الطريق من بافاريا إلى بيافرا
لم ينتظر حتى بلوغه السن القانونية، بل التحق وهو في السابعة عشر من عمره بالفيلق الفرنسي الأجنبي ونال رتبة عريف، وعرف بنشاطه وخدماته من خلال هذا الفيلق، أثناء الحرب الهندية الصينية لكنه لم يشارك في معركة "دين بين فو" الشهيرة، لأن كتيبته كانت مرتكزة في هانوي. لكنه شارك ضمن الفيلق الأجنبي في العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956 عقب إعلان الرئيس جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس، ذلك العدوان الذي شاركت فيه كل من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل.
انتقل بعد نشاطه في الفيلق الأجنبي الفرنسي إلى الجزائر حيث
انضم إلى منظمة الجيش السري المكون من المستوطنين الفرنسيين، وكانت المواجهة بين
الوطنيين الجزائريين والاستعمار الاستيطاني الفرنسي على أشدها، تلك الثورة
الجزائرية التي قدم فيها مليون شهيد أرواحهم من أجل استقلال وطنهم. في تلك الفترة
عانى شتاينر كثيراً من مرض السل الرئوي مما هدد باستئصال جزء كبير من إحدى رئتيه،
لكنه شفي رغم ذلك ليواصل نشاطه العسكري في ما بعد.
كان ذلك عصر التحولات الكبرى في أفريقيا بعد عقود طويلة من
الاستعمار الأوربي، فحركات التحرر الوطني في مختلف البلدان الأفريقية كانت تنشط،
ويدعم بعضها بعضا في سبيل التحرر من الحكم الاستعماري بمختلف أشكاله ومن مختلف
الدول الأوربية. دعم ذلك نتائج نهايات الحرب العالمية الثانية التي أخرجت إلى
العالم معسكرين اثنين (الشرقي والغربي) تقاسما العالم في إطار ما عرف بالحرب
الباردة، وتقاسما ألمانيا، التي اطلقت شرارة الحرب، حيث ولد رولف شتاينر.
بدلاً من توجيه أسلحتهما صوب بعضهما مباشرة، أدار المعسكران
حروبهما الساخنة في تلك البلدان التي نالت استقلالها حديثاً في جغرافيا العالم
الثالث، وكان لأفريقيا نصيب الأسد في ذلك. فما خلف المستعمر من ندوب وجروح على
جدران تلك البلدان، وما رسخه من سياسات وخطط كانت كافية لتفجر الأوضاع من خلفه.
فبعد حروب التحرير والثورات الوطنية التي قادها أبناء القارة ضد المستعمر، بدأت
حروب من نوع آخر.
حروب داخلية وحروب بالوكالة في كل بلدان القارة الأفريقية.
حروب الوكالة كانت تديرها أصابع المعسكرين في محاولة كل منهما الانتصار لمصالحه
الاستراتيجية والتغلغل في أكبر مساحات ممكنة في العالم بواسطة الأنظمة الوطنية
التي يستميلونها. كان كل منهما يدافع ويحمي ويدعم النظام الذي تميل كفته إليه،
ويسعى لترجيح كفة الحركات المعارضة في البلدان التي تحكمها أنظمة تعارض توجهه. بل
كانت اجهزة مخابرات الدولتين العظميين (الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد
السوفيتي) تتدخل في مسار تطور الأنظمة السياسية في أفريقيا وغيرها من البلدان،
فتقوم بتدبير –وحتى تنفيذ- الإنقلابات العسكرية لصالح قوى موالية لها. وحروب
داخلية بعضها ينطلق من أقاليم داخلية للدول بهدف الاستقلال من الدولة الأم.
لم يكن المرتزقة الأوربيون ينتظرون أكثر من تلك الأجواء
لتقديم خدماتهم وخبراتهم. كانت الكونغو من اوائل البلدان الأفريقية ذات الطقس
المواتي لمغامرات المرتزقة، حيث اشتد الصراع في الفترة من 1960 إلى 1965 بين أطراف
الدولة والحكومة المركزية المستقلة حديثاً من بلجيكا. استطاع مويس تشومبي السيطرة
على إقليم كاتنقا في ظل حكومة باتريس لوممبا، وعين على الفور ضابطاً بلجيكياً على
رأس قواته، واستعان فيما بعد بمليشيا أجنبية لقتال القوات الدولية بعد أن تورط في
اغتيال الرئيس باتريس لوممبا في يناير 1961.
استغل رولف شتاينر تلك الأجواء ليسافر إلى كاتنقا والتحق
بمجموعة روبرت فالكويس وعرض خدماته هناك إلى أن صار الحارس الشخصي لتشومبي، ورافقه
أثناء هروبه إلى اسبانيا حين اتهمته الحكومة المركزية بالتآمر وضيقت الخناق عليه،
ونجا شتاينر من الإعتقال بتخلفه عن السفر عندما قام مسلحون باختطاف طائرة كانت تقل
تشومبي، إلى الجزائر ليتم اعتقاله من قبل السلطات الجزائرية ويبقى قيد الإقامة
الجبرية حتى مات عام 1969.
بيافرا .. صورة طبق الأصل لجنوب السودان
لم يك لشتاينر أن يعدم طقساً مواتياً بعد فقدانه امتياز العمل
مع تشومبي وأفريقيا تعج بالصراعات، فها هي نيجيريا تلتهب نيرانها بعد الاستقلال
التي بدأت في يوليو 1967 واستمرت لأكثر من ثلاث سنوات. و تبدأ الحرب عقب إعلان
الكولونيل اوجوكوو الحاكم العسكري للإقليم الجنوبي الشرقي استقلال الإقليم وتأسيس
دولة بيافرا في 30 مايو 1967. كانت حكومة الإقليم ترى أن التطورات السياسية الحادة
في البلاد وسيطرة أبناء الإقليم الشمالي على الحكم تعتبر تراجعاً عن الطابع
الاتحادي للدولة. وبدأت تهديدات حكام الإقليم الجنوبي الشرقي بالاستقلال في مارس
1967 عقب إصدار مراسيم مالية خاصة بجمع الإيرادات لحكومة الشرق فقط ووقف توريد
لاموال للحكومة الاتحادية فيما عدا رسوم البترول. وتبع ذلك رد المجلس العسكري
الحاكم للبلاد بقرار بتقسيم الإقليم الشرقي ل3 أقاليم منفصلة. ورد الإقليم الشرقي
بالاستيلاء على بقية المباني والادارات التابعة للحكومة الاتحادية وقرار يقضى بأن
شركات البترول عليها أن تدفع الرسوم المقررة إلى حكومة الشرق وبدا ان البلاد على
حافة الحرب الاهلية. اتخذت الجمعية الاستشارية لإقليم الشرق قراراً يقضي بالانفصال
عن الدولة الاتحادية وهو قرار كان يعتبر تكريسا لحالة الانفصال التي أصبحت واقعا بالفعل،
تلا ذلك محاولات عديدة للسلام أبرزها جرى في غانا ولكن رفض الكولونيل اوجوكوو
لمبدأ الفيدرالية وتفضيله لمبدأ الكونفيدرالية جعل الحرب أمراً واقعاً بعد انهيار
كل محادثات السلام.
بدأت الحرب عقب انهيار محادثات السلام بهجوم شنته القوات
الاتحادية على الإقليم المنشق من الشمال والشرق باتجاه مدينة "انيوجو".
وقام الأسطول الفيدرالي بحصار الجنوب. ردت حركة بيافرا على الهجوم بتوسيع القتال
إلى خارج حدود الإقليم من أجل تحقيق هدفها "التحرير الكامل لكل نيجيريا".
فقامت بحركة معاكسة وعبرت نهر النيجر واستولت على إقليم الغرب الأوسط وسيطرت على
عاصمته وأهم مدنه في الفترة من 8 أغسطس حتى 20 سبتمبر 1967، وغزت باقى مناطق الغرب
الأوسط حتى تمنع الحكومة الاتحادية من استغلال أراضيه من أجل الهجوم عليها، ومن
أجل محاولة كسب تعاطف قبائل "الايبو" وبناء علاقة تحالف مع قبائل
الإقليم الغربي ضد الإقليم الشمالي الذي تسيطر عليه الحكومة. لكن تطوارت الحرب
كانت في صالح الحكومة الاتحادية فقد سيطر الجيش على مدينة "انيوجو"
العاصمة في أكتوبر 1967. وتقدم الجيش إلى الجبهات الجنوبية واستولى على دلتا نهر
النيجر. ونقلت العاصمة إلى "أومياها" التي استولى عليها الجيش لاحقاً في
مايو 1968 هي ومجموعة من المدن الهامة بعد أن حاصر الانفصاليون في دوائر عسكرية
متتالية. واستمر القتال حتى حاصر الانفصاليون في مناطق ضيقة إلى اأن تم الاستيلاء
على العاصمة الثالثة "اوبري" ومطار "اولي" في يناير 1970 وتم
تصفية التمرد.
شارك شتاينر في تلك الحرب منذ بدايتها، وبعد أن كان يعمل تحت
قيادة روبرت فالكويس أيضاً، كون مجموعته الخاصة به وصار قائداً برتبة كولونيل. لم
تمض عشر أشهر على عمله الميداني في تلك الحرب حتى أصيب بانهيار عصبي حاد، وبدأ
يعتقد أن كل المقربين منه أعداء له. وفقد لمعان إسمه وبريقه عندما جاء مترنحاً وكان
قد طلب منه المثول للوقوف أمام لجنة عسكرية لسؤاله عن سبب استيلائه على عربات
تابعة للصليب الأحمر. رفض وقتها تلك الاتهامات وكاد أن يتسبب في أزمة داخل اللجنة
بإشهاره سلاحه في وجه الحراس الشخصيين للجنرال اوجوكو حاكم بيافرا. كاد الحراس أن
يقتلونه لولا تدخل أوكوجوو، لكنه أشهر السلاح حينها في وجه منقذه، وفقد بذلك كل
تعاطف ممكن.
تم اعتقال رولف شتاينر مع خمسة مرتزقة آخرين، وفي الليلة التالية لاعتقاله تم طرده وترحيله إلى الجابون، ليبدأ رحلته إلى السودان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق