أمير بابكر عبدالله
وأنا أقرأ ما اقتطفته وتناقلته الصحف عن
الدكتور نافع علي نافع من حديثه لبرنامج مؤتمر إذاعي الذي تبثه الإذاعة القومية، قفز
من خلف ذاكرتي ما قالته جدتي قبل توقيع اتفاق السلام الشامل في العام 2005 بين
المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، إذ قالت (بالفم المليان) "بعد ده أحسن نجرب
جون قرنق أصلاً جربنا كل الأحزاب حتى ناس الدين وتبقى هو".
هذا الرأي قال به أحدهم في حوار داخل حافلة، قبل
عدة أيام، أطلقت عليها إسم "ثورة حافلة" تحاور وتجادل ركابها في شتى
الأمور الحياتية والسياسية، وإن لم يقل جون قرنق لكنه قال أيضاً و(بالفم المليان) "والله
الشيوعيين أحسن ألف مرة من الجماعة ديل، رغم إننا كنا في الجامعة ضدهم إلا إنهم
بتاعين شغل وناس دغري".
نموذجان أحدهما لإمرأة تجاوزت السبعين وهي تطلق
تصريحها الذي لم يجد مكانه في مانشيتات الصحف، والآخر لرجل في العقد الخامس أصابه
الإحباط من تجربة الإسلاميين في الحكم وما وصلت إليه البلاد من حال يغني عن
السؤال.
لا ضير أن تتصاعد أشواق الدكتور نافع من موقع
مسؤليته كقيادي في الحركة الإسلامية إلى آفاق وحدة الإسلاميين وأهل القبلة، وإلى
جمع صفهم في (حزب سياسي) واحد، وأن يلم شتات الحركات التي تناسلت من تلك الحركة
نفسها، لكن عليه أن يسبق بالكشف عن تلك الأشواق بطرح سؤال لماذا تشظت الحركة
الإسلامية أصلاً، إذا كانت الغاية هي الإسلام وبسط قيمه والشريعة وتطبيقها. وأن
يجيب عليه في الهواء الطلق دون مواربة مثلما درج على إطلاق تصريحاته السياسية ضد
خصومه السياسيين والتي لم يسلم منها حتى الإسلاميون المنشقون.
المواطن العادي، وكلنا مواطنون عاديون جداً،
أصبح بعد تجربة الإسلاميين في الحكم يفرق بين الإسلام والإسلاميين. ولأنه مسلم
بالفطرة وبعد التجربة العملية ل(حملة لواء الإسلام) في الحكم أدرك البون الشاسع
بين الحقيقة التي تمشي على قدمين والشعارات والخطب التي تملأ الدنيا ضجيجاً. لعل
مقولة "دخلونا الجوامع ودخلوا هم السوق" تمثل رأياً صارخاً حول رأي
المواطن العادي في ما جرى ويجري.
طالما تمسك الدكتور نافع برأيه أن إهتمام حركته
بالسياسة يأتي "انطلاقا من سعيها لحكم الشريعة، وهزيمة من يدعون لغير ذلك"،
سيظل ذلك المواطن يمد له لسانه سخرية. فطوال ربع قرن ويزيد من حكمها الذي جاء عبر
إنقلابها العسكري، لم ير وطناً مستقراً ولا عاش سلاماً مستداماً ولم يسمع بالشريعة
إلا في الخطب والمناسبات، بل ظل يشتم روائح الفساد وبدع التحلل وتفصيل الإسلام
ليتلاءم مع جلباب الإسلاميين. فإذا كانت الهجمة على الإسلام تأتي صراحة وعلناً من
أعدائه ، فإن الهجمة الأكبر عليه تقودها الأفعال ومن يزعمون أنهم أبناؤه، وهذا ما
باعد الشقة بين الإسلاميين والشخص العادي لا كما يزعم قادتها بإقتراب المسافة
بينهما. وهو ما يجب أن يقروا به ويعملوا على تجاوزه إن أرادوا تحقيق ذلك.
على الحركة الإسلامية إذا أرادت الا تبتعد عن
السياسة كما يشتهي الدكتور نافع، وهي بعيدة جداً عنها لأنها كما يقولون فن الممكن،
فعليها أن تمارس السياسة بشروطها وتلتزم ضوابطها وتحتكم إلى قيمها. فالشخص العادي
بات يميز بين الخبيث والطيب، ولها في التجربة التركية وتصدر حزبة العدالة والتنمية
التركي قائمة منافسيه في الانتخابات الأخيرة خير مثال. فحزب أردوغان كسب الجولة
السابقة، بل صعد إلى سلم السلطة أصلاً، ليس بإدعائه تطبيق الشريعة الإسلامية ولم
يطلق برنامجاً للهجرة إلى الله وإنما تحسس قضايا الدولة ومواطنيها وطرح برنامجاً
سياسياً واقتصاديا واجتماعياً أهله لذلك الفوز وفقاً لشروط الدولة العلمانية
والدستور التركي العلماني.
عليها الاعتراف بقصور رؤيتها حول (كيف يحكم
السودان؟) وهو ما سيوسع من (زوووم) رؤيتها لواقعه، فإذا كان ماعونها التنظيمي لم
يحتمل ويتسع لعضويتها وتشظت هي نفسها إلى أحزاب ومجموعات جعلت قادتها يأملون في
وحدتها مرة أخرى ومعهم كل أهل القبلة، وإذا كانت رؤاها قائمة على إقصاء الآخر، وهو
ما قاد البلاد والعباد إلى هذه الحالة وفاقم من الأزمات المتوارثة بدلاً من
معالجتها طوال فترة حكمها، فكيف يحق لها أن تتطلع لمواصلة لعب دورها بذات الرؤى
دون مراجعات عميقة وتحولات فكرية أساسية تقود البلاد إلى رحاب حكم ديمقراطي تعددي
قادر على إنتشالها من وهدتها.
لن أكرر ما ظللت أكتبه عن رواية المبدع المصري
وراويته "اللجنة" التي يبدأ بطلها بأكل نفسه وهي العقوبة التي أنلتها به
اللجنة، ولكنه حال الحركة الإسلامية فهي ظلت تأكل نفسها منذ عقود، وإذا كان بطل
صنع الله ينفذ عقوبته عن وعي وإدارك فإن الحركة إن كانت تعي قدر تآكلها فهي تتجاهل
ذلك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق