الدولار وال(عشرون جنيه)

أمير بابكر عبدالله
حديث الدولار مقارنة بالجنيه ذو شجون، وفي التراث العربي جاءت قصة الحديث (ذو الشجون) أن ضبة ابن أد أرسل ولديه سعد وسعيد في أثر أبل ضلت طريق عودتها إلى مضاربها. عاد سعد ولم يعد سعيد أبداً لأن الحارث الذي التقاه قتله ونهب برديه، وهما ما كشفاه عند ضبة حين التقاه بعد حين ليسأله عنهما، فقال له الحارث إنهما لغلام قتلته، فسأله ضبة "بسيفك هذا؟" فلما رد بالإيجاب، سأله أن يراه وهو يقول "يبدو أنه صارم"، وحمل ضبة السيف بين يديه وقال "الحديث ذو شجون" قبل أن يضرب عنق الحارث، ويواصل بعدها "سبق السيف العزل".

فحديث السيد وزير المالية الذي جاء ضمن أخبار جريدة "الأنتباهة" الأسبوع الماضي بأن السعر الحقيقي للدولار الأمريكي (فقط 7 جنيه)، هو حديث ذو شجون لما يستعيده من ذكريات ذات شجون. ولكي لا ننسى، فإن العميد صلاح كرار عضو مجلس قيادة (ثورة الإنقاذ) ورئيس اللجنة الاقتصادية آنذاك رفع عقيرته تغنياً بأمجاد ثورته بأن (لولاها لصار سعر الدولار عشرين جنيهاً").
وقتها، أي في العام 1989 قبل أن تتحرك دبابات الإنقلابيين الإسلاميين إلى مواقعها، كان سعر الدولار الرسمي يعادل 4 جنيهات ونصف، وفي السوق الموازي قارب ال12 جنيهاً. ولأن السوق وأسعاره وقانون العرض والطلب هي مؤشرات اقتصادية حقيقية وواقعية فإن السلع تتحدد أسعارها وفقاً لتصاعد وهبوط العملة الوطنية أمام العملة التي نستوردها بها، فكانت اسعار السلع هي المعبر الحقيقي عن قيمة عملتنا و(عَملتنا)، وهي أن السوق الموازي (سوق العملة) هو الذي يحدد سعر جنيهنا مقابل العملات الأخرى وليس السعر الرسمي الذي تحدده السلطات وكان كما ذكرت 4 جنيهات ونصف.
ولأن الحديث ذو شجون، لنعد قليلاً للوراء لنذكر السيد وزير المالية بأن قيمة الجنيه تلاعب بها اقتصاديو الانقاذ في مكر ليبدو الوهم هو الحقيقة، وذلك عندما تحول الجنيه (القديم، ما قبل الانقاذ) الذي تردى منذ السنوات الأولى. ففي العام 1991 بلغ سعر الدولار 15 جنيه وفي العام 1992 زاد ليبلغ ال 132 جنيه إلى أن قفز في العام 1996 إلى 1460 جنيه. وجاءت فكرة الدينار الذي يساوي 10 جنيهات لتمويه الحقيقة البائنة لمؤشرات تدني الاقتصاد – تدني هنا لا تصف الواقع بل إنهيار - التي عبر عنها سعر العملة الوطنية مقابل الأجنبية.
ثم تجيء المرحلة ما بعد اتفاقية السلام ليعود الجنيه السوداني إلى مضاربه ولكن بعد أن أصبح يعادل 1000 (ألف جنيه قديم) مقابل الدولار، لنعيش وهماً آخر بأن الدولار صار يعادل 2 جنيه أو تزيد قليلاً فيما الحقيقة (في سوق الله وأكبر) تقول بأنه يساوي ألفين من الجنيهات، أي أنه وفقاً لآخر تصريحات وزير المالية التي نشرتها جريدة الانتباهة المشار إليه فإن الدولار يعادل 7 ألف جنيه. أوليس الحديث بذي شجون.
سنتجاوز هنا كل تلك الشجون التي يثيرها مثل هذا الحديث، ونعود إلى التصريح نفسه الذي يشير إلى أن سعر الدولار في السوق الموازي للعملة هو مجرد مضاربات ولا يعبر عن السعر الحقيقي والذي هو بحسب السيد الوزير لا يتعدى ال7 جنيهات. سعر الدولار في السوق الموازي تجاوز ال11 جنيه سوداني. فطالما سياسات السلطة الاقتصادية قائمة ومتمسكة باقتصاد السوق أو الاقتصاد الحر، فهذا هو السوق وهذا هو الاقتصاد الحر الخاضع لقانون العرض والطلب يقول كلمته ساخراً من أية محاولات للي عنق الحقيقة.
لكن هل هي كل الحقيقة؟؟ أي هل سعر السوق الموازي الآن (الخاضع لقانون العرض والطلب) هو الحقيقة وأن الدولار يعادل أحد عشر جنيهاً ويزيد كثيراً أو قليلاً؟؟ للسوق رأي آخر دون شك تكشفه الأسعار المتصاعدة ب(الزانة) كل صباح، فالسوق الحقيقي أصبح لا يعترف حتى ب(حقيقة) السوق الموازي بل بمعادلاته هو. السلطة يمكنها التحكم في السعر الرسمي للدولار مقابل عملتنا وصار أيضاً في يدها التحكم، أو الحد من تصاعد سعر الدولار في السوق الموازي وكشف قيمته الحقيقية بإعلان الحرب على المضاربين وتجار العملة، لذلك تمرد السوق الحر وصار يطبق قوانينه الخاصة.
السعر الحقيقي للدولار مقابل الجنيه السوداني بلغ أو تجاوز العشرين جنيها، تلك التي رفع العميد صلاح كرار عقيرته يومها تغنيا بإنجازات ثورته ونصرة لها بأن لولاها لبلغ الدولار (عشرين جنيه). الأمر يمكن حسابه ببساطة، فأنا كمستورد أشتري العملة من السوق الموازي لتوفير احتياجاتي، سأضع كل الاحتمالات في ذهني للمحافظة على قيمة رأسمالي زائداً الآرباح. في هذه الحالة من يشتري الدولار ب11 جنيه سيضع قيمته الحقيقية ب 20 جنيهاً تحسباً لكل الاحتمالات من تصاعد متسارع لسعر للدولار إلى ارتفاع قيمة الدولار الجمركي وغيرها. إن لم يفعل ذلك سيكون غبياً وسرعان ما يخرج (برة السوق).
نذكر العميد بما قاله أيام زمان، ونقول له إن سعر الدولار اليوم في حقيقته بلغ العشرين جنيهاً شاء السيد الوزير أم أبى، أو بلغة زمان وأرقامه صار سعر الدولار عشرين ألف جنيه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق