مساخر الوزراء ومجون الأمراء

أمير بابكر عبدالله

ورد في الأنباء أن إمام وخطيب المسجد الكبير الشيخ كمال رزق دعا رئيس الجمهورية إلغاء الحصانة التي تمنح وللمسؤولين بالدولة واتهامه بعض من يتولونها باستغلال النفوذ والعبث بأعراض الناس ولا تستطيع السلطات محاسبتهم، جاء ذلك إثر ضبط السلطات لوزير ولائي مخموراً وبصحبته فتاة أجنبية بشارع النيل، مطالباً بتطبيق القانون على الجمع ولا كبير على القانون. وتحت بند ما خفي أعظم يمكن إدراج الكثير من التجاوزات واستغلال النفوذ ليس فقط فيما يتعلق بأعراض الناس كواحدة من مظاهر الفساد الأخلاقي بل يشتمل على كل أنواع الفساد المالي والسياسي أيضاً. من تلك التجاوزات واستغلال النفوذ ما ضبط وغطى عليه فقه السترة ومنها ما لم يضبط لحسن حظ مرتكبها في الدنيا ولسوء حظه يوم لقاء ربه.

صادف هذا الخبر قراءتي لإحدى مجلدات كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني "المجلد السابع"، وأبو الفرج الأصفهاني يرجع نسبه إلى بني أمية، وجده آخر خلفاء بني أمية. ورغم التشكيك في رواياته التي اشتملها كتاب "الأغاني" من بعض الفقهاء مثل ابن الجوزي البغدادي الذي قال عنه "ومثله لا يوثق بروايته، يصرح في كتبه بما يوجب عليه الفسق، ويهون شرب الخمر، وربما حكى ذلك عن نفسه ومن تأمل كتاب الأغاني، رأى كل قبيح ومنكر"، رغم ذلك يبقى ذلك الكتاب من صحبة ممتعة لقارئه لما فيه من سير وأشعار تحكي عن واقع ذاك الزمان.
أكثر ما استوقفني في الجزء السابع هو سيرة وأخبار الوليد بن يزيد التي تكشف وتبرز أوضح الأمثلة لبعض أمراء "المؤمنين" الغارقين في المجون والفسق والخلاعة.  وجاء في الكتاب "تولى الخلافة بعد موت هشام بن عبدالملك، وعندما تلقى خبر موته سرّ سرورا كبيرا وقال والله لأتلقين هذه النعمة بسكرة قبل الظهر ثم أنشأ يقول :
طاب يومي ولذ شرب السلافه  إذ أتاني نعي من بالرصافه
وأتانا البريد ينعى هشاما  وأتانا بخاتم للخلافة
فاصطبحنا من خمر عانة  صرفا ولهونا بقينة عزافه
ثم حلف ألا يبرح موضعه حتى يغنى في هذا الشعر ويشرب عليه فغني له فيه وشرب وسكر ثم دخل فبويع له بالخلافة .
قال المدائني في خبر أحمد بن الحارث: وشرب الوليد يوما فلما طابت نفسه تذكر هشاما فقال لعمر الوادي غنني
إني سمعت بليل  -  ورا المصلى برنه
فغناه فيه فشرب عليه ثلاثة أرطال ثم قال والله لئن سمعه منك أحد أبدا لاقتلنك، قال فما سمع منه بعدها ولا عرف نسبة ما في هذا الخبر من الغناء .
حدث مروان بن أبي حفصة قال دخلت على الرشيد أمير المؤمنين فسألني عن الوليد بن يزيد فخفت و بدأت في التململ في مكاني وبدا جزعي فقال إن أمير المؤمنين لا ينكر ما تقول فقل قلت كان من أصبح الناس وأظرف الناس وأشعر الناس فقال أتروي من شعره شيئا قلت نعم دخلت عليه مع عمومتي وفي يده قضيب ولي جمة فينانة فجعل يدخل القضيب في جمتي وجعل يقول يا غلام ولدتك سكر وهي أم ولد كانت لمروان بن الحكم فزوجها أبا حفصة قال فسمعته يومئذ ينشد :
ليت هشاما عاش حتى يرى **** مكياله الأوفر قد أترعا
كلنا له الصاع التي كالها ****** فما ظلمناه بها أصوعا
لم نأت ما نأتيه عن بدعة ******* أحله القرآن لي أجمعا .
قال فأمر الرشيد بكتابتها فكتبت.
كان للوليد اشعار كثيرة في وصف الخمر وهو من أجود شعره قد أخذها الشعراء فأدخلوها في أشعارهم سلخوا معانيها وأبو نواس خاصة فإنه سلخ معانيه كلها وجعلها في شعره فكررها في عدة مواضع منه وله أبيات أنشدنيها الحسن بن علي قال :
اصدع نجي الهموم بالطرب  وانعم على الدهر بابنة العنب
الأبيات التي مضت متقدما وهذا من بديع الكلام ونادره وقد جود فيه منذ ابتدأ إلى أن ختم وقد نقلها أبو نواس والحسين بن الضحاك في أشعارهما ومن جيد معانيه قوله :
رأيتك تبني جاهدا في قطيعتي  ولو كنت ذا حزم لهدمت ما تبني.
يقول أهلنا "خربانا من كبارا"، فإذا كان هذا مجون لأمير "للمؤمنين" في ذاك الزمان، فليس بمستغرب أن نرى مسخرة بعض وزراء هذا الزمان يضبطون على جنبات شارع النيل وهم مخمورون، ولكن للأسف لا يجيدون الشعر ولا يقرضونه. وإن عاش الوليد بن يزيد قرب النيل لجادت قريحته بأعذب الشعر واجزله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق