رولف شتاينر.. مرتزق أبيض في أدغال أفريقيا- 3

من كتاب اغتيال السفير الأمريكي في السودان

 شتاينر في السودان

 عدة عوامل من الضرورة بمكان استصحابها في رحلة خروج شتاينر من إقليم بيافرا في نيجيريا إلى حين دخوله السودان من بوابته الجنوبية، وهي عوامل لا تختلف في جوهرها كثيراً عن دوافع تواجده في الكونغو ونيجيريا. فالسودان كغيره من البلدان الأفريقية وربما من أوائل، إن لم يكن اولها على الإطلاق، الذي انطلقت فيه بدايات الحرب الأهلية حتى قبل نيله كامل استقلاله وجلاء آخر فوج من قوات المستعمر من أراضيه.


أحد تلك العوامل، والذي سيكون له دور مباشر في وصول المرتزق رولف شتاينر إلى جنوب السودان، هو الحدود السياسية التي رسمها الاستعمار البريطاني. تلك الحدود التي لم تراع التوزيع القبلي ولا الاجتماعي للسكان، مما جعل بعض القبائل تتوزع بين السودان بحدوده المعروفة آنذاك وبين البلدان التي تجاوره شرقاً وغرباً وجنوباً. ومن بين تلك القبائل الكاكوا التي تمددت من المنطقة الاستوائية في جنوب السودان حتى حدود يوغندا. ومعروف أنه في العام 1945م، وبينما كانت الاقطار الافريقية في غمرة نضالها من أجل الاستقلال، اقترحت بريطانيا أن يكون جنوب السودان جزءاً من يوغندا، ولكن في العام 1946م تراجعت لندن عن اقتراحها نتيجة لضغوط من الخرطوم من أجل استقلال السودان الكامل.

طبيعة العلاقات بين السودان ويوغندا والتداخل الحدودي كان لها دوراً مباشراً في وصول شتاينر. وكما يشير د. سيمبا في تقريره المشار إليه في الحلقة السابقة، فإن الرابط الجغرافي كان له أكبر الأثر في تلك العلاقة. فكلا القطرين لا يستطيعا التنصل من تأثرهما بأي توترات حدودية تنشأ على أطرافهما. فالجنوب السوداني كان ملتهباً والشمال اليوغندي كذلك كانت تتجاذبه النزاعات الداخلية. كما تدخل العامل الديني في ترجيح كفة العلاقة لصالح دعم يوغندا للتمرد في الجنوب، فاليوغنديون المسيحيون منهم يدينون بالمذهب الكاثوليكي مثلما تتمتع الكنيسة الكاثوليكية بنفوذ واسع في جنوب السودان. كما أن التداخل القبلي الذي اشرت إليه، وبالتركيز على قبيلة الكاكوا الممتدة بين السودان ويوغندا، لعب دوراً مهماً على الصعيد السياسي في البلدين. فيما يخص يوغندا يمكن الإشارة إلى أن الرئيس السابق عيدي أمين ينتمي لتلك القبيلة، لذلك كان يجد التأييد والسند في جنوب السودان وربما كان هذا العامل هو الأساسي لبقائه في السلطة لفترة ثمانية أعوام. وفي الجانب الآخر من الصورة فإن الكاكوا في يوغندا تضامنوا مع عشيرتهم في جنوب السودان لتشكيل جبهة أفريقية سوداء ضد الشمال.

يمكن إبداء ملاحظة مهمة في هذا الخصوص، بأن التمرد الذي حدث في 1955 على الحكومة المركزية، لم يظهر ميلاً صارخاً نحو الانفصال، بل كان كثير من السياسيين الجنوبيين بمختلف أحزابهم ينزعون نحو الوحدة في إطار نظام فدرالي يضمن للجنوب التنمية والتطور ويمنح مواطنيه قدراً واسعاً من حكم أنفسهم. لكن بعد استقلال يوغندا الذي جاء في 1962 بدأ التوجه نحو استقلال الجنوب وانفصاله عن الشمال تعلو نبرته خاصة بعد احتضان يوغندا لمعسكرات التدريب ووقوفها إلى جانب الحركات المسلحة في الجنوب، بل وسعيها إلى توحيد الجبهة السياسية الجنوبية.

هناك عامل آخر من الاهمية بمكان، فقد تزايدت اهتمامات اسرائيل بأفريقيا عموماً وأفريقيا الاستوائية خاصة. وبدأت عملياً في إقامة طوق يهدف إلى تعزيز تواجدها الأفريقي وعزل مصر عدوها الرئيسي والبلدان العربية من التمدد جنوباً. وكانت يوغندا تشكل محوراً أساسياً في ذلك الطوق لاعتبارات استراتيجية تهم إسرائيل. وباختراقها لتلك المنطقة تمكنت إسرائيل من إقامة قاعدة عسكرية لها في شمال يوغندا، ومن ثم تمددت في جنوب السودان شمالاً وأقامت صلاتها مع الحركات المسلحة في الجنوب بدعمهم لوجستياً وفنياً، فهي غير المستشارين الذن ابتعثتهم للسودان لتدريب قوات الأنيانيا، أرسلت عدداً من الضباط المنتمين للانيانيا إلى إسرائيل لتلقي مزيداً من التدرييب والتأهيل.

تدفق في تلك الأثناء سلاح من كل الأنواع إلى الجنوب بفضل اسرائيل، فإلى جانب الأسلحة الأمريكية التي وصلتها تدفقت الأسلحة السوفيتية الصنع خاصة بعد انتصار اسرائيل وهزيمة العرب في حرب 1967، وكان السلاح السوفيتي يملأ الساحات العربية حينها.

كل العناصر توفرت لخوض المعركة بالنسبة للحركات المسلحة في الجنوب، لكن تبقت مسائل عالقة تعيق الوصول إلى تحقيق الأهداف النهائية. أول تلك المسائل هو طبيعة الحركات السياسية والعسكرية المتنافرة وضعفها نتيجة لتشتتها، فكانت كل المجهودات المبذولة لتحقيق ذلك لا تصمد طويلاً، فحتى مؤتمر كمبالا الذي وحد بين القوى السياسية الجنوبية في العام 1965 وجاء بأقري جادين رئيساً لم يستمر لفترة طويلة، أما ثاني المسائل فكان الافتقار لقائد ميداني يمكنه أن يعمل في جبهة توحيد تلك القوى والحركات ويطور العمل العسكري الميداني عملياً في اتجاه تنفيذ عمليات هجومية مؤثرة.

برز إلى السطح مرة اخرى إسم رولف شتاينر صاحب التجربة الكبيرة في أدغال أفريقيا، فهو على علاقة لصيقة بتلك المنطقة وعلى صلة جيدة بعيدي أمين الذي كان يشغل وقتها رئيس هيئة الأركان في الجيش اليوغندي في ظل رئاسة ملتون أبوتي، ويدعم الوجود الإسرائيلي في يوغندا ويساند بقوة مركزه السياسي والعسكري ودينامية انتمائه القبلي للسودان الصراع الدائر هناك لصالح انفصال الجنوب عن الشمال.

لم يظهر إلى السطح أي نشاط لرولف شتاينر منذ خروجه مطروداً من بافريا إلى الجابون، وكأنما استراحة اضطرارية راقت له بعد سنوات من النشاط الذي لم ينقطع، وربما أراد لأعصابه ان تعود لهدوئها وسابق عهدها بعد الانهيار العصبي الذي أصابه وتسبب في هبوط أسهم اسمه. فهو منذ خروجه بعد عشرة أشهر قضاها في بافاريا وحتى دخوله السودان في نوفمبر 1969 لم يذكر له نشاط ما.

ما أن حط رحاله في يوغندا حتى قاده عيدي أمين إلى معسكرات تدريب الأنيانيا في شمال يوغندا، ومن ثم إلى داخل الحدود السودانية. استخدم شتاينر كل قدراته ومهاراته لتنفيذ المهام الموضوعة على قائمة أجندته. مع مهام التدريب على الخطط العسكرية وتطبيقاتها الميدانية، كان مشغولاً بهاجس توحيد الجبهة الجنوبية ودعم العمل المسلح وجمعه تحت راية واحدة اختار لقيادتها جوزيف لاقو.

وكان جوزيف لاقو ضابطاً في الجيش السوداني، والتحق بقوات الأنيانيا. وفي خضم الصراع القبلي السياسي على قيادة الجنوب خرج جوزيف لاقو ليقوي من مركزه وسط قوات حركة الأنيانيا في شرق الاستوائية في الفترة من فبراير حتى نوفمبر 1969. وجدت القوى الغربية الداعمة لفكرة انفصال الجنوب في لاقو ضالتها باعتباره القائد الأقوى نفوذاً. وبفضل الدعم القوي الذي وجده من شتاينر ومساعداته في إقناع كافة القيادات العسكرية الجنوبية كسب لاقو ولاء قوات الأنيانيا في غرب الاستوائية.

استطاعت قوات الأنيانيا التي أضاف إليها لاقو الأنيانيا "الوطنية" أن تقود عمليات كبيرة وتصد هجمات قوية للجيش السوداني. قوى ذلك من موقف لاقو وقدرته على إقناع كافة القوات المتمردة، وخاصة تلك التي لم تقبل بقيادته، بأهليته لقيادة قوات التمرد كافة ضد حكومة الخرطوم. وكذلك الضغط على حكومة الخرطوم التي كانت تبذل مجهودات كبيرة من أجل تسوية مشكلة الجنوب بعد إنقلاب نميري وإعلان بيان 9 يونيو 1969 الخاص بمشكلة الجنوب وطرح فيه لأول مرة الحكم الذاتي الإقليمي للجنوب.

هنا انتبه الجيش السوداني والقيادات العسكرية العليا إلى التطور النوعي الذي ارتقت إليه قوات الأنيانيا، خاصة في مجال حرب الغوريللا الذي يتلاءم مع طبيعة مناطق العمليات العسكرية في الجنوب. وحسب رواية اللواء كمال أبشر قائد الاستخبارات العسكرية حينها (وهو يتذكر لمحرر مادة شتاينر للملف السياسي لجريدة الصحافة في يونيو من العام 2004) "فإن مصدراً من ألمانيا بعث له بقصاصة صحفية ألمانية اسمها (den shpegil)  كتبت مقالة عن وجود مرتزقة مع حركة الأنيانيا، وجاء اسم رولف شتاينر باعتبار أنه يساعد (الخوارج في التدريب والقتال)، وفي ذلك الوقت كانت القوات المسلحة تواجه هجوماً مكثفاً في شرق الاستوائية من حركة الأنيانيا".

ويواصل محرر الملف السياسي للصحافة حسب رواية أبشر "كل ما كان لدى الاستخبارات العسكرية في الخرطوم عن شتاينر أن هناك خبير على غير المألوف عن قدرات قادة حركة الانيانيا يخطط للهجوم على المدن، غير اسم «رولف اشتاينر» كان كل ما لدى الاستخبارات عنه أنه رجل مقاتل وخبير في تدريب القوات الخاصة، وعمل في الجيش الالماني. كما إنه قام بتدريب قوات أخرى سواء في أفريقيا أو غيرها لكن كل المهام التي كان يقوم بها عبارة عن استشارات فنية على الورق، أما في الجنوب فهو تواجد لمدة عامين هناك وكان تدريبه عن طريقة المباشرة في العمل ."

لكن الحقيقة تقول لم يبق في الجنوب سوى إحد عشر شهراً ثم ألقت القوات اليوغندية القبض عليه لتسلمه للسودان بعد ذلك، ماذا حدث ولماذا هذا الإنقلاب في مجريات الأحداث؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق