في محبة أختي إيمان .. نحو علم اجتماع للموت

غداً، الاثنين 13 مارس 2023، نحتقل مع مرام عمر الأمين إبنة أختي المرحومة إيمان بمناسبة تخرجها من جامعة الخرطوم كلية الاقتصاد والعلوم الاجتماعية بمرتبة الشرف، وبعدها بأسبوع تحل علينا الذكرى الثانية لرحيل أختي. آثرت أن أجري تحديث على ما كتبته آنئذ عن تأسيس علم اجتماع الموت بإضافة هذه المقدمة التي نشرتها قبل عام.
في استشراف أفق لوضع إطار نظري للتأسيس لعلم اجتماع الموت، هناك الكثير من الأمثلة، على الصعيد الإنساني بما فيه المحلي، تطرح أسئلة يمكن البحث فيما وراءها.
أسئلة كبرى يمكن من خلالها اختبار مفاهيم نظرية من شأنها ان تشكل إضاءات وإضافات فعالة تخرج من صلبها ملامح هذا العلم. وهناك أسئلة صغرى لا تقل أهمية في بحثها عن صياغة تلك الملامح وموضعتها في سياقاتها المرجوة.
مثال محلي: عادة ما تساءل الناس عن موت د. جون قرنق في ذلك الحادث المشؤوم، وقتلوا قصة موته بحثا لإثبات وجهة نظر كيف ولماذا مات وهل قتلوه؟
ينتهي البحث عند هذا الحد، في الوقت الذي ينفتح ذلك الموت على أسئلة كبرى، ذات علاقة وطيدة بعلم الاجتماع.
أسئلة ارتبطت بحادثة الموت نفسها، تنطلق من أحداث الاثنين، عقب اعلان موت قرنق، ولا تنتهي بردود الأفعال الي تلتها.
أسئلة ارتبطت بوجود الوطن، وتأثير الغياب المفاجئ للميت وخلفيته الفكرية والثقافية على قضايا مصيرية مثل انفصال الجنوب واستقلال جنوب السودان.
هذا نموذج يفتح الأبواب على نماذج كثيرة جدا في التاريخ الإنساني، غير الموت فيها من مصائر إلى أخرى غيرت قواعد اللعبة الاجتماعية واستولدت قواعد مختلفة جديدة كان لها التأثير المباشر على التاريخ الاجتماعي وعلى طبيعة التطور الاجتماعي، ونقلته من مربع إلى آخر مما يجعله مستفزا للبحث فيه.
1
عندما بدأ علم الاجتماع في إرساء قواعده، كعلم حديث، منذ منتصف القرن التاسع عشر، على أيدي علماء الغرب من أمثال دوركهايم وفولبير وغيرهما من المهتمين بدراسة أحوال الاجتماع والمجتمع، وجد نفسه متصلاً وملتصقاً بكل العلوم ذات الصلة بالحياة ومتغلغلاً في روح كل العلوم الاجتماعية، فالاجتماع يعني الحياة في منظورها الشامل. لكن ما لم يستطع النفاذ إليه، ولم يتمكن من إيجاد موطئ قدم له بين ظهرانيه، هو الموت. إذ لم يقترب أحد من علماء الاجتماع من الموت كعلم يستحق دراسة تداعياته، ولم أسمع أو اقرأ ما يمكن أن يطلق عليه علم اجتماع الموت، على غرار علم الاجتماع السياسي أو الاقتصادي أو علم النفس الاجتماعي أو علم الاجتماع الريفي أو الحضري أو الأسرى أو الصناعي وغيرها من العلوم المتصلة به.
ربما خشي هؤلاء العلماء الاقتراب من هذه الدائرة، رغم أن طبيعة علم الاجتماع هي دراسة الظروف المحيطة بالمجتمعات وسبر اغوارها، والموت يمثل حقيقة أزلية منذ نزول أبينا آدم إلى الأرض وقتل هابيل لأخيه قابيل.
بطبيعة الحال ليس مطلوبا من علم الاجتماع دراسة الموت كفعل فسيولوجي يكتمل بخروج الروح عن الجسد، ولكن دراسة الموت كفعل ذو تأثير اجتماعي، ولأن علم الاجتماع معني بالحياة فإن حقيقة الموت جزء من الحياة، ولعل قول الله تعالى "ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب“ تنفذ مباشرة ودون مواربة إلى هذه الحقيقة. وتلهمنا سيرة الإنسان عبر التاريخ للانتباه لهذا الأمر.
2
نصب الموت شراكه حول أختي إيمان منذ سنوات، بعد أن قضى الله تعالى أن تصيبها لوثة من المرض اللعين، السرطان. وعلى الرغم من هول الصدمة وفجاعتها عندما أكدت التحاليل الطبية، وقطعت بوجود المرض، وكان ذلك قبل نحو 6 أعوام، إلا أنها واجهت الأمر بشجاعة بل وبسخرية، وبلغت سخريتها القمة عندما بدأت توصي الجميع خيراً بأبنائها. كانت تلك نقطة ضعفها الوحيدة وكعب أخيل الذي يمكن أن يدخل منه ما يهزمها ويهد من عزيمتها أمام مواجهة مصير محتوم كانت تراه ولا تهابه، فهي أقوى إيماناً بالله ويقينا بحقيقته، لكن أطفالها خط أحمر.
3
ولدت أختي إيمان بمدينة كسلا، ومن طرائف أسرتنا أننا 6 أخوة واخوات كل واحد منا ولد في مدينة مختلفة، لكن الله اختار لها أن تولد في تلك المدينة الرائعة، تنفست روحها الجميلة وطيبة أهلها وجمال طبيعتها، حتى لون بشرتها كان كما "منقة كسلا".
لذلك كانت، وهي التي توسطت أختي الاثنتين في جدول ترتيب الميلاد الأسرى، كانت مختلفة عنا جميعا وقد حباها الله بروح تجمع من حولها ولا تفرق. من سنة الحياة أن يختلف الأخوة وكنت أكبرهم، وحتى الأباء والأبناء، فكانت هي مركز الثقل الذي تنتهي فيه الخلافات وتذوب فيه المشكلات.
ثم انتقلت مع الأسرة إلى مدينة جبيت ومنها إلى بورتسودان، حيث التحقت بمدارسها إلى أن أكملت دراستها الثانوية، وكان مستواها الأكاديمي يؤهلها للالتحاق بالجامعة، ولكنها على خلاف أختيها اختارت أن لا تمضي في هذا الدرب بعد أن تقدم الأخ عمر الأمين العبد للزواج منها عقب الانتهاء من امتحانات الشهادة السودانية.
وعمر هذا شخصية استثنائية، قمة في الأدب والأخلاق والمسؤولية والهدوء. كنت أعرفه مسبقا، إذ كان يسكن مع شلة من أبناء أهله من شباب الرباطاب، منهم من قضى نحبه ولا زالت بقيتنا تنتظر، كنت على صلة بهم امتدت لسنوات، جمعتنا ليالي الأنس نمارس حياتنا بشغف ونجهز لخميسنا كما ينبغي، إلاَّ هو الذي لم يكن على علاقة بتلك الأجواء، رغم ذلك ظل يجالسنا ويمزح على طريقة أهله الرباطاب من افعالنا ويمضي إلى حال سبيله أو يغط في نومه بعيداً. لم أكن أعرف إن عينه على أختي، ولكنه عندما طرق بابنا مع وفد يتقدمه عمنا وجارنا محي الدين، وكان لأبي أن يستشيرني بطبيعة الحال كأكبر أخوانها، لم اعترض أو أرفض فهذه المسألة ظلت ولا زالت بالنسبة لي أكثر تعقيداً من تدخل الآخرين فيها، لذلك آثرت الصمت وإن قلت رأيي فيه بما أعرفه عنه. ومنذ زواجها في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي ظلت مقيمة في بورتسودان، لا تغادرها إلاَّ لماماً في إجازات المدارس في الصيف.
تزوج عمر اختي الجميلة إيمان، وصانها وحفظها واكرمها وأنجب منها 7 من بنت إلى ولد، لم تتدخر وسعا لتربيتهم ليبذوا أقرانهم علماً وأدباً.
4
أم أحمد، تلك الرحيمة البارة بوالديها وأخوتها وأهلها وجيرانها الذي ما التقيت أحداً منهم إلا ويلهج لسانه بالثناء عليها وشكرها.
أحمد الذي تخرج من كلية الهندسة وأمه في ذروة مرضها بعد أن أحكم الموت شراكه حولها، قدر له الله ان يكون شاهداً للحظة خروج روحها عن جسدها، وفي ذلك حكمة ربانية أن يفعل به مثلما حدث معي عندما انتقلت أمي، جدته، إلى الرفيق الأعلى، وتلك الصورة التي لم تبارح مقلتي وعقلي منذ حدوثها قبل أكثر من 9 سنوات، عندما كنت في طريقي إلى البيت بالكدرو شمال، وأثناء مرور الحافلة شاهدت أمرأة تعبر الطريق إلى الجانب الاخر أمام المركز الطبي، وفجأة اذا بها ملقية على الطريق بعد أن صدمتها حافلة كانت قادمة من الاتجاه المعاكس، وبعد أن سارت بنا الحافلة بنحو عشرة دقائق تلقيت اتصالا هاتفيا من شخص غريب بأن أمك أصيبت في حادث وأنهم في طريقهم لمستشفى بحري، وجدوا رقمي في هاتفها وكان آخر اتصال لي بها، لتنتقل بعدها بيومين إلى رحمة الله.
كانت أم أحمد التي دائما ما تختم حديثها معي،، سواء وجها لوجه أو هاتفياً وحتى آخر لحظات من عمرها وهي في قمة معاناتها مع المرض، بأن تدعو لي الدعاء المحبب إلى نفسي "ربنا يعدل طريقك"، كانت تخشى أن يكون مستقبل ابنها مثل خاله، وهي تقرأ في كتاب حياتي المفتوح. معها حق وكل الحق أن تخشى.
أم مرام، ومرام تلك البنت الذكية لا تشبه أحداً ممن حولها، جمعت كل مساخة الرباطاب وسخريتهم، ولكنها قوية وأبية ووفية، وقادرة على تحمل المسؤولية، وهي التي قضت سنوات الجامعة متفوقة على نفسها وعلى واقعها. قدر لها الله أن ترافق امها في كل مراحل مرضها، تحملت ما يفوق طاقة البشر وهي تلازمها فراش مرضها وتجتهد لتتجاوز السنة الرابعة كما اعتادت بتفوق. نعم،، تحملت ما يفوق طاقة البشر وهي تداوي أمها وترافقها في كل خطوة لأكثر من أربعة أشهر، تتألم في صمت وتبكي خفية بعيداً عن أعين الناس كلما وجدت سانحة. كان قدرها أيضا أن تكون بجوارها يوم أن فارقتها الروح. أعلم أن مصابها وفجيعتها هي الأكبر بيننا ولكنها أقوى من الهروب من مسؤوليتها وتحملها لها وهي الكبرى بين أخواتها.
أم علي، وهذا العلي نسيج آخر من رحم إيمان سيشهد له التاريخ بالاستثناء يوم أن يحين موعده مع التاريخ.
أم معزة، تلك البنت الحبيبة المعطونة برائحة أمي. وجعي عليها من وجعك يا بنتي.
أم خالد، لك العزاء يا خالد وأنت الصغير القوى بين كل هذا الضعف، وتأكد أن الضعف في هذه اللحظات ليس عيباً، أبكي كما يبكي الرجال، ثم كفكف دموعك واحمل حقيبتك وأمضي إلى مدرستك وحقق رغبة أمك في التفوق هذا العام، فأنت لم تخذلها قط ولن تخذلها الآن.
أم منية، كنت منيتها وختامها يا منية ولكن شاءت الاقدار أن تموت جدتك التومة وتحبل أمك لتبقى ذكراها.
أم التومة، تلك الصغيرة أكبرنا الآن وهي تتجاوز بنا أحزاننا إلى تقبل أمر الله في وفاة أمها.
5
بأي عين أبكيك يا إيمان، ومن وجعي عليك كنت أهرب من لقائك، لم أكن أحتمل كل تلك الآلام التي عانيتها. منذ وصولك الخرطوم قبل 5 أشهر وأنا أجلس بجوارك وأمسح على قدميك وأنظر إلى عينيك، كنت أدرك مثلما كنت أنت تدركين بأن الوقت قد أزف. لم يفارق لسانك الحمد لله التي كانت تزيدك قوة وصبرا، الحمد لله التي كانت تضيء وجهك رغم عتمة المرض وآلامه. وعندما تفاقمت الحالة صرت هارباً أكثر كلما ترين وجهي تبكين وأنا أتمزق وأهرب أكثر، إلى أن جأني اتصالك الأخير، عندما طلبت مني وجبة سمك "مشتهية لي سمك"، لحظتها أدركت أن الموت قد أحكم نصب شراكه.
6
علم اجتماع الموت يأخذ قوته من التشبث بالحياة، فهو يقيم مؤسسته التي تستحق الدراسة مما يحيط به من اجتماع. يغير واقع حدوث فعل الموت وقائع اجتماعية كثيرة، ويؤثر في جماعات ومجتمعات بل ودول، وتظهر داخل الأسر والعشائر بشكل أكثر سطوعاً. إذ يعيد الموت صياغة العلاقات بين الأفراد والجماعات بشكل جديد، يمكن أن يكون أكثر إيجابية أو العكس.
فبالنظر إلى كثير من متغيرات حدثت في التاريخ نجد أن مؤسسة الموت كان لها الدور الرئيسي في هذه المتغيرات والتحولات، وهو ما يستوجب إنشاء فرع متكامل في علم الاجتماع لدراسته. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق