أمير بابكر عبدالله
تمتد حدود السودان الدولية مع العديد من البلدان في الإقليم، سواء قبل أو بعد الإنفصال، وكلها دول بما فيها السودان تشهد اضطرابات داخلية أو نزاعات حدودية بين بعض من تلك الدول. إضافة إلى ذلك الخلافات السياسية بين دول وأخرى التي تشكل بيئة مناسبة للتوترات التي ترقى أحياناً للصراع المسلح مباشرة أو بطريق غير مباشر.
إذا كان الأستاذ حسن نجيلة لاحظ وجود وانتشار السلاح بين القبائل في مناطق كردفان في منتصف القرن الماضي نتيجة للنزاعات القبلية التي تمتد من تخوم ليبيا إلى أواسط دارفور وكردفان ولطبيعة الحياة البدوية والرعوية والترحال المستمر للقبائل هناك، ويمكن عزو انتشار السلاح حينها وقبلها إلى تجارة السلاح ما بعد الحرب العالمية الثانية ووتواجد مخزون للأسلحة ليس من السهل السيطرة الكاملة عليه، فإن الحدود الشرقية للسودان هي الأبرز في تصنيف المناطق المضطربة منذ مطلع ستينيات القرن الماضي إثر تصاعد نضال الشعب الإرتري وحركات التحرر التي قادت الكفاح المسلح ضد الإمبراطورية الإثيوبية ومن بعده نظام (الدرق). هذا غير نضال الشعب الأثيوبي وحركاته التحررية المسلحة. ولا يختلف المشهد الآن كثيراً فالنزاع بين الدولتين والحرب الضروس بينهما التي اندلعت في خواتيم الألفية السابقة، إضافة إلى الحركات المسلحة والنزاعات الداخلية في حدود كل دولة، توضح طبيعة البيئة المثالية لتجارة السلاح الخفيف.
حصر جزئي للحركات المسلحة في الدولتين المتجاورتين والمجاورتين للسودان، مع انفتاح الحدود وتدفق أفرادها في أحايين كثيرة بأسلحتهم، يكشف بجلاء كم الأسلحة التي بين يدي تلك المجموعات يقابلها التسليح الحكومي. (الحركة الديمقراطية الوطنية الأمهرية، التحالف من أجل الحرية والديمقراطية، الحركة الشعبية لتحرير بني شنقول، الحركة الديمقراطية لتحرير إريتريا، الحركة الديمقراطية لتحرير كوناما إريتريا، الحركة الديمقراطية لتحرير تيغري، الجبهة الديمقراطية الإريترية، الجبهة المتحدة القومية الديمقراطية الإثيوبية، الاتحاد الديمقراطي الإثيوبي، جبهة الإصلاح الإسلامي الإريتري، حركة الإصلاح الإسلامي الإريتري، جبهة التحرير الإريترية، جبهة التحرير الإريترية – المجلس الثوري، التحالف الوطني الإريتري، الحركة الديمقراطية الشعبية الإثيوبية، الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا، جبهة تحرير شعب غامبيلا). هذ قيض من فيض أمتد منذ قرابة الخمس قرون ولا زال مستمراً، يقابله الوضع الداخلي المضطرب أصلاً للسودان وانفتاح جبهات قتال عديدة كانت الجبهة الشرقية إحداها، وهذا ما سنستعرضه لاحقاً.
الحدود الغربية للسودان كمعبر لتهريب وتجارة السلاح لا ينفصل عن الطبيعة المضطربة للمنطقة، فدولة تشاد في إطار الصراع المستمر حول السلطة فيها. وتدخل الدول المحيطة سواء السودان أو ليبيا في أتون ذلك الصراع جعل من السلاح أداة سهلة المنال في ذلك الوقت. وزاد الطينة بلة الوضع في ليبيا عقب سقوط نظام معمر القذافي ولا تزال تداعياته ماثلة للعيان حتى الآن، ففي العام 2012 نشرت وكالة الأنباء الفرنسية من نيويورك خبراً يعبر عن ذلك القلق الأممي بعد موت القذافي، وحذر بعض مسؤولي الأمم المتحدة من أن يكون جزء من أسلحته انتقل إلى مقاتلي دارفور وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وغيرهم من المتطرفين (حسب الخبر). ويرى دبلوماسيون وخبراء أن (المتمردين) أخذوا كل ما كان موجوداً في مستودعات أسلحة القذافي، وقد عبرت معظم البنادق الهجومية وقاذفات الصواريخ والرشاشات الثقيلة الحدود، بل وافاد تقرير عن أجهزة الاستخبارات الغربية أن شاحنات مملوءة بالمسدسات عبرت دارفور غرب السودان، حيث تدور حرب أهلية، وتتوجه إلى ولايتي كردفان الجنوبي والنيل الأزرق اللتان تشهدان حرب مسلحة. ولم يقتصر الأمر على ذلك فقد قال وزير الخارجية الموريتاني إن الأكيد هو انتقال أسلحة إلى تشاد ومال والنيجر.
ولا يكفي حدود السودان الغربية أن تؤخذ من ليبيا وتشاد ليندلع الصراع المسلح في جمهورية أفريقيا الوسطى لتنضاف حدودها إلى قائمة حدود الدول التي توافق بئتها تهريب وتجارة الأسلحة. أما حديث الأوضاع في السودان فذو شجون لأنه أسطع الأمثلة للبيئة الملائمة لانتشار وتجارة الأسلحة.
طرق وأسباب
"كلما ازداد شعور الإنسان بعدم الأمان، ازدادت رغبته في اقتناء السلاح للدفاع عن نفسه وعائلته، أو ماله. وما ظهر ويظهر في الآونة الأخيرة في مجتمعات ودول كثيرة، من فقدان الأمن الاجتماعي، وسقوط هيبة القانون، واحتضار العدالة، وبطئها، وانشغال أجهزة الأمن بالأمن السياسي أكثر من الأمن الاجتماعي، دفع بالمواطن إلى التفتيش عن وسائل الحماية الذاتية، وبمعزل عن أجهزة السلطة." هذا ما جاء في دراسة عن تجارة السلاح غير المشروعة للواء دكتور محمد جمال مظلوم نشرت في الرياض. وهذا ما يفسر اتجاه القبائل لتسليح أفرادها أو رغبة الأفراد في إمتلاك سلاح للحماية أو للثأر أو للرغبة في الإغارة على الآخر والاستيلاء على ممتلكاته.
رغم أن هذا يمثل واحدة من أسباب السعي للحصول على السلاح، إلا أن هناك طرق وأسباب أخرى لذلك، يمثل أبرزها الوضع السياسي المضطرب الذي لازم السودان منذ الاستقلالن أو قبله بتمرد عام 1955 الذي فتح الباب على مصراعيه لانتشار السلاح. تمثل مخازن الأسلحة الحكومية واحدة من أهم مصادر تسليح الحركات المتمردة، من الطبيعي أن تتمرد بعض الوحدات العسكرية أو الأفراد وهم يحملون أسلحتهم هذا إذا اكتفوا بذلك ولم يستولوا على كل أسلحة الوحدة. هذا ما حدث في أول تمرد عسكري في السودان فجر الاستقلال، واستمر مع استمرار الصراع المسلح.
في إطار الصراع السياسي تلجأ الدولة إلى تسليح القبائل والمليشيات الموالية لبسط سيطرتها على بعض المناطق، مثلما تلجأ بعض الدول المجاورة في إطار صراعها السياسي مع السودان إلى إمداد الحركات المسلحة بالسلاح. كل ذلك يمثل حاضنة ملائمة لتنامي الرغبة لدى الأفراد في الحصول على قطعة سلاح، ويحضرني هنا ما ذكره لي أحد ضباط الحركة الشعبية لتحرير السودان قبل التوقيع على اتفاق السلام الشامل في 2005، وقد كنا في سجن واحد، عن سبب وجوده في السجن إنه متهم ببيع قطعة سلاح، لكن الأهم من ذلك ما قاله لي عن وسيلة كسب العيش في الجنوب في تلك الفترة "إننا في الجنوب نعيش من بيع السلاح الذي نحصل عليه في المعارك التي نخوضها ضد القوات الحكومية والمليشيات التابعة لها. الجيش الشعبي لا يصرف لنا مرتبات، ولكن يسمح للواحد منا ببيع كل الأسلحة الخفيفة التي يحصل عليها بعد أن يودع واحدة منها لدى مخزن السلاح الخاص بوحدته وأي أسلحة ليست من فصيلة الأسلحة الخفيفة."
وإذا مثلت المعارك بين القوات الحكومية والمليشيات الموالية وبين الحركات المتمردة المسلحة مصدراً من مصادر الحصول على السلاح وبالتالي مصدراً تجارياً في غياب الرقابة المحكمة على الأفراد، فإن مخزون آخر مهم ظهر بعد دخول بعثات حفظ السلام إلى السودان كمصدر من مصادر انتشار السلاح في السودان، يشير مايك لويس في ورقة عمل "التفاف على القانون: السودان في مرحلة مابعد اتفاقية السلام" نشرتها مجموعة مسح الأسلحة الصغيرةن يشير إلى أنه منذ سنة 2007، فإن الهجمات على العملية المختلطة (يقصد البعثة المشتركة) تعدت كونها كمائن انتهازية الطابع، إذ غدت بدل ذلك هجمات مخطط لها بشكل جيد وعلى نطاق واسع على قوات العملية المختلطة ومنشآتها (مجلس الأمن الدولي، 2008b ، الفقرة 311 ). ولربما عززت هذه الهجمات معدات الجماعات المسلحة من الناحيتين الكمية والنوعية، إذ سرق نحو 12 طناً من ذخيرة الأسلحة الصغيرة الصينية الصنع من دورية شاحنات تجارية تعمل لوحدة من العملية المختلطة، والدورية كانت في طريقها إلى نيالا في جنوب دارفور في مارس 2008."
إنفصال جنوب السودان واندلاع الحرب هناك، يضاف إليها استمرار الحرب في جنوب السودان الجديد واستمراره في دارفور، زاد من خصوبة البيئة المناسبة لتلك التجارة، خاصة إذا ارتبط الحصول على قطعة سلاح بالمعيشة وليس بما هو استراتيجية قتالية.
لن تتوقف تجارة السلاح طالما وجدت البيئة المناسبة لها، وستظل البيئة موائمة طالما ظلت أسباب الحرب داخلياً قائمة في ظل غياب الإرادة السياسية لإنهائها، فتجار السلاح على مستوى العالم يغذون تلك الحروب من أجل الحفاظ على مصادر رزقهم. ف"صفقات فيكتور بوت لم تكن تتوقف عند حد وعلى مدى عشر سنوات وبفضل اسطوله البري والبحري كان دوما وفياً في وعوده محترماً لمختلف التزاماته لامراء الحرب حيثما كانوا.. حتى انه كان مصدر تمويل المتناحرين في نفس الوقت فقد كان يقدم السلاح لحركة طالبان ويمد احمد شاه مسعود زعيم تحالف الشمال في افغانستان بنفس السلاح وكانت شحنات الدبابات والقنابل وغيرها من انواع السلاح تجوب العالم وتغذي الصراعات في افريقيا في تحد لقرارات الامم المتحدة من انغولا الى رواندا وسيراليون والسودان والكونغو الى العراق.. واذا كان بوت لم يكن يتردد في ارسال طائرة خاصة لانقاذ موبوتو سيسي سيكو العليل فانه لم يكن ليجد مانعا في تمويل المتمردين عليه تماماً كما كان يصنع مع زعيم ليبريا شارلز تايلور".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق