فقاعات زمن التصحر - رواية - الفصل الأول

الفصل الأول

المساءات وقتها فرحة نديّة وممكنة التعاطي.. حتى العواصف في تلك المساءات تصير إلى التفاعل مع ذاك التعاطي، وتنتهك حرمة السكينة والارتخاء دون أن تخلّف وراءها ضغينة أو حقداً من نوع ما. بل وفي غمرة انفعالها تدفع إلى الإلتقاء والتقارب.

أول مرة يلتقيها خارج الأسوار في مساء من هذا النوع.. لم يكن اللقاء الصدفة، فهو قارئ جيد يستفزه الغموض والسحر، وهي.. بلون البّن دون احتراق وتفوح منها رائحة الاستواء، أو هكذا أضفت عليها انكسارات أشعة الغروب الباهتة المتساقطة من عمق الأفق البعيد والمنعكسة على صفحات مياه النهر.

صافية في غموض … خجلة في سحر وهي تداعب بقدميها الصغيرتين تيار الماء المندفع على الشاطئ الشرقي. كل هذا وهو يحدق فيها … " ليتني واجد بين مدِّ الموج وجذره سانحة أنفذ منها إليها". وبين جدلية الشواطئ والنهر واندفاع الماء قال لها:- إن الزبد سيدمي قدميك.

وفي نبرة محايدة بعد انعقاد الحاجبين وانهزام ثواني التردد قالت:- لكن دائماً ما يذهب الزبد جفاء.

صفعة قوية ما توقعها جعلت صدره يتراجع حتى شارف السقوط على ظهره. لكنه استقام بذهن متفائل:- حقاً سيذهب الزبد جفاء، لكن دعينا نجعله رمزاً استثنائياً.

أثناء ذلك حلّق طائر قادم من عمق الأفق الضائع في جوف اللانهاية الممتدة طوال سواحل الأزل. ومع اندفاع الماء المتزايد طفرت موجة متمردة على سجن الشواطئ فاستحال السكون موجاً وتناثرت رزازات ماء على صدرها وعلى صدره.

ودون سابق إنذار، وإطارهما بعد تحفه عوالم الدهشة والتردد، قالت له بجفاف :-  تطمح في استعبادي كما فعل أجدادك بأهلي وتتركني عند أول منعطف … لكن هيهات!

احتشدت دفاتر الدهشة داخل صدره. وهو مشغول بتقليب صفحاتها انسلت ايفا تجري.. لا ليس جرياً بل هي الهرولة ، لا تسبق الريح … لا الريح تسبقها. ونسمة حملها تيار النهر تحاول اللحاق بها.. اكتفت برفع تنورتها إلى اعلى الركبة قليلاً ليظهر بعض من فخذيها وخطوط أكثر وضوحاً عند المفصل.

- ايفا … ايفا !!!

 صيحة احتبست داخل صدره وهو ينظر حوله، ثم في عمق النهر وإلى أعلى. تساقطت بضع وريقات، ليرتفع عدد الأوراق الصفراء دون إضافة واضحة… أزلية الموت والحياة - لا مناص - كما هي طلائع الخريف. غمرته حالة دفء عندما وقع بصره على سهم كيوبيد وإسمها محفور داخل إسمه في عمق جزع الشجرة.

"عليك اللعنة يا عاهرتي … حتما ستعودين فأنا قدرك". طغت حالته المركبة على محاولات إتخاذ قرار اللحاق بها ليجلس كما كان، متابعاً أثرها وروحه تقفز مع جسده كلما تعثرت قدماها ببعض الأعشاب المعترضة طريقها، لكنها وحشة برّية تجيد تجاوز الحواجز.

أطلق زفرةً عميقة وهو يراها تذوب ما بين ثنايا الحشائش المتطاولة وكثافة الأشجار الممتدة على طول امتداد الشاطئ. زفرة خرجت معها كل الفقاعات، ليبقى الصدر مثقلاً رغم النسمة التي حملها تيار النهر، ولا تزال أطرافها تداعب صدره المملوء إحساسا ضجراً، الشيء الذي جعله يلعن كل شيء والتاريخ والطبوغرافيا والجيوبوليتيكا.

هاهو يضبط نفسه مرّة أخرى لاعنةً كل شيء والتاريخ والطبوغرافيا والجيوبوليتيكا. لم تكن ايفا هاربةً هذه المرّة ولكنها تكثفت لتبدو تلك اللحظة الأزلية جوار النهر وفي ذاك اليوم. امتدت يداه بلا معنىً ودون إرادة منه ليزيحها محاولاً اجتياز المدخل الضيّق إلى حيث يحشرون …

ابتسم مكابراً. المدخل ضيّق جداً لا يتسع لأكثر من شخص وهم يتزاحمون هرباً إليه من خطوة مؤجلة تلوح ملامحها في الأفق.

إنه الخريف … اكتشف هذه الحقيقة عندما أعلنها البرق الخاطف الذي فضح الوجوه الشاحبة وهي تتدافع إلى داخل المبنى. إنه المبنى الوحيد الذي استخدمت فيه ألواح الزنك، مما جعله مميزاً بين تلك المباني التي أعلنت انتماءها للأرض والسماء. ارتجت أرجاء السقف بفعل هزيم الرعد وارتجت معها دواخل البعض. تمييز الرجفة التي تملكتهم ليس صعباً وسط هذا الحشو من البشر … حتى الخوف له رائحة … رائحة لا يخطئها قلب . سبعة وعشرون أسيرا حشروا في هذه الزاوية الضيّقة .

-" تباً "

للمساء الآن مظهر كريه … ولكنها فرصة للإستلقاء بعد يوم شاق قطعوه مشياً على الأقدام ولانتظار الغد إذا لم يفعلوها ليلاً. لكنه لا يزال يفرك عينيه علّه يستيقظ من هذا الكابوس وهو يتقلب على الأرض محاولاً إيجاد وضع أكثر راحة دون جدوى. التصق جسده من كل الإتجاهات بمن حوله، تماماً كما كانوا قبل ساعات في خندقهم عندما اشتد عليهم القصف. الأشياء متشابهة بما يكفي لسيطرة الرعب، وما يغطي على الأنفاس المضطربة في هذه اللحظات صوت إنهمار المطر بغزارة. هو أصلاً لا يعشق المطر … يصيبه بالإكتئاب. وذكرى ايفا تكثفت مرة أخرى رغم العتمة ولكن ما طردها هو صباح الغد. ما الذي سيحدث ؟ سرعان ما سينقضي الليل. لم يتحدثوا إليهم حتى الآن … لا بل لم يستجوبونهم. " ربما ليس لديهم وقت للإستجواب " فكرة تحولت إلى قشعريرة اهتز لها جسده المنهك. عشرة ساعات وأكثر ظلوا يسيرون إلى أن بلغوا هذا الموقع مع مغيب الشمس … ولم يكن التعب والإجهاد قد فارقاه قبلها.

-عليك تولي قيادة هذه المأمورية .

نظر إليه قائد المنطقة العسكرية بعد أن ألقى بجملته تلك في برود ثم تابع:- أنت تعلم يا مجذوب أن هيئة الأركان ستزور المنطقة خلال أيام فلا بد من إكمال التحضيرات اللازمة ودعم الموقع بقوة إضافية بعد نشاط التمرد الأخير.

لا جدوى من الإعتذار فهو قائد ثان المنطقة وعليه القيام بما تقتضيه المسئولية، إنها العسكرية التي اختارها. ثم إنها ليست المأمورية الأولى التي يقودها في هذا الاتجاه، فقط الوضع مختلف وتفصله سنوات منذ أن زار ذلك الموقع آخر مرّة، بل عمل ضمن طاقم قيادته. نظر في عينيّ قائده المحاطتين بهالة سوداء جعلتهما اكثر غوراً مما هما عليه في الحقيقة. "لماذا الآن؟" هز رأسه موافقاً وابتسامة أخفت مشاعر الضيق التي تملكته.

ومع تباشير الفجر انطلقت ثلاث ناقلات جنود وفي مقدمتها عربة مدرعة تقل المقدم مجذوب وقائد القوة. مشاعر الضيق لم تبارحه، وزاد من حدتها تلك الرطوبة العالقة في الجو منذ البارحة… لزوجتها تكاد تثير الغثيان. الصمت في هذه اللحظات مقرف … يزيد من لزوجة الموقف، لكنه منطق غريب ذلك الذي يحكم الآن مما جعله يتململ قليلاً وهو يهم بأخذ نفس عميق من سيجارته. لاذ بالصمت، عثمان ما استهواه يوماً لكي يتحمس لكسر لزوجة الموقف، ولكنه اتخذ وضعاً أقرب للاسترخاء الآن.

-عشرة أعوام ونحن ننعم بالسلام المشوب بالحذر … خير من هذا الوضع إعلان الحرب صراحة. قالها الأب سريليو، وأضاف:--  سنسمع دوي المدافع قريباً … إن شيبي هذا لن يضيع هدراً، تأكد من ذلك.

أشار بأطراف أصابعه إلى شعر رأسه الذي وضع فيه الشيب بصماته بعمق.

بادره مجذوب بغتةً:- لابد وأنك تعلم بأمر يدور في الخفاء!

ضحك الأب سريليو وهو يرمقه بنظرات مليئة بالإشمئزاز:- - ستتهمني الآن بأني طابور خامس … أليس كذلك؟– أضاف – هاك رقبتي، سأتكئ لك … أفرد سكينك واذبحني، هذا قمة ما تشتهون.

هكذا يثور الأب سيريليو دائماً … يثور حتى مع نفسه، لكنه يكن لمجذوب كثيراً من المودة … ما عادت ترهبه تلك الثورات.

إلتفت إلى عثمان أخيراً والعربة تمارس فعل الإهتزاز بلا رحمة :-  ما رأيك فيما يحدث؟!

انتفض عثمان ورد عليه بسؤال مستغرباً:-  ماذا تقصد؟

لم يمض على اندلاع الحرب - مرة أخرى - سوى سبعة أشهر بعد هدنة مشوبة بالحذر امتدت لسنوات. البعض كان يفضّل اندلاعها - ليس رغبة فيها - بل لينتهي عهد الترقب والإنتظار. إنها قربان الآلهة، ذلك الفرض الأبدي حين يغيب الوعي وتتماهى الرؤية والرؤيا بغية بلوغ التوافق. حين قذف الكجور بعظمه في الأفق وضرب الوليّ برمله على ظهر البسيطة اندلعت شرارة ولاحت في الأرض الحرام حيث العظم والرمل يلتقيان. وقف الساحر يومها وفي نيته الابتسام، لكنه ضحك كثيراً وهو يرى العظم يتصاعد إلى الأعلى ثم يهوي محترقاً ويتلاشى بينما تختلط الخطوط أمام ضارب الرمل وتتلاشى من فعل الحرارة المنبعثة من بين الحبيبات المتجانسة. وجاء السلطان ليرى بعينيه تصاعد السنة اللهب ليجثو راكعاً ويخر ساجداً.

همس أحدهم " إنها نار الصاعقة لن تنطفئ إلاّ بعد أن تقضي على كل ما حولها".

هي ليست نبوءة، كان مدركاً لهذه الحقيقة … إنطلاق الحرب من عقالها أمر حتمي كل الأشياء تشير إلى ذلك. إنها واقعة لا محالة … الكل يدرك ذلك. " تباً لهم … انهم يدركون النتيجة ورغم ذلك يسيرون في ذات الطريق." ولكنها تلك اللعبة القذرة.

الطريق الآن متعرج إلى درجة لا يمكن معها الجلوس في استرخاء وقد شارفت القافلة على الوصول إلى الموقع بعد طول رهق من وعورة الطريق، بل ولاحت بالفعل أعلى قمة من الجبل الذي يحتضن الموقع مما إنعكس إرتياحاً على وجه مجذوب. يعرفه جيداً بملامحه الغريبة التي جعلت منه أسطورة قاتل الأهالي كثيراً من اجلها، قبل أن يسيطر عليه الجيش لأهميته كموقع عسكري يمكن من خلاله السيطرة على رقعة واسعة حوله دون عناء.

قبيل سقوط الشمس في فخ الغروب كانت القوة قد توسطت الموقع تماماً، تحفها حرارة إستقبال سرعان ما تبددت حين انطلقت صافرة إنتبه لها حتى القادمون المتعبون إنتصاباً. إنطلق مجذوب برفقة قائد الموقع الرائد نلسون يرافقهما عثمان إلى حيث السكن المعد لهما، في حين تفرقت بقية القوة حسب التعليمات الصادرة إليها لتأخذ حصتها من الراحة بعد يوم مضنٍ. ودون استسلام للتعب وقف يتأمل الموقع تتنازعه حالة الضيق التي لم تبارحه وشريط ذكريات يحاول أن يستجمع أطرافه مخترقاً ببصره حواف الظلمة الهابطة في هدوء.

قطع عليه نلسون إسترساله وهو يخاطبه بصوت اقرب إلى الهمس:- نتوقع هجوماً هذه الليلة.

قال دون أن يلتفت إليه:- هل أبلغت قيادة المنطقة؟

-نعم … أرسلت إشارة صباح اليوم – وبعد برهة – إكتفوا بتحرككم وبموافاتهم بالموقف أولاً بأول.

بعد فترة صمت قصيرة سأله:- ما موقف الذخيرة والتعيينات؟

-لابأس، ولكن لا ندري حجم القوة وهذا ما يزعجني.

-حسناً، بعد ساعة حضّر لاجتماع في غرفة العمليات. بلغ الملازم عثمان بالحضور إلى جانب ركن العمليات.

كان الظلام قد احكم قبضته حين إستلقى على فراشه ... لم يكن يختلف كثيراً عن ذاك الذي اعتاد عليه ولكنه مترهل بعض الشيء. تقلب قليلاً متقلبة معه هواجس ما كانت تراوده من قبل، ولكنه ذلك الجبل اللعين رغم الظلام يتمدد أمامه بوضوح. يرتد منتصباً موحياً بأمر آت لا ريب فيه، لا ليس موحياً بل هو صوت خارج من جوفه … صوت قادم من عمق بئر مهجورة. روى له أحد كبار السن من أهالي المنطقة في زمن الترقب يوم أن كان من بين ضباط الموقع وهو بعد برتبة الملازم أول، إن هذا الجبل كان يوما خلية حيّة. مئات من البشر هم من يمثلون هذه الأحجار الآن … لكنها ليست مجموعة أحجار بل هي كتلة واحدة تماسكت يوم أن إنصهرت بعد إشتعال النار وازدياد جذوتها. يقولون إنه كان يوم سبت وقت أن إلتقى رمل الوليّ[i] بعظم الكجور[ii] في زمان غابر.

الصوت لا يكاد يبارح أذنه، وبين عينيه تتقاطع خطوط رمل وعظم … حينها رأى الجبل يتحرك وهالة من ضوء باهت تحيط به والزمان ليس زمان قمر. تذكر عمه الآن … لعنه وتلك الأساطير التي كان يرويها له كما لم يفعل من قبل. ليست هي المرة الأولى التي يقاتل فيها … كثيراً ما قاد معارك  دون أن يرمش له جفن، لكنها ليلة أخرى تلك التي تحتضنه الآن … ربما هو التعب. رفع غطاءه في حذر خشية أن يوقظ نلسون ووقف بجوار فراشه يتمطّى.

 دوي إنفجار في الطرف الآخر من الجبل طرد كل ذرات التعب من جسده ورآه - أثناء سقوط قذيفة مدفع هاون أخرى - يتحرك فعلاً تمور أطرافه بالحركة… وتحولت بقايا الليل إلى نهار. ثلاث ساعات ولم تبدأ المعركة الحقيقية إلاّ بعدها … مع بداية زحف أول موج بشري تجاه الناحية الغربية من الموقع. "هل اليوم سبت ؟" تساءل متردداً وهو يوجه ويصدر أوامره لإدارة المعركة الدفاعية مسيطرة عليه فكرة إنها ليست معركته، بل هي مفروضة عليه. أكثر من عشرة سنوات وهو لم يزاول مهنته … كان آخر عهد له بالمعارك الحقيقية وجحيم نيرانها في معركة العبور، كان في خضمها وإن لم يشارك فيها إلاّ بالقدر الذي أتاحته له عيناه من موقع حراسته.

 بصق بعنف وهو يشتمّ رائحة البارود المختلطة برائحة الدم، ورغم أصوات الرصاص المتصاعدة أصدر أوامره بتحويل اثنين من الأسلحة الرشاشة إلى الناحية الغربية. بعض أفراد القوة يخلون إلى مواقع الإسعافات رغم كثافة النيران. عند شروق الشمس تراجعت القوة المهاجمة إلى الخلف وعجزت عن اقتحام الدفاعات.

اقترب الرائد نلسون منه:-  سيعاودون الكرّة.

قال له وهو يمسح ذرات العرق المتصبب من على وجهه:-  أحصر لي كشفاً بخسائرنا الآن، علينا إخلاء الجرحى من الخنادق ولتبقى بقية القوة في حالة إستعداد ولا تبارح مواقعها مهما كانت الأسباب.

-الكشف جاهز. إستشهدوا من بين السرية الأولى حتى الآن سبعة عشر فرداً بينما الجرحى أربعة وعشرين فرداً بينهم حالات خطرة.

- بعد انجلاء الموقف أطلب مروحية من قيادة المنطقة لاخلاء الحالات الخطرة.

إستعادت السماء بعض بهائها وصارت كما سماوات لا تغطيها روائح رمادية، وانجلت عن أعماقها سحب الدخان … ولكن دخان آخر متكاثف يتصاعد وشيء ما ثقيل واقف أعلى الصدر لا يكاد يتزحزح. في الأفق شيء ما يلوح والعين اليسرى ترف … جدته كانت تقول إنه فأل سيئ. كثيراً ما يمتلكها الرعب حين ترف عينها اليسرى. وغالباً ما تصدق تنبؤاتها خاصة في ما يتعلق بالفأل السيئ، ولكن عندما يتعلق الأمر بالعين اليمنى أو بحكة في راحة يدها اليمنى نادراً ما ترى عزيزاً لديها أو تقبض مالاً تحلم به. كانت في وقت غضبتها المليئة حناناً تحذره -جادةً - من مصير أسود ينتظره بسبب معاكسته الدائمة لها. عيناها تشعان غرابة وبؤساً سرعان ما ينطفئان وهي تشيح بوجهها المتغضن وكأنما تطرد صورة تلوح في كادر عينيها.

-انهم قادمون.

صاح نلسون في صوت قوي، بينما وقف هو متأملاً دفاعات الموقع من كل الإتجاهات في محاولة للسيطرة على النفس. إنها معركة أخرى في ظرف ساعتين … لا يدري إن كانت هي الفاصلة أم ستعقبها جولات أخرى. وبدا في تأمل نلسون الذي بدأ يصدر أوامره عبر الجهاز الذي يحمله … أليس هو من أبنائهم ؟ لماذا إذاً هو هنا؟ ولكنه سرعان ما إستدرك الأمر وهو يرى أن كثيراً من القوة - التي فرضت عليه قيادتها بحكم رتبته العسكرية - هم من أبنائهم. لا … إن الأمر غير متعلق بهذا، إنه إكثر سطحية من كل هذه الدماء التي أَُريقت حتى الآن بلا معنىً.

وعند بداية الهجوم كان نلسون إلى جانبه … جاءوا هذه المرة من عدة اتجاهات، وكالموج البشري تدافعت أفواجهم محاولة كسر الدفاع المحكم من الإتجاهات الثلاثة التي تلتقي بطرفي الجبل.

قال نلسون بعد تلقيه مكالمة عبر الجهاز:- سعادة المقدم، الملازم عثمان يقول إنهم إستطاعوا كسر طرف الدفاع الشرقي الذي يلتقي مع الجبل وإنه مصاب بجرح في صدره.

الملل المتسرب إلى نفسه دفعه إلى عدم الاكتراث للنبأ. الطقس الآن هو طقس موت  …  والرقص على إيقاع الإحتضار المترامي من بعيد وقريب في آن مبعث إلى التشبث بالحياة . إنه إندفاع الماء في مجرى جف سنين، هبة أخرى لحياة في زمن الموت بلا معنى ... وماذا يعني موت الملازم عثمان رغم حقيقته؟! ومع إستمرار المعركة يزداد تسرب الملل وتصير كل المعاني إلى التلاشي.

تغير كل شيء حين أصابت قذيفة الرائد نلسون … جسده منشطر إلى أجزاء بالقرب منه. عناية إلهية وساتر مبنيّ في متانة منعا عنه إنتشار الشظايا المتناثرة. لحظتها فقط قرر عدم الموت وهو يرى كل الدفاعات الحصينة آيلة إلى السقوط … دون شك آيلة للسقوط بعد معركة إستمرت لأكثر من أربع ساعات.

حمل الجهاز في عزيمة فاترة وهو ينادي على أفراد القوة المتبقية:-  أوقف الضرب … أوقف الضرب.

خارج هو من جحيم قرار عقوبته الإعدام، لكن لا جدوى مما يجري. من تبقّوا لا يتجاوزون سبعة وعشرون فرداً من أفراد القوة بينهم ركن العمليات. أطلق رصاصتين إلى أعلى بعدها توقف الضرب تماماً قبل خروجه من خندقه رافعاً يديه إلى أعلى وإلى الاعلى، يتبعه سبعة وعشرون فرداً. فراغ تنامى في داخله … إلتفت إلى قمة الجبل وهو جالس على الأرض واضعاً يديه أعلى رأسه … كان الجبل مبتسماً في سخرية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق