الوقت يمر بطيئاً، والتوتر يتصاعد بوتيرة متسارعة داخل السفارة السعودية وفي أوساط الدوائر العاملة لإيجاد حل بأقل الخسائر للأزمة. المحتجزون يحاولون قتل كل الأفكار التي تراودهم، بالهروب منها والتمسك ببارقة أمل في أنهم سيخرجون من هذا المأزق بسلام في خاتمة المطاف. الخاطفون لا يقلون توتراً عن الآخرين، فكلما مر الوقت إزدادت حدة تعاملهم حتى مع بعضهم البعض، لولا السيطرة المحكمة التي يفرضها القائدان السياسي والعسكري على الوضع، فبعضهم كان يفكر في إطلاق النار على المحتجزين وينتهي الأمر، بدلاً من هذا الانتظار الممل.
مع اقتراب تباشير صباح يوم الجمعة صاغ كرم البيان الثاني وعرضه على رزق والقائد العسكري للموافقة عليه. صدر البيان بالرقم 2 عن عملية تحرير أبو داؤود ورفاقه، وجاء فيه: إنه وبعد مضي أكثر من اثنتي عشرة ساعة ورغم تمديدهم للمهلة إلا أنهم لم يتلقوا حتى ذلك الحين رداً إيجابياً لتنفيذ مطالبهم العادلة، وعلى رأسها إطلاق سراح الأخ أبو داؤود ورفاقه والأخ رافع الهنداوي وزملائه الضباط، بالإضافة إلى الآخرين الذين ورد ذكرهم في البيان الأول.
وأخذ البيان اتجاهاً أكثر تجاوباً مع قدرات الحكومة السودانية، فحتى تكون المطالب معقولة أكثر حيث أن السودان لا يستطيع الاتصال بالعدو الصهيوني فقد أعلنوا تنازلهم عن المطلب الخاص بهذا الجانب، كذلك تنازلوا عن بند الرفاق الألمان في منظمة بادرن ماينوهوف "لأن السفير الألماني لحسن حظه لم يكن موجوداً كما كانوا يأملون". لكنهم شددوا في البيان على أن لا خروج إطلاقاً من السفارة، ولا يمكن إطلاق سراح الرهائن أو حتى ضمان حياتهم إلا بضمان خروج الأخوة المذكورين في سجون الأردن. وحتى يكون الوقت كافياً قرروا تمديد فترة الإنذار حتى الثانية من ظهر الجمعة.
وأضاف البيان الثاني "إذا كانت حكومات الولايات المتحدة وبلجيكا والسعودية والأردن حريصة على أرواح الرهائن فما عليها إلا أن تستجيب لمطالبهم دون مماطلة، وان عليها أن تتحمل مسئولية ما سيحدث.
الصحافة السودانية .. خريف أبو السِّعن
ليلة الجمعة كانت استثنائية بالنسبة لصالات تحرير الصحف اليومية، وهي التي تسبح بحمد الرئيس من أول سطورها وحتى آخرها، وجدت ضالتها في مادة حيوية تخرجها من دائرة الرتابة التي ملها المحررون قبل القراء، الذين صاروا يكتبون تلقائياً ما يمكن أن يحدث يوم غدٍ بناءا على برنامج الرئيس. وكان رؤساء التحرير قد أعدوا ما سيكتبونه عن إحتفالات عيد الوحدة الوطنية في جوبا، قبل أيام، وجدد نشاطهم زيارة الأمبراطور هيلا سلاسي كحدث استثنائي، وقتلوا في الفترة الأخيرة التحقيقات عن إنقلاب شنان ومجموعته بحثاً وفقاً لما تبثه الأجهزة الرسمية من معلومات.
وهي التي ظلت تلاحق الإذاعات والصحف العربية والغربية لمتابعة احداث الثورة الفلسطينية لتسود بها صفحاتها، جاءتها الأحداث حتى باب دارها في طبق من ذهب. الصفحة الأولى من جريدة الإيام الصادرة في الثاني من مارس العدد 6767، شغل نصفها الأعلى مانشيت بالبنط العريض (عمليات أيلول الأسود الفلسطينية تمتد للخرطوم)، وأسفله بحجم أقل (فدائيون يعتقلون عدداً من السفراء في عملية مسلحة)، وبذات حجم الخط أسفل منه (ويطالبون بإطلاق سراح زملائهم في: الأردن وألمانيا وأمريكا وإسرائيل) وبخط أقل حجماً (الرئيس نميري يبلغ الملك فيصل ومجلس الوزراء يبحث الموقف). فيما جاء خبر استقبال الرئيس نميري للإمبراطور هيلا سلاسي في أقصى يسار الصفحة الأولى على استحياء. وغطت صور السفير السعودي والسفير الأمريكي والقائم بالأعمال البلجيكي وأبو داؤد وسرحان بشارة مساحة كبيرة أسفل العناوين الرئيسية في الصفحة الأولى، إلى جانب صورة استقبال الرئيس نميري للأمبراطور في مطار الخرطوم.
لم يصدق رؤساء التحرير أن تلك الفرصة جاءتهم من السماء "فمصائب قوم عند قوم فوائد"، لا بد من استغلالها من كافة جوانبها، على الأقل (سيرتاحوا) قليلاً من المتابعة اللصيقة لأخبار الحكومة التي تأتيهم عبر الوكالة الرسمية "سونا"، ويحاولون القيام بعمل صحفي حقيقي دون أن يجر عليهم غضب الرئيس وحكومته وأجهزته الأمنية. فهم سيتناولون حادثة السفارة السعودية بكامل تفاصيلها، ويغطونها بمختلف طرق العمل الصحفي من الأخبار حتى التحقيقات والحوارات. فكان أن ارتفعت معدلات توزيع الصحيفتين تلك الأيام وبلغت مدى ما كانت تحلم به يوماً. فذكرت جريدة الصحافة في اليوم الثالث أنها طبعت لأول مرة 100 ألف نسخة، كان عيداً للصحف والصحفيين.
ردود الفعل الرسمية
الدوائر العاملة في إدارة الأزمة مشغولة بإيجاد حلول عاجلة للموقف المتأزم وإنقاذ الرهائن. الدائرة الأمريكية والسعودية والبلجيكية والأردنية والفلسطينية والمنظمات الدولية والإقليمية في خطوط مفتوحة مع أصحاب الأرض، سواء بالاتصال المباشر أو عبر السفارات السودانية المنتشرة في العواصم المختلفة.
الخارجية الأمريكية قررت إيفاد المستر ماكومبر أحد كبار موظفيها إلى السودان لمتابعة الأمر، بعد أن أدان الرئيس الأمريكي نيكسون الحادث، وأعلن مساء نفس اليوم أن حكومته ستفعل ما في وسعها لإطلاق سراح الرهائن المحتجزين بالسفارة السعودية في الخرطوم. وأضاف نيكسون بأن نائب وكيل وزارة الخارجية الأمريكية المستر وليم ماكومبر سيذهب إلى الخرطوم كمراقب وليس في نيته التفاوض، وأعلن أن أمريكا لن ترضخ لجماعة أيلول الأسود.
في الرياض إلتقى السفير الأمريكي لدى المملكة السعودية نيكولاس ثاتشر الملك فيصل، الذي أبلغه أن السعودية تعارض نوع العنف المفرط الذي حصل من فدائيين فلسطينيين في العاصمة السودانية الخرطوم. وتكشف برقية من ثاتشر إلى الخارجية الأمريكية أنه أبلغ الملك فيصل أن لدى واشنطن معلومات تفيد بأن الإرهابيين أخذوا زمام المبادرة، وإنهم يشوهون صورة العرب في كل العالم، ويلحقون الضرر بالقضية الفلسطينية. رد عليه الملك فيصل بأن السعودية قررت وقف مساعداتها ل"فتح" التي أعلن فدائيو أيلول الأسود إنتماءهم إليها، إلى حين تلقي المملكة ضمانات من المنظمة الفلسطينية أنها ستطهر نفسها من الأفكار والممارسات السيئة.
وأضافت البرقية أن الملك فيصل قال "إن على أصدقائنا في الولايات المتحدة أن يبدأوا ممارسة ضغوط حقيقية على إسرائيل للانسحاب من الأراضي العربية التي احتلتها. وحال حدوث تقدم في هذا الاتجاه، فإن الطريق ستكون مفتوحة أمام حل جميع مشكلات المنطقة بما فيها الإرهاب."
بلجيكا من جانبها قررت إيفاد مستشار السفارة البلجيكية في القاهرة إلى الخرطوم لمتابعة الموقف حسب إفادة وزير خارجيتها، وشكر الحكومة السودانية على عنايتها الطبية بالقائم بالإعمال.
الأردن لم تكتف باستنكار الحادث لكنها رفضت الاستجابة لمطالب الفدائيين، وبعث وزير خارجيتها صلاح أبو زيد ببرقية مطولة إلى وزير الخارجية السوداني د. منصور خالد، وعبر في البرقية عن الوقع السيء للعملية في الأوساط الأردنية، وذكرت البرقية "إن العملية تمثل عدواناً سافراً على السودان واعتداءا بشعاً على السفارة السعودية استهدف ضرب الخطوات الإيجابية التي تمت على الصعيد العربي. وأن حجم العملية يلقي ظلالاً كثيفة سوداء على وجه "قضيتنا" الناصعة البياض وتخدم الأعداء". وتواصل البرقية "إن الأشخاص الذين يطالب أصحاب العملية الحكومة الأردنية بالإفراج عنهم هم مجرمون أدانتهم السلطات القضائية المختصة في الأردن في محاكمات قانونية عادلة. ولهذه الاعتبارات كلها فإن حكومة صاحب الجلالة الهاشمية سوف لا تقبل بأية مساومة على أي من هؤلاء المجرمين ولن تسمح بأي ضغط أو تهديد بأن يحقق مرامي أصحابه في كل الظروف والأحوال.
منظمة التحرير الفلسطينية أنكرت علاقتها بجماعة أيلول الأسود التي اقتحمت السفارة السعودية على لسان رئيسها السيد ياسر عرفات، في برقية بعث بها للرئيس جعفر نميري قال فيها "إنه ليس للمنظمة أي علاقة بما حدث من أعضاء منظمة أيلول الأسود في السفارة السعودية بالخرطوم". وجاء في الرقية "قد كان بالإمكان تطويق مضاعفات الحادث، ولكن أطرافاً كثيرة ذات مصلحة في تأزيم علاقتنا نجحت في حجب الكثير من خفايا الصورة عنكم الأمر الذي زاد الأمور تعقيداً، وتم ما تم من أحداث."
في دوائر الأمم المتحدة، اتصل السكرتير الخاص للأمين العام للأمم المتحدة بمندوب السودان الدائم لديها، ونقل إليه إنه تلقى مكالمة تلفونية من الأمين العام الموجود في باريس، يعبر فيها عن اهتمامه بما يحدث في الخرطوم، معرباً عن استعداده لتقديم أي عون ممكن.
البيان الأخير
تواصلت الاتصالات بين اللجنة المكلفة برئاسة اللواء الباقر والفدائيين في السفارة السعودية من جهة، وبين اللجنة وبعض السفارات العربية من جهة أخرى. فقد استدعى وكيل وزارة الخارجية السودانية السفير الجزائري ظهر اليوم، وأبلغه أن أعضاء منظمة أيلول الأسود يرغبون في السفر إلى الجزائر مع الرهائن ومع مسئولين سودانيين تمت تسميتهما من جانبهم. كان رد السفير الجزائري أنهم لا يمانعون في ذلك ولكن بشروطهم هم. لم يتصل السفير الجزائري مرة أخرى، ورفض الفدائيون من جانبهم المقترح السوداني.
وأسفرت الاتصالات المتواصلة مع الفدائيين عن رغبتهم في السفر إلى القاهرة، وأن مصر مقبولة بالنسبة لهم. وافقت مصر على استقبال الفدائيين والرهائن، وأبلغ الوكيل السفير المصري موافقة الحكومة على قبولهم وإنها ستتولى أمر المرافقين للفدائيين في الطائرة. لقي خبر سفر الرهائن إلى مصر قبولاً وارتياحاً لدى الولايات المتحدة الأمريكية، وكان على اللجنة نقل الخبر إلى الفدائيين.
لكن الفدائيين بعد موافقتهم عادوا ورفضوا السفر إلى مصر وأصدروا بيانهم الثالث الذي جاء فيه:
أولاً:
تعديل المطلب الأساسي بقصره على إطلاق سراح أبو داؤود ورفاقه الستة عشر.
تمديد فترة الإنذار إلى الثامنة مساء 2 مارس بدلاً عن الثانية من بعد ظهر نفس اليوم.
ثانياً:
إعداد طائرة لتقلهم والرهائن بالإضافة إلى وزيرين سودانيين إلى أمريكا.
أن يقوم الوزيران بشرح القضية الفلسطينية من الجو للشعب الأمريكي.
عند هبوط الطائرة بأمريكا يتم إعدام الرهائن الأمريكيين والبلجيكي ويسلم الفدائيون أنفسهم للسلطات الأمريكية لمحاكمتهم.
ثالثاً: بعد إنقضاء فترة الإنذار، وفي حالة عدم الاستجابة لأي من المطلبين السابقين، ينفذ حكم الإعدام في الرهائن واحداً بعد الآخر كل ساعة.
في الساعة الخامسة وعشر دقائق اتصل اللواء الباقر بالفدائيين، أوضح لهم الجهود التي تبذلها الحكومة السودانية والإمكانات المتاحة. واطلعهم على أن هناك طائرة لمسؤول أمريكي في الجو ولا يمكن استعجالها، وأن الحكومة بعثت بجميع رجاءاتهم للجهات المعنية. لكن الفدائيين أبدوا تذمراً واضحاً، وطلبوا مهلة للتفكير في المقترح الذي قدمه لهم اللواء الباقر بتمديد فترة الإنذار حتى صباح الغد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق