ملحوظة: هذا المقال كتب في العام 2006، ونشر قبلاً في موقع سودانيز أونلاين وها أنا أنتهز هذه الفرصة لنشره ليأتي مقروءاً مع ما يجري من أحداث آنية.
جان دارك قديسة المسالخ، مسرحية لبرتولد بريخت
إذا كانت الأيدلوجيا لا تتكون من منظومة الأفكار والتصورات
فحسب، بل تنصب على سلسلة من الممارسات المادية والأعراف والعادات وأسلوب الحياة،
وتختلط كالأسمنت، مع بنية مجموع الممارسات الاجتماعية، بما فيها الممارسات
السياسية والاقتصادية. حسبما يقول نيكولاس بولانتزاس في كتابه نظرية الدولة، فقد
استطاعت الإنقاذ أن تؤدلج الدولة بما يضمن لها السطوة والاستمرار -طوال الفترة
الماضية- ولفترة أطول، وأخشى من لعبة الرقمين 1 و 6 وقراءة الودَّاعية للمستقبل
(أتمسك بكذب المنجمون ولو صدقوا).
لنأخذ الأجهزة الأيدلوجية للدولة أو بنية الدولة المفروض
فيها خدمة أهداف عامة تعود بالفائدة، في خاتمة مطافها، للجميع وليس لفئة محددة أو
شريحة معينة. وإذا كانت هذه الأجهزة متمثلة في الخدمة المدنية كجهاز قومي وأحد
الدعائم المكونة لبنية الدولة المنوط به تسيير دولابها، وكذا المؤسسة التعليمية
والجهاز الإعلامي والجهاز الثقافي ثم المؤسسة الدينية، فإنها جميعاً ظلت تتشكل
داخل رحم ورحمة إيدولوجيا الإنقاذ وسلطتها، والتي صارت مظهراً عاماً لأيديولوجيا
الدولة في السودان منذ انقلاب يونيو 89م. أي شخص لا يعرف أبجديات السياسة ولا أصول
العلوم السياسية يعلم ذلك بداهة من خلال التجربة، فهو إن لم يطله التشريد والفصل
التعسفي فقد طاله سوط البطالة، وإن لم يهاجر فقد وقع تحت نيران الفقر، وإن لم تؤثر
فيه المناهج التعليمية فلم يسلم من حصار الجهاز الإعلامي والثقافي.
ولحراسة هذه الأجهزة، وبالتالي تمكين الأيديولوجيا، لابد من
تنظيم الأجهزة المكلفة بحراستها وممارسة العنف الفيزيائي الشرعي، والمتمثلة في
الجيش والأمن والشرطة والقضاء والسجون، إضافة للأجهزة (الشعبية) التي صنعتها خارج
الإطار الرسمي لأجهزة الدولة (الدفاع الشعبي، الشرطة الشعبية).
وهي ـ أي دولة الإنقاذ ـ لا تستطيع إعادة انتاج وتوطيد
السيطرة السياسية بالقمع والعنف لوحدهما، لذلك تستعين بالدين غلافاً لأيديولوجيتها
وتلوين الأجهزة المختلفة المكونة لبنية الدولة بذلك، لإضفاء الشرعية على العنف.
وفي سبيل ذلك جاء مخططها متكاملاً، حتى قبل استيلائها على السلطة، وهي تعلم
المفاصل الواجب السيطرة عليها وكيفية تغذيتها حتى لا ينقطع ماؤها فتتهاوى دعائمها.
نحن أمام دولة مؤسسة على أيدلوجيا أحادية لتحقيق مصالحها،
يحرسها العنف من خلال أجهزة رسمية وغير رسمية، وبقوانين تحكم عملها فصلها (ترزي
قانوني) وحدد علاقتها بأجهزة الدولة الأخرى. الكل يعلم.
إذاً هو استلاب كامل قد حدث لكل مقومات الدولة القومية التي
تتيح مؤسساتها استيعاب الآخر، سياسة وثقافة وتنمية، ويحرم أي تلاقح يفرخ رؤى
مغايرة تحدث شرح في الجدار الأيدلوجي الأسمنتي الذي صبته الانقاذ بواسطة خيرة
مهندسيها. ولأنهم خيرة مهندسيها، لم يتركوا الجدار يقوم على قوائم صلبة فقط، بل وضعوا
مصدات تمنع بلوغ قشرة ذلك الجدار، ترسانة من القوانين المقيدة للحريات، أجهزة تنفذ
تلك القوانين (كلُّوا بالقانون)، ولكن أي قانون؟.
هل يعتقد أحد ما أن (الإنقاذ) لم تضع في اعتبارها، وهي تصوغ
أيدلوجيتها وتعيد تركيب أجهزة الدولة –بعد السيطرة عليها- بناءً عليها، الحراك
الجماهيري والمؤسسات السياسية التي يمكن عبرها أن تتم المقاومة؟ أنا شخصياً لا
أعتقد ذلك، فهي صاغت قوانينها ودساتيرها لتحكم وتتحكم في تلك الجماهير من أجل خدمة
مصالحها فقط، بالتالي فهي تحسب حسابها في كل خطواتها. لذلك فإن العنف الذي تمارسه
هو عنف ضد الجسد وضد العقل، والجسد ليس مجرد عنصر طبيعي بيولوجي، بل هو مؤسسة
سياسية مثلما العقل كذلك، ولا غرابة في "اتباعها الاسلوب الفرانكوي (نسبة
لفرانكو ديكتاتور اسبانيا)، "الصدمة الفجائية" وذلك باستخدام
"العنف بمقدار" ترهيباً، و"الإغراء بإسراف" ترغيباً، وهو
المنهج الذي استمر لعدة سنوات بعد الانقلاب. كما جاء في كتاب الأستاذ فتحي الضو
"السودان سقوط الأقنعة". فالترهيب والترغيب شكلان من أشكال العنف يهدفان
في النهاية إلى السيطرة.
القضية ليست وليدة اللحظة ولا وليدة انقلاب (الانقاذ)، وهو
الأمر الذي فطن له المجتمعون في أمبو الأثيوبية في فبراير 89م. وقبلهم تنادت
الجماهير إلى التصدي لها بأشكال وآليات مختلفة بعضها نجح مؤقتاً، لعدم تبني
الأنظمة السابقة لمفهوم أدلجة الدولة بالكامل واعتمادها على عنف السلطة بشكل أكبر،
واعتمدت على إعادة انتاج وتوطيد السيطرة السياسية بالقمع والعنف لوحدهما دون
إجراءات منهجية تضبط أيقاع الدولة والسلطة، وانتكس هذا النجاح بفعل اختلال موازين
القوى وتمركز أجهزة القمع في أيدي النخب الحاكمة. وفشل في أحايين كثيرة لغياب
الرؤى الواضحة التي تحدد مآلاته.
الذي توصل إليه المجتمعون في (أمبو) –أرجو ملاحظة أن ندوة
أمبو عقدت إبان الديمقراطية الثالثة- يمثل خلاصة ما ترمي إليه تلك النضالات برغم
أن الإطار الذي وضع داخله كان ضيقاً، فقد توصلت الندوة التي سبقت انقلاب
(الإنقاذ) بأشهر قليلة، إلى أن فترة ما بعد الاستقلال اتسمت الدولة والسياسة
والثقافة بسمات منها ما يلي:
- اشتداد الطبيعة القمعية للدولة سواء أكانت عسكرية أو
مدنية.
- استمرت الطبقات الحاكمة في استغلال الدين لأغراض
السياسة والهيمنة الثقافية وهو أمر انتهى بالدعوة الإسلامية الأصولية.
كما توصل المجتمعون إلى أسباب فشل الجهود الجماهيرية
الشجاعة في تحقيق هدف الوصول إلى السلطة، منها:
- غياب قيادة سياسية قادرة على توجيه الجماهير سياسياً
توجيهاً ملائماً.
- عدم وجود برنامج موحد للقوى الوطنية الديمقراطية يحدد
أهدافها المشتركة ويوضح وسائل تحقيقها.
- عدم وجود دعم مسلح منظم مناسب في تلك اللحظات الحرجة
يتماشى مع هدف الوصول إلى السلطة السياسية.
وهم توصلوا ـ في إطار قضايا البناء الوطني وبنية السلطة ـ إلى
حقيقة مفتاحية، وهي "أن السودان لم يتشكل تاريخياً كأمة، وهو بلد متعدد
القوميات والثقافات، لذا لا يحق لأي قومية من القوميات السودانية ـ أياً كان حجمها ـ أن تفرض هويتها على القوميات الأخرى."
إذاً هناك هوية وهيكل لدولة مهيأة أصلاً لحقنها بمزيج
إيديولوجيا (الإنقاذ)، وهي ساهمت في تشكله إلى حد كبير عبر تطور الدولة السودانية
ما بعد الاستقلال، أثناء كمونها وتكونها وانتشارها بتوسيع رقعة العباءة الدينية
التي تكسو كعبة الدولة، وعينها على تمكين نفسها مالياً وعين أخرى على السلطة
الساعية لبلوغها بشتى السبل.
في مقابل ذلك هناك قوى جماهيرية كانت ترى ذلك، ولكنها لا
تقوى على فعل شيء في إعادة تشكيل وبناء الدولة بما يحقق تمتع الجميع بحقوقهم فيها،
على مستويات الحقوق المختلفة، في ظل غياب تلك القيادة السياسية القادرة على توجيه
الجماهير توجيهاً سياسياً ملائماً، وكذا غياب ذلك البرنامج الواضح الذي يمكن تعبئة
الجماهير خلف أهدافه.
من بنية السلطة إلى بنية المعارضة
مشهد عام
السلطة التشريعية، السلطة التنفيذية، السلطة القضائية؛ تلك
هي السلطات التي تحدد كيفية ضبط وإدارة دفة الدولة وتصدر من اللوائح والقوانين
والدساتير ما يحكم العلاقة بين أجهزة الدولة المختلفة والسلطة وما يحكم العلاقة
بين المواطن والدولة والسلطة.
بقراءة عامة لكيفية تشكل هذه السلطات عبر مسيرة الدولة
والسلطة ما بعد الاستقلال وما قبل (الانقاذ)، نلمح أنها إما خاضعة لقواعد ممارسة
ديمقراطية تعتريها كثير من السلبيات مما يجعلها مشوهة في كثير من مناحيها، ومثال
واحد لذلك ما يقول الاستاذ محمد إبراهيم دريج في مداولات ندوة برجن ـ فبراير 1989م ـ "إن معظم الناخبين الذين أتوا بحزب الأمة إلى السلطة هم يمثلون الغرب، ولكن
مع ذلك فالوزراء الذين يأتي بهم حزب الأمة هم من النوبيين وليس من دارفور، إن من
ترشحه القيادة الدينية للحزب يتم انتخابه، حتى ولو كان هناك مرشح من المنطقة
نفسها، ومن القبيلة، التي ستصوت للشخص الذي تأتي به القيادة بسبب الانتماءات
الدينية". ويبرز موريس ديفرجيه موضوعاً مهماً في كتابه الأحزاب السياسية،
سنعود إليه في موضع لاحق، إذ يقول "تتعلق درجة فصل السلطات بنظام الأحزاب
أكثر مما تتعلق بالأحكام التي تنص عليها الدساتير"
أو هي تتشكل مع إيقاع المارشات العسكرية، حيث لا حدود تفصل
بين التشريع والتنفيذ والقضاء. ثم يخفت صوت المارشات رويداً رويداً في عملية
مونتاج تبدأ بذلك ال fade، لتتداخل
إيقاعات مختلفة تطل من خلالها رقصة الحزب الواحد، والرئيس الواحد وفي الأزمات
تختلط الأمور ليصبح الأمر جيش واحد.. شعب واحد. ويتأرجح البهلوان ذات اليمين وذات
اليسار، أيهما تمنحه القرعة ضربة البداية. وتبقى نشوة الاستيلاء على السلطة
والسيطرة عليها بلا توجه محدد، أو لنقل بتوجه يحاول استدعاء الجماهير إلى صفها من
أجل المحافظة على استمرارها. ويبدل الجنرال بذته العسكرية المرصعة بالنجوم بعد أن
يرقي نفسه، يبدلها مرة بالجلابية أو أي زي محلي آخر وأخرى ببدلة أفرنجية أنيقة، ويعيد
بذته العسكرية سيرتها الأولى كل ما ضاقت واشتدت الخطوب والإحن.
في كلتا الحالتين لم يهتم راكبو حصان السلطة بإحداث تغييرات
دراماتيكية حادة في بنية الدولة، بقدر اهتمامهم بالمحافظة على السلطة واعتمادهم ـ كما
قلنا سابقاً ـ على إعادة انتاج وتوطيد السيطرة السياسية بالقمع والعنف لوحدهما.
استفادت الجماهير ومؤسسات العمل المعارض تماماً من تلك
الأرض الحرام في معاركها مع السلطة برغم العنف، والأرض الحرام هنا هي تلك المساحة
ما بين السيطرة السياسية بالقمع والعنف لوحدهما والسيطرة الأيديولوجية على بنية
الدولة.
في ظل الحالة الأولى، فورة الخروج من دائرة الدولة
المستعمرة يلقي بتداعياته على المشهد السياسي عموماً، وحماس المؤسسات الحزبية
يلتقي في أعلى درجات رسمه البياني مع درجة حماس الجماهير المفعمة بتلكم الروح
الوطنية التي قادت في خاتمة المطاف إلى الاستقلال. يقول د. محمد سعيد القدال في
كتابه (تاريخ السودان الحديث) "تفاقمت أزمة الإدارة البريطانية في السودان
عام 1952. فقد أصبحت في عزلة، ولم تعد الجمعية التشريعية ذات وزن، كما واجهت حركة
شعبية متصاعدة خصوصاً بعد أن بدأ المزارعون يتحركون نحو تنظيم أنفسهم".
بدا المشهد المعارض في ظل الحكومات الأولى ـ ما بعد
الاستقلال ـ حيوياً، لقابلية ورغبة الجماهير في الحشد والتعبئة وتطلعها إلى
المشاركة الفعلية في العملية السياسية. ولكن خاب أملها في رموزها وهي ترى نوع
الصراعات التي يخوضونها باسمها، في البرلمانات سواء من الاحزاب الحاكمة أو التي
تمثل المعارضة، فالأولى تدير الأمور لصالح بقائها في السلطة والأخرى تديرها لصالح
بلوغها، دون الالتفات لإدارة التنمية وتحقيق الاستقرار. يكتب العميد عصام الدين
ميرغني في (الجيش السوداني والسياسة) "تجاذبت السودان صراعات الأحزاب
السياسية الحاكمة في تغليب مصالحها الذاتية، وبغياب كامل لتطبيق استراتيجية قومية
يصطف خلفها كل الوطن لتحقيق التنمية والاستقرار الدائم. بدأت ظاهرة الانقسامات
الداخلية في الأحزاب، وظاهرة التصدي النقابي المطلبي ـ السياسي، وكلاهما معاول هدم
في نظام ديمقراطي غير متماسك."
وفي ظل الحالة الثانية، راهن أصحاب القبعات الخضراء على
هشاشة النظام الديمقراطي الذي أفرز حكومات كسيحة، كما راهنوا على انحسار التأييد
الجماهيري لها أو لمعارضيها وهم ينفذون مخططاتهم للاستيلاء على السلطة. وبرغم أنهم
استولوا على السلطة بدعم ومساندة أحزاب هي جزء من إفرازات ذلك النظام الديمقراطي
الهش، إلاَّ أنهم لم يخروجوا من دائرة السيطرة السياسية على السلطة ومتطلبات ذلك،
فيما ظلت بنية الدولة كما هي أو دهنت بطلاء خفيف لا يغير من جوهر الأمور شيئاً.
وحيث لا جديد في الأمر، تستعيد الأحزاب السياسية المتضررة –من
استيلاء أصحاب القبعات الخضراء- أنفاسها، لتبدأ في تشكيل تحالفاتها ضد ما هو قائم.
وأول ما تبدأ به هو مخاطبة الجماهير ثم الحديث باسم الجماهير، والجماهير تنظر بعين
الريبة والشك وهي المكتوية بنيران كل الأنظمة. رغم ذلك تتغلغل المؤسسة السياسية في
مواعين العمل الجماهيري من نقابات واتحادات، وفي إطار الصراع العام ضد النظام
القائم –أياً كان- تصطرع فيما بينها للفوز بغنيمة المستقبل، وفي غمرة ذلك تنسى
قضايا الجماهير الأساسية. ويزداد الخناق على الجماهير إلى أن ينفجر غضبها المتراكم
وهي تنظر تحت أقدامها وأمامها، فيما المتأنقون فكرياً وسياسياً ينظرون إلى الثمرة
أعلى الشجرة وقد حان قطافها والكل توَّاق لقطفها.
للمعارضة بنيتها، وهي بنية مهتزة هياكلها ومتباينة رؤاها،
لذلك ظلت بنية قائمة على رد الفعل في مستواها العملي ومتأثرة بذلك الاهتزاز
والتباين، أكثر منها بنية قادرة على التغيير الحقيقي على مستوى الدولة والسلطة.
ويمكن النظر لهذه المسألة من زاويتين، قمع السلطة ومحاولاتها طمس أي معالم
للمعارضة، وعجز المعارضة عن وضع برامج تؤسس لدولة قادرة على النهوض بنفسها وسلطة
قادرة على قيادتها إلى ذلك. وعندما أقول عجز المعارضة فأعني إنها تقف عاجزة عن
الفعل الإيجابي تجاه القضايا الوطنية الكبرى حتى عندما تمكنها الظروف من بلوغ
السلطة، لأنها أصلاً مفتقرة لرؤية واضحة لإيجاد حلول مرضية لتلك القضايا، أو لنقل
إنها تعالجها وفق ما يحقق لها مصالحها الحزبية لأنها ليست "لديها عين
النسر" كما يقول القاص د. بشرى الفاضل، فهي لا تنظر أبعد من مستوى خطوتها
الآنية.
ظل الصراع محصوراً في كيفية الوصول إلى الحكم، وفي ظل غياب
تصور متكامل لكيفية إدارة السلطة لأجهزة الدولة لتحقيق الاستقرار وبرامج التنمية.
وهو قصور طبيعي إذا دققنا النظر إلى داخل بنية المعارضة أو حتى السلطة.
تركيبة المعارضة ظلت غريبة سوى على مستوى الحكم المدني أو
العسكري، لذلك من السهل تفكيكها والنفاذ إلى قراءة التفاعلات داخلها.
لنأخذ هذا المشهد .. برلمان 1986م.. المعارضة (الإسلامية)
.. المعارضة (الديمقراطية) في برلمان واحد. ليس هناك ما يجمع بينهما سوى معارضتهما
للسلطة القائمة، كلاهما يعارض من أرضية مختلفة تماماً.
ثم هذا المشهد.. المعارضة الإسلامية تتحول إلى جانب الكتلة
الحاكمة بعد تعديلات إئتلافية ليتغير منظر عام المعارضة.
ومشهد ثالث.. تتحول المعارضة الديمقراطية إلى صف الحكومة
(السلطة) وتعود الكتلة الإسلامية إلى موقعها في المعارضة.
هذه المشاهد مكررة ولكن ليس برلمانياً، وإنما تعبير عن
تحولات حزبية نفعية استفادت منها السلطة في فترة الحكم المايوي مع اختلافات في
الترتيب الزمني، نذكر كيف بدأ الحكم المايوي وإلى أين انتهى.
ولا استثني من ذلك حتى المعارضة المسلحة في الجنوب –ما قبل
الانقاذ- وقد اتفقت مع نظام مايو بعد ثلاثة أعوام من نجاح انقلابها وحتى العام
1983م الذي انطلق فيه الكفاح المسلح مرة أخرى. وكذا ما أفرزه اتفاق نيفاشا مؤخراً
بعد حرب طويلة الأمد، لم يتعد إطار المحافظة على بنية الدولة لتخدم مصالح الأطراف
الموقعة عليه.
ظلت المعارضة تمارس فعالياتها في عدة حلبات وهي تصارع
السلطة من أجل السلطة، وظل ميدانها الرئيسي أثناء فترات الحكم (الديمقراطي) هو
البرلمان. والوصول للبرلمان اتخذ طرقاً متعرجة لا علاقة لها بالنهج الديمقراطي
خاصة بالنسبة للأحزاب التي تداولت السلطة، وهي أحزاب هشة ديمقراطياً، تفتقر إلى
ديمقراطية صنع واتخاذ القرار داخلها لأنه لا بنيتها التنظيمية ولا الفكرية تحتمل
ذلك النهج.
ولكن ماذا فعلت (الإنقاذ)؟
عدة أشياء، أهمها استفادتها القصوى من النهج الاقصائي للحزب
الشمولي وبنيته التنظيمية، ومن المفهوم الحزبي الغربي (بالتحديد الأمريكي) ونهجه
البراغماتي و"أن غاية أي حزب هي بلوغ السلطة أولاً". وإذا كانت في
أمريكا تتحكم اللعبة الديمقراطية ومؤسساتها الراسخة في بلوغ حزب ما السلطة بعد إقناع
الناخبين ببرامجه المقترحة لحل القضايا على كافة مستوياتها، فإنها ليست شرطاً
ضرورياً في بلدان العالم الثالث والسودان أولها.
ولكنها ذهبت إلى أبعد من ذلك كثيراً، أو كما يكتب د. منصور
خالد في كتابه السودان أهوال الحرب وطموحات السلام "الجبهة، من الجانب الآخر،
لها مشروعها الخاص لإعادة تشكيل السودان، لم تفاوض في أمره أحداً في بداهة الأمور،
ولم تتوافق بشأنه مع جماعة في أعجازها. هي وحدها العليم بما ينفع أهل السودان في
عالم الغيب والشهادة، وما على السودانيين إلا الطاعة والاحتذاء".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق