التلغراف يلحق مدينة نيالا بركب الثورة

أكتوبر 21.. حكاوي منسية

أمير بابكر عبد الله

 

على عكس الثورات اللاحقة، أبريل 85 وديسمبر 2018، لم أكن شاهداً على ثورة أكتوبر 1964 بحكم السن إذ كنت حينها لا أزال أحاول تجربة المشي على قدمي متعثراً مرات، وربما مرات قليلة أصل لغايتي دون الارتطام بالأرض، وما هو أكيد كوني فرحاً بذلك الإنجاز ضاحكاً ملء فيَّ. صادف ذلك الوقت أن كان والدي، متعه الله بالصحة والعافية، مفتشاً في هيئة السكة الحديد بمدينة نيالا عاصمة مديرية دارفور في بدايات عهده الوظيفي.

كثيراً ما أجلس إليه مستمتعاً بحكاوي ذلك الزمان التي لم نعشها تجربةً حيَّةً. ومن بين الحكاوي المنسية التي لها متعة خاصة هو ما سأرويه على لسانه هنا عن ثورة أكتوبر التي أطاحت بحكومة العسكر التي كان على رأسها المرحوم الفريق إبراهعيم عبود وقصتها في مدينة نيالا، إحدى أهم  واكبر مدن دارفور والمرتبطو وريدياً بخط سكك حديدية رئاسته في المنطقة الغربية مدينة بابنوسة التي يوجد على رأسها مأمور إدارة.

الصورة: من السوشيال ميديا

في انتفاضة أبريل 85 كان للاتصالات دوراً مقدراً في تنظيم الصفوف والتنسيق بين الأطراف لتنفيذ العصيان المدني والإضراب السياسي في مدن مختلفة في السودان، أما في ثورة ديسمبر 2018 كان للاتصالات بوسائلها المتعددة بعد الانفجار التكنولوجي الكبير الدور الحاسم في بلوغ أهم محطاتها في الإطاحة برأس النظام الحاكم، وربطت كل المدن في السودان وأقاليمه المختلفة للخروج في المواكب والتظاهرات في توقيت واحد وبشعارات موحدة.

وأيضاً على عكس انتفاضة إبريل 85 وديسمبر 2018، كانت أطراف السودان تجد صعوبات كبيرة في التواصل السريع في مثل هذه الحالات. فكانت الخرطوم ومدن مثل عطبرة ومدني قريبة من الحدث لسهولة التواصل بينها، كانت مدنية مثل نيالا في أقصى الغرب ومدن اخرى في الأطراف بعيدة عن مركز الحدث. تشهد على ذلك رواية والدي.

ففي الوقت الذي شهدت الخرطوم صعود ذروة الأحداث يوم الأربعاء 21 أكتوبر التي فجرتها ندوة جامعة الخرطوم وما ترتب عليها من تداعيات كانت مقدمة للإطاحة بالحكم العسكري الأول، كانت مدينة نيالا تنام هادئة تلك الليلة مثلها مثل مدن أخرى. إلى أن جاء ظهر الجمعة 23 أكتوبر، حين كانت مجموعة من العاملين بالسكة حديد يقضون قيلولتهم بالقرب من مكاتب الهيئة البعيدة نسبياً من المدينة وقتها. وفي تمام الثانية بعد الظهر وصلت إشارة عبر مكتب التلغراف من محطة سكة حديد الرهد، ملخصها أن جبهة الهيئات أعلنت العصيان المدني والدخول في إضراب عام من أجل الإطاحة بالحكم العسكري الذي يترأسه الفريق عبود.

لم تكن هناك نقابات بالمدينة تواكب الزخم الجماهيري في المركز. كان على والدي، وهو المسؤول الأول في السكة حديد بالمدينة الاتصال فوراً برئيسه في بابنوسة، وهو ما حدث فعلاً. وكان الاتصال بغرض ترتيب الأوضاع قبل إعلانه الإضراب كمسؤولية فردية، وناقش معه وضع المحطات المنتشرة ما بين نيالا والضعين وبابنوسة والعاملين فيها، حيث كان لا بد من تسيير قطارات لتوصيل المياه إلى تلك المحطات حتى أثناء الإضراب. وكانت السكة الحديد تسير قطارات بعربات مخصصة للمياه لتزويد منسوبيها في المواقع البعيدة، وتم الاتفاق على جدول لتسييرها دون التأثر بالإضراب.

من لحظة تلقيهم إشارة التلغراف وإلى حين وضع تلك الترتيبات، أعلن العاملون في محطة السكة حديد بنيالا، وهي النقابة الوحيدة المنظمة في المدينة رغم قلة عددهم، الإضراب العام والعصيان المدني دعماً لموقف جبهة الهيئات في الخرطوم. وكان العاملون في مثل تلك المدن، ومنها نيالا بطبيعة الحال، وخاصة قيادة العمل في الخدمة المدنية والأجهزة الأمنية والعسكرية يعرفون بعضهم البعض. كان الحاكم العسكري لمديرية دارفور في ذلك الوقت هو الرائد إبراهيم محمد إبراهيم، وكان بطبيعة الحال على علاقة لصيقة بوالدي وبقية القيادات في الخدمة المدنية بحكم وظائفهم.

بدأت الاتصالات سريعاً في ليلة الجمعة تلك، التي قادها العاملون في السكة حديد، بالأطراف الأخرى ولم يكن هناك سوى مستشفى نيالا الذي كان على رأس إدارته الدكتور شاكر السراج، والعاملين في شركة شل للبترول وفي قفيادتهم محمد التاي من أبناء دارفور. ونشطت الاتصالات بين المواطنين للترتيب لمسيرة كبرى في المدينة للمطالبة بحل المجلس العسكري الحاكم.

استيقظت مدينة نيالا يوم السبت 24 أكتوبر 1964، وهي تمور بحركة نشطة، إذ تجمع حشد كبير من المواطنين والعاملين في المرافق الحكومية، في تظاهرة كبيرة كان شعارها الرئيسي هو المطالبة بإسقاط الحكم العسكري وتأييداً لجبهة الهيئات. كان يوماً مشهوداً في المدينة التي لحقت بركب الثورة، وأهم ما كان يميز تلك المسيرة هو الإلتزام التام بالسلمية، إذ شدد منظموها وقادتها وهم يحملون مكبرات الصوت على عدم التعرض للمنشأت الحكومية ولا لأي منشأت خاصة.

ولعل أهم ما ميز ذلك اليوم هو التزام كل الأطراف بالسلمية، إذ كانت عربات الشرطة تتابع التظاهرة وتحميها. ورغم أن قادة الخدمة المدنية كانوا يعلمون ما ينتظرهم من إجراءات قد تصل إلى حد الإعدام في حال تعثر خطوات الثورة وعدم بلوغها غاياتها في نهاية المطاف، إلا أنهم كانوا يتقدمون الصفوف وينظمونها ويعملون على تمساكها والتزامها بشعارتها وخطوط سيرها إلى أن وصلت إلى مبنى الحاكم العسكري في المدينة.

  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق