رولف شتاينر.. مرتزق أبيض في أدغال أفريقيا -1

ضمن كتاب: اغتيال السفير الأمريكي في الخرطوم

عرف تاريخ السودان الحديث مفردة المرتزق أو المرتزقة لأول مرة عندما ألقي القبض على الألماني رولف شتاينر الذي ظل يبيع قدراته ومهاراته القتالية على امتداد المنطقة الاستوائية في أفريقيا، بدءاً من بيافرا في نيجيريا مروراً بالكونغو إلى أن دخل إلى جنوب السودان عن طريق يوغندا وبمساعدة عيدي أمين. وللمفارقة ألقت الحكومة اليوغندية القبض عليه في معسكر للأنيانيا شمال يوغندا، عندما كان يستشفى من جرح أصابه أثناء معارك الجيش السوداني مع قوات الأنيانيا في جنوب السودان.


كان شتاينر قد أمضى قرابة العام وهو يقدم الاستشارات والمساعدات والتدريب لقوات الأنيانيا. ولكن الكلمة صارت أكثر رسوخاً عندما أطلق النظام المايوي الذي ترأسه جعفر نميري على العملية التي نفذتها جبهة القوى الوطنية وبمساعدة ليبية داخل الخرطوم، وباءت بالفشل في الاستيلاء على السلطة، إسم المرتزقة. وكان للإعلام المايوي الدور الأكبر في تسويق هذه المفردة على نطاق واسع في محاولة لنفي الدور الوطني للمقاتلين السودانيين الذين نفذوا هذه العملية.

دعارة الرجال

لمفردة (المرتزقة) تاريخ طويل لازم تاريخ الحروب في حياة البشرية وصار الإرتزاق مهنة. فإذا كانت الدعارة هي المهنة الأولى للنساء، فإن الإرتزاق أعتبر على مر السنين ثاني أقدم مهنة –بعدها- مارسها الرجال، بل ذهب البعض إلى وصفها بدعارة الرجال. فالمرأة التي تأكل من ثدييها داعرة، وكذلك الرجل الذي يبيع قدراته ومهاراته القتالية لأجل وطن آخر.

وحتى لا نقيس القيم والمفاهيم بأدوات اليوم فيما يخص الدعارة كمهنة، فإن البابليين اعتبروا عشتار ربة الحب وملكة اللذة التي تحب المتعة والفرح، إرتبطت عبادتها بتقاليد اجتماعية وقيم دينية إضافة إلى اعتبارها مهنة راقية. لذلك اطلق اسم العشتاريات (عشتاريتو) على المومسات اللائي عملن على وهب أجسادهن في المعابد لكل راغب كطقس عبادة مقدسة. كانت تلك المهنة مما يفخرن به النساء ويطلق عليهن إسم الطاهرات الإلاهيات، بل ذهب الأمر إلى أكثر من ذلك بأن وضع القانون السائد آنذاك عقوبات صارمة لكل من تسول له نفسه الحط من قدر أولئك المقدسات. أما الآشوريون فلم يكتفوا باللذة والحب والخصب كصفات للإلهة (عشتار) بل أضافوا إليها صفة أخرى وهي ربة الحرب.

هكذا إذاً كانت النظرة إلى المهنة الأولى؛ أما دعارة الرجال (الإرتزاق) فلها تاريخ طويل ارتبط بالحروب على مر الزمان. وإذا كانت النساء يخجلن اليوم من أول مهنة لهن ويحط المجتمع قبل الأفراد من تلك المهنة ومن يمارسنها، فالإرتزاق تقوم عليه شركات كبرى في عصرنا الراهن، تبيع قدراتها وقدرات رجالها لكل من يطلب مثل تلك الخدمات.

بلاك ووتر

لعل أشهر تلك الشركات، والتي ارتبطت في أذهاننا بالحرب ضد النظام العراقي الذي كان يرأسه صدام حسين، كما جاء في موقع ويكبيديا هي بلاك ووتر العالمية والتي تعني حرفياً باللغة العربية المياه السوداء أو المياه الآسنة، التي كانت سابقا بلاك وتر يو أس أي، هي شركة تقدم خدمات أمنية وعسكرية أي أنها شركة مرتزقة. وتعتبر واحدة من أبرز الشركات العسكرية الخاصة في الولايات المتحدة وهي مرتبطة بفرسان القديس يوحنا، وقد تأسست وفق القوانين الأمريكية التي تسمح بمصانع وشركات عسكرية خاصة ورغم ذلك تعرضت لانتقادات واسعة بعد نشر كتاب "مرتزقة بلاك ووتر.. جيش بوش الخفي" الذي قال إنها تدعم الجيش الأمريكي بالعراق، فيما يخضع جنودها للحصانة من الملاحقات القضائية.

تقدم الشركة خدماتها للحكومات والأفراد من تدريب وعمليات خاصة. ويبلغ معدل الدخل اليومي للعاملين في هذه الشركة بين 300 و 600 دولار. وقال رئيس شركة "بلاك ووتر" العسكرية، غاري جاكسون، هو ضابط سابق في البحرية الأمريكية، في حديث صحفي نادر، إن الشركة توقع عقوداً مع حكومات أجنبية منها حكومات دول مسلمة لتقديم خدمات أمنية بموافقة حكومة الولايات المتحدة، كما أوضح أن شركته لا تمانع وجود الشواذ في صفوفها. أما مؤسس الشركة "إريك برنس" فهو ملياردير أمريكي تصفه بعض وسائل الإعلام الغربية بأنه "مسيحي أصولي"، وهو من عائلة جمهورية نافذة. وأُميط اللثام عن نشاط "بلاك ووتر" في العراق لأول مرة عندما أعلن في 31 مارس 2004 عن مقتل أربعة من جنود هذه الشركة كانوا يقومون بنقل الطعام. وفي إبريل 2005 قتل خمسة منهم بإسقاط مروحيتهم. وفي بداية 2007 قتل خمسة منهم أيضا بتحطم مروحيتهم.

وكتبت صحيفة "واشنطن بوست" في عام 2004 أن فرقاً عسكرية من النخبة استأجرتهم حكومة الولايات المتحدة لحماية الموظفين والجنود وضباط الاستخبارات في العراق. وقالت إن وصفهم بالمتعاقدين العسكريين مع الحكومة ليس دقيقا والوصف الصحيح هو "جنود مرتزقة" وتحدثت عن إرسال الآلاف منهم إلى العراق.

وفي وقت سابق، حذرت لجنة من الأمم المتحدة من تزايد استخدام المرتزقة في الصراعات المسلحة، ودعت إلى تنظيم عمل الشركات الأمنية والعسكرية الخاصة التي تثير أنشطتها عددا من قضايا حقوق الإنسان.

وقالت المجموعة العاملة حول استخدام المرتزقة "إن المرتزقة يمثلون تهديداً كبيراً ليس فقط على الأمن بل أيضاً على حقوق الإنسان وحق الناس في تقرير المصير، ومن المهم أن تتعاون الدول لإنهاء هذه الظاهرة".

وبينما يفهم من المرتزقة أنهم مجموعة من الجنود المستخدمين للقتال في الصراعات المسلحة أو للإطاحة بحكومة، فقد تم استخدامهم مؤخراً من قبل بعض الحكومات ضد مواطنيها.

وأشارت رئيسة المجموعة فايزة باتيل إلى أن أنشطة الشركات الأمنية الخاصة تثير عدداً من التحديات، قائلة "إن توفير الأمن هو من المسؤوليات الأساسية للدولة وتوكيل المهمة إلى شركات عسكرية وأمنية خاصة يثير خطراً على حقوق الإنسان ومن ثم لا بد من تنظيم عملها".

وقالت "إن هذه الشركات لا تعمل مع الحكومات فقط ولكن المنظمات غير الحكومية والشركات الخاصة وحتى الأمم المتحدة تستخدمها". وأضافت "مع تأثير عمل هذه الشركات على حقوق الإنسان يعني أنه لا يمكن السماح لها بمواصلة العمل دون التنظيم والآليات المناسبة لضمان المساءلة".

تاريخ المرتزقة يعود، حسب الروايات التاريخية إلى عصر الاسكندر الأكبر (356-323 قبل الميلاد)، الذي كان يوظف المرتزقة للعمل والقتال بجانب رجاله لتمرير تجارته. وكان هؤلاء المرتزقة من الرجال الأكفاء الذين يمتلكون قدرات ومهارات تؤهلهم للقيام بهذا العمل الذي يتلقون مقابله أموالاً معتبرة.

وسجل التاريخ أن هانيبال (248-181 قبل الميلاد) استخدم المرتزقة في جيشه. كان لديه جيش خاص من المرتزقة، رجال جاءوا من مختلف بقاع العالم، وتم تدريبهم على أقسى انواع الظروف القتالية. واعتبر هذا الجيش أول جيش محترف في العالم. تبعهم في ذلك النهج الرومان الذين اعتمدوا في حروبهم بالكامل على المرتزقة، حيث كانوا يرغمون شباب القرى التي يحتلونها على القتال من أجل الإمبراطورية الرومانية، حتى أن بعضهم صار يعتبر نفسه من الرومان.

مر الإرتزاق في الجيوش بتطورات كثيرة منذ ذلك التاريخ إلى أن وصل إلى عصرنا الحديث. ففي ظل الاستعمار الاستيطاني وإحتلال العديد من الدول وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية، كان من المعتاد أن ترى مواطني دولة يحاربون إلى جانب الدولة المستعمِرة. ويمكن اعتبار اسرائيل وروديسيا  جنوب أفريقيا من أبرز الدول التي ظهر فيها المرتزقة بشكل كبير ومؤثر في العصر الحديث.

فمع انتهاء الحرب العالمية الثانية ووجود كثير من العسكريين بلا عمل وسط الدول الأوربية، اتجهت أنظارهم إلى الدول الأفريقية ودول العالم الثالث عموماً، حيث بؤر النزاعات المشتعلة أغرتهم لتقديم خدماتهم لمن يرغب، فهم قد تدربوا على القتال في مختلف الظروف ولفترات طويلة متصلة، ومارسوا عملياً إدارة الحروب في مناطق مختلفة وأجواء متنوعة.

من رحم هذه التجربة الطويلة ولدت أسطورة رولف شتاينر الألماني الجنسية، الذي دوخ جيوش الحكومات الأفريقية بدعمه وتقديم خدماته واستشاراته للقوات المناوئة لحكوماتها في تلك البلدان، لينتهي به المطاف مقبوضاً عليه في يوغندا التي سلمته للخرطوم، لتجري واحدة من أشهر المحاكمات ضد أحد أساطين الارتزاق قبل أن تسلمه الحكومة السودانية لألمانيا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق