أيدلوجيا الدولة .. عنف السلطة (2-3)

جنوب السودان.. الأيدولوجيا والعنف

كعب أخيلها، الذي ظلت تخشاه (الانقاذ)، هو الجنوب. والجنوب ليس كحركة مقاومة مسلحة -موجودة على الأرض- فقط، بل الجنوب كجغرافية إثنية وثقافية ودينية –تعمل على اختراقها- في المقام الأول. جغرافية أكثر حدة داخل خريطة السودان، التي تشتهي (الإنقاذ) رسمها من جديد، يمكنها إحداث شروخ في جدار تلك الأيدولوجيا التي لا تحتمل التعدد والتنوع.


ولكن الأهم من كل ذلك هو تلك الغدد التي تفرز لعاب يسيل لمجرد رؤيته للدنانير، ناهيك عن ثروة بحجم توقعات واكتشافات البترول والجنوب مسرح أساسي لذلك. هنا مربط الفرس؛ التحكم في مفاصل الدولة بالضرورة يعني التحكم في تروس انتاج البترول، الذي هو (كومين) ممنوع على الآخرين الاقتراب والتصوير، وبقية مصادر الدخل القومي الأخرى (نصف كوم).

العقلية السائدة هنا عقلية المضاربات ذات العائد السريع (المحسوس الملموس)، ولا يهم مردودها الاقتصادي المستقبلي ولا ما يمكن أن تحدثه من تأثيرات وتحولات اقتصادو-اجتماعية. فهي تستخدم الدين من أجل السيطرة على المال أكثر منه (أي الدين) إدارةً للحياة بمختلف جوانبها، بما فيها المال ليعود نفعه على الجميع تنميةً وازدهاراً. هذا هو المكون الأول لمجموع تصوراتها وأفكارها ومشكِّل جوهري لقيمها، فالمال غاية عندها.

إذاً الجنوب في إيديولوجيا (الانقاذ) محور ذو أبعاد لابد من التعامل معها على عدة مستويات. المستوى الاقتصادي ويأتي في المقام الأول. وهو مستوى ليس معني به تنمية ولا توازناً، وإنما استغلال لموارد متاحة بأقل خسائر ممكنة (الخسائر البشرية ليست ضمن الخسائر المحسوبة). ولكن لابد أن تسبق ذلك خطوات سياسية تعزز مواطن السيطرة على مفاتيحه.

يبقى استمرار الحرب (العنف).. أول تلك الخطوات السياسية، وفي ذات الوقت تمثل الحرب بعداً آخراً من محور الجنوب في إيديولوجيا (الانقاذ). تخدم الحرب (العنف) عدة أشياء هنا وعلى عدة أصعدة. أولها إيجاد مبررات لاستمرار حالة الطوارئ في كل البلاد، وليس هناك أقوى من نشوب حرب، وبالتالي خلق طقس مشحون بالتوتر ومخنوق بالقوانين الاستثنائية. وثانيها، تمريرها لخطابها الأحادي مستغلة كل أجهزة دولتها في ذلك، باستخدامها ذات الحرب وسيلة للتعبئة والحشد الإيديولوجي. وهو بالرغم من كونه خطاب ديني (جهادي)، يفترض أن يوحد (أهل القبلة)، فهو لا يكرس لوحدة دينية لمنطلقاته الاستعلائية حتى على مستوى الخطاب الديني. وهنا يحضرني قول الشيخ يوسف القرضاوي في ندوة حول التعددية السياسية أقامها مركز الدراسات الحضارية بالقاهرة عام 1992م وأشار إليه الأستاذ فهمي هويدي في كتابه الاسلام والديمقراطية، يقول الشيخ القرضاوي: "نحن هنا بصدد مشكلة حقيقية لا ينبغي أن تغيب عنا، وهي أننا نواجه بآراء غريبة وشاذة على الساحة الإسلامية ترفض الاختلاف بين الناس، وتدعو إلى مدرسة الرأي الواحد، ليس فقط في تعامل الإسلاميين مع غيرهم، ولكن في داخل الإطار الإسلامي ذاته، حيث لا يجيزون التعدد حتى بين الفصائل الإسلامية التي تختلف في الاجتهاد والنظر".

هذا قول في صميم المسألة التي نحن بصدد الحديث عنها، ولكن لماذا إصرار مدرسة الرأي الواحد (الإنقاذية) على الإنفراد بالساحة الدينية دون الآخرين من الإسلاميين ناهيك عن (النصارى والعلمانيين)؟؟ هي زاوية أخرى غير التي انطلق منها الشيخ القرضاوي، إذ لا علاقة للموضوع هنا بالاختلاف في الاجتهاد والنظر بقدر ما هو مرتبط بالمصالح باعتبارها العنصر الأساسي للحياة الاجتماعية لأصحاب نظرية الصراع الذين يرون أن الحياة الاجتماعية ليست سوى صراع حول المصالح وأنها تقتضي استعمال الترغيب والترهيب لبلوغها، وأن التمايز الاجتماعي يعني تمايزاً في القوة. وهو ما يؤكد أن المال (زينة الحياة الدنيا) والقوة هما العنصران الأساسيان المكونان لإيديولوجيا (الإنقاذ).

قطع الطريق أمام المساعي الرامية لإيقاف الحرب –حينها- ظل هدفاً استراتيجياً للإنقاذيين، مثله تماماً والسيطرة على مفاصل الدولة وبالتالي على مقدراتها. وقد كان في 30 يونيو 89م. إن استمرار الحرب يجعل الحديث في غيرها بمثابة المحرمات، فمن ناحية عليهم أن "يعدو لها ما استطاعوا من قوة"، وتحت دعاوى الإعداد تمرر كثير من الأجندة الهادفة إلى مزيد من السيطرة، ومن ناحية أخرى استمرار الوضع على ما هو عليه جنوباً بل وتعميق الأزمة أكثر باستخدام آليات الفُرقة بحدة أشد، إلى جانب آليات الفرق العسكرية.

الأهم من كل ذلك هو استمرار الوضع الإنساني السيئ في الجنوب، وطمس أو على الأقل تعويق إمكانيات الخروج منه لأطول فترة زمنية ممكنة، حتى يجيء بعدها التفكير في قضايا هي من الترف بمكان أمام الجوع والتشرد والموت، مثل التنوع الثقافي والتعددية والرأي الآخر. وكانت مشاهد الجوع والموت تطل بارزة مما يجعل السؤال الاستنكاري يقفز بسهولة إلى السطح : "الناس في شنو ....؟؟"

(الانقاذيون) يعلمون جيداً ما أن يحل الاستقرار ويستلقي الجميع في هدوء ويتابعون بنظرهم النجوم وهي تنتقل من منزلة إلى أخرى حتى تطل الأسئلة المشروعة برأسها، وتبدأ الذاكرة الفردية ومن ثم الجمعية في العمل بأن هناك حقوق اخرى لابد من نيلها. هذا لا يتفق والبنيان الذي تراص ولزمن حتى أصبح صلداً، هذا ما يحدث شرخاً في إيديولوجيا مدرسة الرأي الواحد. إنه التنوع وحقه في إيجاد مساحة له.

لذلك ظل هناك أيضاً سؤالاً استنكارياً آخر يدعم به الإنقاذيون خطابهم: "القضية قضية دين وجهاد يا رجل، كيف تجرؤ..؟؟" هذه قمة عنف السلطة وذروة ما يمكن بلوغه من استغلال للدين لبلوغ مصالح دنيوية.

ولكن هل تستمر عباءة الدين ساتر دائم؟ "فالقضية ليست قضية دين وجهاد يا رجل وانظر حواليك لتتأكد. لذلك تجرأت"

المعارضة المجنَّحة

نجحت (الإنقاذ) بفضل وضوح الرؤيا لديها فيما تريد بلوغه وعدم تورعها في استخدام كافة الآليات المشروعة وغير المشروعة دون ان يرمش داخلها جفن ورع أو تقوى، نجحت في إحتلال الأرض الحرام التي كانت في السابق تدار فيها معارك السلطة والمعارضة. وباحتلالها الأرض الحرام، أنشأت حاجزاً قوياً ومصدات قوية لأية محاولة للوصول إلى خنادقها أو محاولة اختراقها.

بدم بارد جداً، قامت بتصفية كل مؤسسات الدولة (الخدمة المدنية، المؤسسات التعليمية، الإعلام والثقافة) من كل البؤر والأوكار الي يمكن أن تصنع فيها المعارضة أعشاشاً لها لتفرخ من الطير ما يقض مضاجع (الإنقاذ)، ويشغلها بمعارك جانبية عن تنفيذ خطتها في أدلجة الدولة.

بدمٍ باردٍ جداً، أجهزت على مؤسسات المجتمع المدني من أحزاب ونقابات واتحادات واحتلَّت فيزيائياً دورها وهياكلها، أرجلها وأذرعها، لتجعلها كسيحة إلاَّ من فعل مؤيد لسياساتها معضداً لأيدلوجيتها متفاعلاً مع أهدافها.

بدمٍ باردٍ جداً، قبضت على خناق المؤسسة العسكرية والأجهزة النظامية والأمنية التي لم تكن بعيدة عنها في العقد الأخير قبل استيلائها على السلطة بصورة أو بأخرى، وبعد أن غربلتها صنعت ما يوازيها من أجهزة استعداداً لمرحلة العنف والقمع.

بدم بارد جداً، تمدد أخطبوتها الاقتصادي ليعتصر من لا يواليها ويخرجه مرغماً من دورة المال والانتاج، ليصبح حكراً عليها دون غيرها.

كل ذلك صاغته مراسيم دستورية ودساتير وقوانين شرعتها لإدارة مصالحها لا لمصالح غيرها، مؤسسِّة لدولتها وممكِّنة لسلطتها ومسخِّرة الآخرين لخدمتها. وضربت بقوة وعنف وجبروت كل من يحاول اختراق المنطقة الحرام مدعية أنها "هي وحدها العليم بما ينفع أهل السودان في عالم الغيب والشهادة، وما على السودانيين إلا الطاعة والاحتذاء" كما اوردنا سابقاً لدكتور منصور خالد.

فقدت المعارضة الأرض الحرام التي كانت تتحرك فيها سابقاً، وفقدت معها أذرعها التي تستجدي الجماهير الوقوف خلفها والمواعين التي من خلالها يمكن تنظيمها وإعدادها لمعركة السلطة، وصارت مجنِّحة تراوح مكانها زمناً طويلاً عملياً، بعد أن داومت على مراوحة مكانها فكرياً وسياسياً. استطاعت (الإنقاذ) أن (تزنقها في خانة اليك).

الكفاح المسلح .. العنف المضاد

الكفاح المسلح صيغة نضالية التزمتها كثير من الحركات والشعوب في العديد من البلدان، خاصة إبان فترة التحرر الوطني. وتواصل الإلتزام بها كوسيلة لمناهضة الأنظمة الديكتاتورية والشمولية. السودان ليس استثناء من الإلتزام بهذه الصيغة النضالية وإن ترسخ في أذهان الكثيرين أن الكفاح المسلح ارتبط بالجنوب وحركاته في فترات الحكم الوطني (ما بعد الاستقلال).

ولأننا بصدد الحديث عن الفترة الأخيرة، فقد كان للجنوب القدح المعلى في تصعيد الكفاح المسلح طويل الأمد ولأسباب ثقافية وجغرافية مساعدة، إذا استثنينا الإنقلابات العسكرية المضادة قبل وبعد (الإنقاذ) والحركات المسلحة المحدودة قبل (الإنقاذ).

ولما (زنقت الإنقاذ، المعارضة الشمالية في خانة اليك) وأعدت من القوة ورباط الخيل لمواجهة (عدو الله) في الجنوب، وانطلقت أيادي أخطبوتها لتتمدد في مناطق خارج حدود السودان. فعلت ذلك وهي مستندة على حائط الدعم الإيديولوجي والمالي الإسلامي العالمي، متقمصة روح الخليفة عبدالله التعايشي الذي أراد أن يدخل الملكة فكتوريا الإسلام ولو بحد السيف.

إعادة المعارضة لقراءة الخارطة النضالية في ظل القمع والعنف اللا معهودين، جعل قادتها يعيدون تشكيل قدراتهم وتنظيمهم خارج الحدود. ساعدهم في ذلك نظام (الإنقاذ) نفسه والموقف الإقليمي والدولي منه، إضافة ل(كعب أخيلها) الجنوب تلك الثغرة النازفة والجرح الذي رفض أن يندمل، خاصة وأن قنوات سالكة مع الحركة الشعبية لتحرير السودان أدت في خاتمة المطاف لانضمامها ل(التجمع الوطني الديمقراطي)، المظلة التي تراضت أطراف المعارضة العمل تحتها.

وفي إطار طموحات الحركة الشعبية التمدد عسكرياً شمالاً، ومناخ الإقليم والعالم المهيأ لحصار نظام (الإنقاذ)، (تخمرت) فكرة العمل المسلح كوسيلة تستخدمها المعارضة من أجل إسقاط النظام، بعد أن كانت فكرة (فطيرة) تعتمل في نفوس الكثيرين. ولكن؟؟؟

الكفاح المسلح مسألة أكثر تعقيداً، وتعقيدها يتجاوز مواضيع كالدعم السياسي واللوجستي والحشد داخلياً وخارجياً، ويتجاوز قواعد الانطلاق والمعسكرات وتكتيكات الحرب من هجوم وانسحاب، بل ويتجاوز هزيمة وإسقاط النظام.

يقول د. منصور خالد في كتابه، السودان أهوال الحرب وطموحات السلام "ولا ريب أن الصادق (يعني المهدي)، ومن يشاركونه الرؤى في السودان، لا يمانعون في أن يلعب الجيش الشعبي والقوى المتوحدة معه، دوراً في إضعاف النظام واستنزافه من بعيد، ولكنهم لا يطيقون رؤيته وهو يلعب دوراً داخل حدود الشمال."

قول صحيح، ولكن في تقديري أن السبب الرئيسي لذلك يكمن في أن العمل المسلح يحدث حراكاً اجتماعياً وسياسياً، ليس في صالح كثير من القوى التي تبنته مما جعلها تضع عراقيل كثيرة في سبيل نجاحه، وهي تكتشف كل يوم حجم الخسائر في رصيدها لصالح التوجه نحو بناء دولة لا تحقق مصالحها كما تشتهي. وهو واحد من دوافع السيد الصادق المهدي للخروج بحزبه من التجمع الوطني، خاصة وأن هذا العمل ليس له فيه النصيب الأكبر وهو يرى حشود الحركة الشعبية تتمدد في الجبهة الشرقية، في الوقت الذي فشلت فيها دعوته لأنصاره (بالهجرة) إليها لإعادته رئيساً لحكومة (شرعية).

وليس ما سبق ببعيد عن السيد الميرغني، كما يقول الأستاذ فتحي الضو في كتابه، السودان.. سقوط الأقنعة "لقد حاول رئيس التجمع (يعني مولانا الميرغني) التخلص من العبء الثقيل الذي وضعه العمل العسكري على كاهله قبل ذلك بكثير، وقد أعيته الحيل، التي لم يُجدِ صنعها، في تحقيق ذلك الهدف.." ويروي الأستاذ فتحي أن أحد نشطاء الحزب الاتحادي صرح في أغسطس 2001 لإحدى وكالات الأنباء عن مماطلة النظام مما يدفع بالمعارضة لتفعيل خياراتها العسكرية، وكيف أن السيد الميرغني ضغط عليه ليضطر لتبليغ ذات الوكالة بـ"أن ما نسبته للحزب ليس بياناً صادراً عنه، وإنما تصريح صادر عني شخصياً ..."

إذاً تبنت بعض القوى السياسية الكفاح المسلح ليس بغرض التغيير السياسي والاجتماعي الذي يمكن أن يحدثه، وإنما مجرد فكرة مثلها كأي إنقلاب عسكري يقوده مجموعة من العسكريين ينجز مهام تغيير السلطة وبسرعة، دون ان يتمكن من النفاذ إلى بنية الدولة التي تخدم مصالحهم. تجاهلوا بذلك ما قد يستغرقه الكفاح المسلح من وقت وما سيحدثه من انقلابات، وفي بالهم قدرتهم السيطرة على انفلاته إذا ما تجاوز الحدود المرسومة له والدور الذي ينبغي أن يؤديه.

فعلاً نجحت تلك القوى –جزئياً- في السيطرة على أي إنفلات غير متوقع للكفاح المسلح يمكن أن يؤثر على مراميها المستقبلية. نجحت –جزئياً- بمجهوداتها وقدراتها وساعدتها التغيرات الدولية والإقليمية إلى حد بعيد في ذلك. أقول نجحت جزئياً لأن الكفاح المسلح، وبرغم جدية القوى الأخرى التي التزمت به، لم يسر إلى نهاياته المرجوة في تغيير بنية الدولة، بل أبقاها كما هي ذات الدولة التي بنتها وتسيطر على مفاصلها (الإنقاذ).

لكنها لم تنجح (للآخر)، إذ اخترقت قوانين الكفاح المسلح قواعد اللعبة السياسية في السودان، ونجحت في إقصاء تلك القوى حتى الآن على الأقل، بينما احتلت بعض القوى التي تبنت الكفاح المسلح (الحركة الشعبية، حركة تحرير السودان، جبهة الشرق) موقعها من السلطة دون إحداث أي تغيير في بنية الدولة، بل يمكن القول أن الحركة الشعبية لتحرير السودان، أكبر شركاء المؤتمر الوطني (الإنقاذ) الذي جاءت به اتفاقية نيفاشا، صارت الوجه الآخر ل(إلإنقاذ) في الجنوب تتحكم فيها إيديولوجيا المال وتتحكم فيه بعنف السلطة. لكنها أضل سبيلاً لافتقارها لآليات وقدرات المؤتمر الوطني في إدارة الدولة والسلطة (بطريقته)، في غياب قدرات وبرنامج واضح الأهداف والمآلات وهي تواجه ما دمرته الحرب على الصعيد التنموي والاجتماعي.

ولكن ما هو أكيد أن الكفاح المسلح، برغم العثرات والعقبات التي واجهته، أفرز واقعاً سياسياً واجتماعياً مغايراً -بدرجة ما- عن ما كان عليه قبل الإنقاذ. لكنه واقع يصعب ضبطه ووضعه في سياق تطور إيجابي لعمليات التحول السياسي والاجتماعي التي تفرزها الثورات المسلحة ذات الأهداف والبرامج الواضحة، حيث تبدأ عمليات التحول من بنية الدولة وأجهزتها التي تدار معركة التغيير بواسطتها.

ما أفرزه الكفاح المسلح وغير المسلح ضد دولة ونظام (الإنقاذ)، وكل الاتفاقيات التي وقعت تحت ضغوط معلومة وليس عن رضا وقناعة بأهميتها -شئنا أم أبينا الاعتراف بذلك- أفرز حكومة (وحدة وطنية) كسيحة غير قادرة على لعب أي دور في إحداث تغييرات أساسية على مستوى إيديولوجية الدولة وما تمارسه السلطة من عنف وقمع، لسيطرة الإنقاذ عليها. كما أفرز هيئة (تشريعية)، لا تزال تحمل اسم المجلس الوطني، بطعم ونكهة (الإنقاذ) يلعب آخرون فيه أدواراً توحي بأن تغيراً ما قد حدث، فبدلاً من مجلس (الإنقاذ) الوطني الذي كان (زيتهم في بيتهم) لا يشاركهم فيه أحد، صار هناك آخرون دون قدرات لإحداث تغييرات حقيقية.

أما اخطر إفرازات الكفاح المسلح وغير المسلح في اعتقادي هو محاولات (الإنقاذ) الترسيخ لنظام سياسي يضمن لها البقاء الدائم في السلطة، ويحافظ على دولتها وبالتالي مصالحها. وهو نظام ستحاول أن يلعب فيه الآخرون (باتفاقيات أو دون اتفاقيات وبضغط التوجهات الدولية) دور مسمار التنفيس في طلمبة جاز (الإنقاذ)، تفتحه كلما ازداد ضغط الهواء داخل أنابيب الضخ السياسي للتفريغ. أو هو أشبه بالنظام السياسي في مصر الذي فرضه واقعها (أي مصر)، متجاهلة التركيبة الجغرافية والاجتماعية والثقافية الأكثر تعقيداً للسودان مما سيزيد من تعقيدات الوضع السياسي مستقبلاً.

تصريحات قادة دولة (الإنقاذ) المتناقضة في ظاهرها حول بقاء الإنقاذ، وأن لا تغيير في جوهرها كما يظهرها من يطلقون عليهم المتشددون، وحول أن الإنقاذ ستتصل وتواصل اتصالاتها ببقية القوى السياسية من أجل توحيد كافة الجهود، لا تكشف عن تناقض جوهري إذا ما قرئت مع ما سبق.

إن الحالة السودانية أكثر ما يميزها كثافة التنوع على كافة المستويات اللغوية والدينية والثقافية والاجتماعية، الشيء الذي يستوجب قراءة سياسية واجتماعية وثقافية مختلفة، فيها كثير من الابداع والخلق، قادرة على استيعاب هذا الموزاييك في تناغم تام داخل إطار واحد. فقط لندع هذا الحشد من التنوع هو الذي يخلق وينسج إطاره، لا أن نفرضه عليه حسب  منطلقات مصالحنا وأهواءنا وأغراضنا.

ولكن ذلك يتطلب دولة متماسكة وقادرة على استيعاب كل ذلك التعدد والتنوع، معبرة عن جميع جزيئاتها إن لم أقل ذراتها. دولة بعيدة عن مفاهيم الإقصاء والتعصب، وهو ما لا تعبر عنه الدولة السودانية ببنيتها الحالية، وحسناً فعلت (الإنقاذ) إذ بلغت بها أعلى مراحلها التي تستوجب إعادة النظر الجادة في إعادة بنائها موحدة، قادرة على استيعاب متطلبات المرحلة القادمة، أو لتتفرق أيدي سبأ.

لا دولة (الإنقاذ) ولا سلطتها ستتغير من نفسها، ولا من رصوا بنيانها لديهم الرغبة في تغييرها إلا بمقدار ما سيحافظ على مصالحهم إن وجدوا لذلك سبيلا. وكما تقول إحدى النكات عن واحد من المطربين المشهورين تعاقدوا معه على إقامة حفل زواج في إحدى القرى، وقبل الفاصل الأول قدموا له (شاي بي لبن) وهو ليس ببراءة عادل إمام في مسرحية شاهد ما شافش حاجة، فصعد إلى المسرح ليغني أغنية وطنية كررها كل الفاصل. ولما كان الفاصل الثاني وتكرر (الشاي بي لبن)، كرر ما حدث في الفاصل الأول. فصعد إليه أحدهم، تنقصه نشوة طرب، محتجاً: "شنو يا ... ما تغير شوية"، ضحك المطرب قائلاً: "قول لي جماعتك غيِّروا الجوَّة".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق