النصف الثاني من جمعة الدماء
ثلاث ساعات مضت منذ آخر اتصال بين اللجنة وجماعة أيلول، بلغ خلالها مؤشر تيرمويتر القلق أقصى درجاته لدى الفدائيين. شعروا بأن الوقت يمضي دون جدوى، فلا واحد من مطالبهم تحقق رغم التنازلات التي قدموها حتى الآن. ظلت المناقشات بينهم جارية، يعلو فيها صوتهم المحتد تارة وأخرى ينخفض، إلى أن حسم القائد السياسي للعملية "كرم" الأمر بعد مشاورات أجراها مع القائد العسكري.
الصورة: غلاف الكتابسننفذ حكم الإعدام في الأمريكيين والبلجيكي.
في الثامنة والربع مساء اتصل كرم بالسيد نائب رئيس الجمهورية ووزير الداخلية اللواء الباقر رئيس اللجنة المكلفة بالاتصال. نقل إليه عزمهم على تنفيذ حكم الإعدام في الرهائن دون أن يحدد له هوياتهم. وقال له:
لم نتلق أي وعد معقول من الحكومات المعنية، لذلك قررنا إعدام الرهائن على رأس كل ساعة.
ووسط طلب ورجاء اللواء الباقر، بعدم اللجوء إلى تنفيذ ذلك، أغلق كرم الهاتف، واتجه إلى البدروم مع الآخرين. ساد المشهد هناك هدوء غريب، هو الهدوء الذي يسبق العاصفة. خاطب كرم الأمريكيين والبلجيكي بأنه سيتم تنفيذ حكم الإعدام فيهم الآن، وطلب منهم كتابة وصاياهم إن شاءوا.
الوحيد الذي كتب وصيته كان المستشار الأمريكي وقال فيها: "لا خوفاً من الموت ولا رغبة في الحياة أحرص أن أقول: إن للفلسطينيين قضية، وأوصي حكومتي بشدة أن تعمل على حلها؛ تجنباً لما قد يحدث من فتن وكوارث، وأوصي زوجتي وابني أن يتحملا تنفيذ هذه الوصية؛ بنقلها، والحرص على وصولها إلى جهة القرار".
تنفيذ الإعدام وما بعده
لم يمض وقت طويل، قبل أن يفتح الفدائيون النار على الرهائن الثلاثة وهم وقوف، لتصيب الرصاصات المنطلقة من بنادقهم الكلاشنكوف ومسدساتهم رؤوس وصدور السفيرين الأمريكيين والقائم بالأعمال البلجيكي. كانت لحظات من الهستريا أصابت الفدائيين وهم يطلقون النار وهم متشبثون بأسلحتهم في تشنج وانفعال وكأنهم يقطعون على أنفسهم أية إحتمالات للتردد يمكن أن تصيبهم أو تصيب أحداً منهم. وبينما كانت صدور القتلى تلفظ أنفاسها الأخيرة، كانت صدور الفدائيين تطلق أنفاسها متسارعة قبل أن تلتقطها، لتتنفس الصعداء. فقد انتهت المرحلة الشاقة من المهمة، والآن عليهم انتظار ما ستسفر عنه المراحل القادمة.
في التاسعة وخمس دقائق طلب كرم من السفير السعودي الاتصال باللواء الباقر وإطلاعه على ما تم. فكان أن اتصل سعادة السفير عبدالله الملحوق باللواء الباقر ونقل إليه أن الفدائيين قد نفذوا الإعدام في السفيرين الأمريكيين والقائم بالأعمال البلجيكي، وأنهم يحتفظون به والقائم بالأعمال الأردني كرهائن.
ساور الشك الأطراف المختلفة في البداية في حقيقة ما نقل إليهم من أخبار حول تنفيذ الإعدامات، مما اضطر السيد وكيل وزارة الخارجية السودانية الاتصال بنفسه بقائد العملية، الذي أكد له بأن الإعدام قد نفذ بالفعل. وعلى الفور أصدرت الحكومة السودانية بياناً نقلته وكالة سونا للأنباء شرحت فيه كل التفاصيل التي سبقت إعدام الرهائن الثلاث، وتناقلته فيما بعد وسائل الإعلام المختلفة، وجاء في البيان "ان حكومة جمهورية السودان الديمقراطية، بعد كل ما بذلته من جهود شاقة منذ اللحظات الأولى لإنهاء هذه المأساة الأليمة رائدها الحفاظ على أرواح الدبلوماسيين وأرواح الفدائيين في نفس الوقت، لتأسف لهذه النهاية المفجعة للمأساة .. وتستنكر إزهاق الأرواح البريئة مهما كان الدافع إلى ذلك، وتعبر عن بالغ أسفها لما حدث."
لم تنقطع الاتصالات رغم ذلك بين لجنة الأزمة والفدائيين في السفارة، وطلب رئيس اللجنة منهم تسليم الجثث لاعتبارات إنسانية وصحية. رفض الفدائيون على لسان كرم تسليم الجثث للإحتفاظ بهم ككرت للمساومة للخروج من السودان، خاصة أن شائعات إنطلقت بان القائم بالأعمال البلجيكي ما زال حياً.
أول ردود الفعل جاءت من الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أصدر وزير الخارجية الأمريكي مستر روجرز تعليمات إلى السكرتير الأول بالسفارة الأمريكية بالخرطوم بمحاولة الاتصال بأعلى مستوى من المسؤولين، وأن ينقل إليهم رجاء الولايات المتحدة بعدم إطلاق سراح الفدائيين أو السماح لهم بمغادرة السودان، فتلك الأنباء ستصيب الرأي العام الأمريكي بالصدمة وإن إطلاق سراح الفدائيين سيزيد الموقف تدهوراً.
أرسل الرئيس جعفر نميري برقيتي تعزية للرئيس الأمريكي نيكسون وملك بلجيكا أكد فيها عن حزنه والشعب السوداني على ما حدث من إعدامات، وأدان هذا الأسلوب في معالجة المشاكل وأنهم لا يقرون العنف وسيلة لحل الخلافات. كما بعث وزير الخارجية د. منصور خالد برقيتي تعزية إلى وزيري خارجية الولايات المتحدة الأمريكية وبلجيكا. وأذاع البيت الأبيض في واشنطن بياناً للرئيس الأمريكي نيكسون نعى فيه سفيره والقائم بالأعمال في سفارة الولايات المتحدة بالخرطوم، وأعرب عن أسفه لمقتلهما ومقتل القائم بالأعمال البلجيكي بالسفارة السعودية بالخرطوم بأيدي فدائيي أيلول الأسود. وأمر نيكسون في بيانه بتنكيس العلم الأمريكي حداداً، كما أمر مساعد وكيل وزارة الخارجية المستر ماكومبر الذي وصل الخرطوم القيام بترتيب نقل الجثمانين مع أفراد أسرتيهما للولايات المتحدة، كما طالب بمحاكمة الفدائيين. وذكر الناطق باسم البيت الأبيض أن العلم الأمريكي سيظل منكساً في البيت الأبيض، وفي كل سفارات أمريكا في انحاء العالم حتى يتم دفن الدبلوماسيين الأمريكيين.
السبت منظمة التحرير الفلسطينية على الخط
في صباح اليوم التالي الثالث من مارس اتصل قيادي في منظمة التحرير بالخرطوم بوكيل وزارة الخارجية فضل عبيد طالباً أن تبذل حكومة السودان أقصى الجهود للحفاظ على ما تبقى من الرهائن وهم السفراء العرب. وأفاده بانه اتصل بجماعة أيلول الذين أفادوه بانهم يريدون طائرة تقلهم إلى مكان ما، لا يودون تحديده. أطلعه الوكيل على أن الأمر برمته يدرس بواسطة المسئولين وأنهم كانوا قد طلبوا من الفدائيين تسليم الجثث لكنهم رفضوا. كما رفضوا فيما بعد دخول مندوب الهلال الأحمر لمعاينة الجثث ولا حتى إدخال ألواح من الثلج لحفظها من التعفن.
عقد مجلس الوزراء جلسة طارئة في الساعة الحادية عشرة صباحاً برئاسة نائب رئيس الجمهورية اللواء محمد الباقر، الذي قدم تقريراً كاملاً حول الأحداث الأخيرة، وخرج الاجتماع الذي استمر طويلاً، بالآتي:
بما أن قائد العملية ذكر أنه تم إعدام ثلاثة من الرهائن فإن الاستجابة للمطالب الأولى لم تعد موضوعاً للتفاوض.
إن مطلبهم الآن هو مغادرة البلاد بصحبة الرهائن على طائرة تقلهم إلى جهة يحددونها بعد إقلاع الطائرة.
بما أن قائد العملية ظل يؤكد للسيد النائب الأول ثقته في السودان شعباً وقيادة، وما يؤديه في سبيل نصرة الثورة الفلسطينية، واستشعاراً من السودان لمسئولياته نحو نفسه ونحو الدول العربية الشقيقة، وانطلاقاً من موقفه الثابت نحو القضية الفلسطينية، وما يفرضه ذلك من تبعات تجاهها، فإن السودان لا يرى ما يبرر نقل هذه المشكلة إلى دولة عربية أخرى متخلياً بذلك عن مسئوليته. ولهذا فإن مجلس الوزراء يطلب إلى قائد العملية وجماعته إطلاق سراح الرهائن وتسليم أنفسهم للسلطات السودانية.
تبع ذلك القرار على الفور إجراءات أمنية ونشطت غرفة العمليات وهي تعد الخطة لإقتحام السفارة إذا استدعى الأمر ذلك. لذلك أخلت السلطات الأمنية المنطقة حول السفارة السعودية، وأخلت كل المنازل المجاورة لها من السكان، وانتشرت قوات من الأمن والجيش بالمنطقة في انتظار تطورات الموقف.
منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت تراقب الموقف عن كثب، نقل نشطاؤها في الخرطوم عزم الحكومة على مهاجمة السفارة وإنها أعدت القوة اللازمة لذلك، سرعان ما تحرك قادتها في محاولة للتدخل لحل الأزمة. اتصل مدير مكتب المنظمة ببيروت شفيق الحوت بالسفارة السودانية هناك، ونقل إليهم رسالة شفهية تفيد بالآتي: تفادياً لتدهور الموقف في السفارة السعودية بالخرطوم رأت المنظمة ان تحاول التدخل كوسيط بين منظمة أيلول والحكومة السودانية بهدف:
اولاً: ضمان سلامة الرهائن العرب.
ثانياً: ضمان سلامة خروج العناصر التي قامت بالعملية من السودان إلى القاهرة.
وقال شفيق الحوت للسفير السوداني إن المنظمة مارست جهوداً كبيرة طوال الساعات الماضية لإقناع جماعة أيلول للوصول إلى هذا الاتفاق. لذلك تطلب المنظمة تأكيداً سودانياً بتوفير ضمان سلامة خروج العناصر التي قامت بالعملية سواء بمرافقة شخصية سودانية أو بمرافقة المحتجزين أنفسهم على طائرة إلى القاهرة.
وواصل المسؤول الفلسطيني "في حالة الموافقة –التي نرجو أن تكون سريعة- سنوافيكم من جماعة أيلول برسالة لزملائهم في الخرطوم تنهي الموضوع".
وأضاف الحوت:
هذا التدخل من جانبنا هو السابقة الأولى حرصاً على علاقاتنا السودانية بشكل خاص وعلاقاتنا العربية بشكل عام، ونامل أن يكون تدخلاً مفيداً.
في نفس الوقت وصلت برقية من السفارة السودانية بطرابلس إلى الخارجية السودانية تفيد بأن مجهولاً زعم بأنه من منظمة أيلول الأسود اتصل بالقائم بالأعمال السعودي، وطلب منه ان تتوسط حكومته لدى السودان لتدبير خروج الفدائيين سالمين من السودان مع رهائنهم إلى مكان آمن، وأن منظمة أيلول الأسود ستوفر السلامة للرهائن.
لم تتوقف الاتصالات بين الخرطوم وبيروت، وهذه المرة بتدخل مباشر من الرئيس اللبناني صائب سلام الذي حاول أن يصل السيد ياسر عرفات باللواء الباقر. وجاء في برقية عاجلة من السفارة السودانية هناك أن ياسر عرفات بعث ببرقية للرئيس نميري يقول فيها إنهم يتابعون بقلق تطورات الموقف في الخرطوم، وإن إصرار الحكومة السودانية على الاستمرار في موقفها وقرارها الأخير بمهاجمة السفارة السعودية يشكل احتمالات جديدة قد تؤدي لإراقة الدماء، بالرغم من المحاولات المستمرة مع حكومة السودان والأطراف الأخرى للتوسط لحل المشكلة. وناشد ياسر عرفات الرئيس نميري بالتزام الحكمة وسعة الصدر في معالجة الموقف حتى وصول مندوب من منظمة التحرير الفلسطينية من الممكن ان يساعد وجوده في حل الأزمة وحقن الدماء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق