارية

هناك علاقة دينامكية جدلية بين القيم الإخبارية والاجتماعية، فنشاط القيم الإخبارية في أي مؤسسة إعلامية لها أساسها ومرجعيتها في قيم المجتمع كما يمكن أن نجد هذه الأخيرة متضمنة في الأخبار. "والمندوب أو المحرر ليس حراً ليختار، ولكنه محكوم بالخبرات والثقافة والظروف البيئية والتعليم، ومحاط بقيود ودلالات اللغة وظروفه النفسية والأيديولوجية" كما يقول د. محمد حسام الدين

وإذا قلنا بأن القيم الإخبارية جزء من قيم المجتمع فهذا يعني أن نشاطها لا يكون إلا ضمن وعاء القيم الاجتماعية. ففي المجتمعات الإسلامية أو التي تسود فيها التعاليم الدينية بصفة عامة، نجد أن الجنس كقيمة إخبارية يفقد دلالته، لأن قيم المجتمع لا تسمح بوجود تلك القيمة في الأخبار وبالتالي إلى عدم التجلي، ونفس الشيء بالنسبة للأخبار الشخصية للمشاهير يفقد دلالته وقيمته الخبرية في المجتمعات التي تراعي الحياة الشخصية للأفراد.

وإضافة إلى أن القيم الإخبارية تابعة لقيم المجتمع، فإن هذه الأخيرة تضبط الأولى وأي تغير يطرأ عليها يؤدي إلى تغير في قيم الأخبار، أي أن هناك من المواضيع ما يعتبر تابوهات في مجتمعات محافظة لكن مع مرور الوقت تصبح لازمة الحديث عنها وذات قيمة إخبارية، وكمثال عن ذلك نذكر مسألة ختان البنات في مصر أصبحت مع مرور الوقت تثير جدلا إعلاميا ولم تعد من التابوهات، وأصبحت ذات قيمة إخبارية تحمل عنصر الاهتمام الإنساني ، أو مسألة الشذوذ الجنسي أيضا تطرح في الإعلام السعودي والإيراني والإماراتي والتي تطبق حكوماتها عقوبة الإعدام على مرتكبيها، ولا تطرح في المجتمعات الإسلامية الأخرى لكن مع مرور الوقت سوف تبرز لها قيمة إخبارية عند بدء هؤلاء الشواذ بالمطالبة بحقوقهم على غرار الغربيين وهو ما حصل فعلا في مصر.

كما أن بعض الأحداث العرضية تمارس تأثيرها على قيم الأخبار مما يؤدي إلى بروز المصلحة الذاتية في الأخبار دون مراعاة لقيم المجتمع ، ويكون ذلك عند وجود مصلحة عامة للمجتمع أو السلطة أو ذاتية لصاحب الرسالة الإعلامية أو الممول.

إذن فالتمايز بين الأنظمة الاجتماعية عل مستوى العالم يفرض وجود تمايز على مستوى السياسات الإعلامية وعلى مستوى طبيعة القيم الإخبارية التي تقدم في كل نظام . فالفهم الدقيق للقيم الإخبارية في أي مؤسسة إعلامية يخضع إلى فهم طبيعة النظام الاجتماعي وطبيعة الحادثة أو الواقعة التي ستوصلها إلى الجمهور.

المؤسسة الإعلامية والخبر الصحفي

تعتبر المؤسسة الإعلامية نظاماً اجتماعياً فرعياً من الدرجة الثالثة، أي إنه يندرج تحت نظام اجتماعي أعلى. ولكنه من الأهمية فهو المطبخ الرئيسي الذي تتم فيه صياغة وتحرير الأخبار. كما وأنه واحد من أهداف علم الاجتماع الإعلامي التي يختصها بالدراسة التفصيلية.

السياسة الإعلامية للمؤسسة

إن القائم بالاتصال في إطار المؤسسة الإعلامية يعد عنصراً فاعلاً في إنتاج المعلومات وانتقائها وهو يعمل بمنطلق خضوعه للسياسة الإعلامية للمؤسسة التي ينتمي إليها وللسلطة السياسية، (ويظهر تأثير الضغوط التي تتعرض لها غرفة التحرير الأخبار في تحديد ما الذي سيتم استخدامه وما الذي سيتم حذفه) والقائم بالاتصال يتعرض منذ البدء في جمع وانتقاء الأخبار إلى نوعين من التأثير: تأثير هامشي يتمثل في الضمير الصحفي وقيمه، وهذه القوى تمارس تأثيرها على القائم بالاتصال دون سيطرة على مضمون الرسالة، وثانيا تأثير مركزي يتمثل في تأثير النظام السياسي وقوانينه والنظام الاجتماعي وقاعة التحرير وسياسة النشر. ولعل من أبرز مظاهر التأثير تلك هو إستخدام الأسلوب اللفظي، مثل إطلاق مفردة (مقاومة) أو (إرهاب) لحدث معين متعلق بالعراق، (ثوار) أو (متمردين) لذات الجماعة التي تمارس نشاطاص مناهضاً للسلطة في السودان. وحتى الصورة الفتوغرافية أو التلفزيونية يتحكم فيها بحيث تبرز دلالات وقيم يحددها القائم بالاتصال ويحددها مدى خضوعه للمؤسسة الرسمية. "فالقائم بالاتصال لا يوصل صوراً لم يضع لها أبعاداً سواء عند أخذ تلك الصور أو عند وصولها إلى قاعة التحرير، وهذه الصور ستصل إلى الجمهور كما يريدها القائمون بالاتصال إما حسب البعد الذي أراده ملتقط الصورة أو بالحذف من قبل قاعة التحرير أو عدم نشرها".

الموضوعية والقواعد المهنية

الموضوعية في الإعلام تعني الكثير، فهي عدم تحريف الخبر بالإضافة أو الحذف، وكذلك اختيار الأخبار بدون تدخل القيم الخاصة للقائم للاتصال. ويرى البعض أنها ممكنة في الإعلام، بينما يرى آخرون أنها عبارة لا أساس لاستعمالها في الأخبار، لأن القائم بالاتصال لا يمكن أن يبقى بعيدا عن قيمه وإيديولوجيته وعن رؤيته الشخصية، سواء في جمعه للأخبار أو تصنيفها أو تضمينها في الصفحات أو النشرات الإخبارية. البعض يرى أن الكاتب أو المحرر يستطيع فصل ذاتيته والعمل بنوع من الموضوعية وهناك بعض المعايير والإجراءات التي تمكنه من ذلك وهي تقديم كل وجهات النظر حول الحدث المغطى، استعمال أقوال الآخرين، وتقديم أدلة محسوسة عما يقال.

إن الموضوعية أمر صعب المنال لا يمكن تحقيقه، مما جعل بعض الكتاب والنقاد يتحدث عن النزاهة والدقة والعدالة وتقليل التحيز واحترام القواعد المهنية والأخلاق المهنية للقائم بالاتصال.

إن النظم الاجتماعية تعمل بشكل منتظم وديناميكية متكاملة فيما بينها، للتحكم في القيم المجتمعية والتوجهات الاجتماعية الكلية عبر العملية الاتصالية، وتوفر لها كل ما يلزم من معينات اقتصادية ومسوغات قانونية وسياسية للمحافظة على البناء الاجتماعي على ما هو عليه، وصد أي محاولات تغيير حادة يمكن أن تهز أسسه وقيمه. لذلك نجد مدى تأثيرها الواضح في عملية تحرير الخبر الصحفي الذي يخرج للمستقبِل كما يراد له أن يخرج. وأن البحث عن الموضوعية أمر لا يمكن تحققه إلا في إطار القيم السائدة، فالقائم على الاتصال يريد أن يبث رسالته والمستقبِل يستقبل ما يتوافق مع قيمه ويخضع ما لا يتوافق معها لتقييمه إن لم يرفضها كلياً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق