المؤتمر الوطني .. نار التفكك ورمضاء التفكيك

أمير بابكر عبدالله

يواجه المؤتمر الوطني – حزب السلطة – وبعد مسيرة ربع قرن من الحكم، أمرين لا مفر له منهما طال الزمن أو قصر. الأمر الأول هو التفكك وهو لا يشمله فقط كحزب سلطة بل يمتد إلى الدولة التي ظل يحكمها طيلة هذه الفترة. الأمر الثاني هو التفكيك وهذا يعنيه كحزب بالدرجة الأولى، ويعني نظامه السياسي الذي اجتهد في إرساء أسسه وقواعده على جثة التعدد والتنوع الواجب مراعاتهما في تأسيس أي نظام سياسي كنسق رئيسي شمن النظام الاجتماعي. وبينما هو غارق في أتون لهب التفكك يكابر في السير على رمضاء التفكيك ويناور بينهما، فبالنسبة إليه أحلاهما مر بعد أن ذاق نعيم السلطة التي لا يتنفس ويحيا إلا في ظلها.

ملامح التفكك على مستوى الدولة وحزب السلطة لا تخطئها عين مهما كان بها من رمد، ولن نجتر هنا أسطع الأمثلة على تفكك الدولة بمثال انفصال جنوب السودان، فهذا قد حدث والشركاء فيه كثر برغم تحميلنا المؤتمر الوطني المسؤولية الأكبر فيما جرى، على الأقل سيسجل التاريخ إن ذلك حدث إبان سيطرة المؤتمر الوطني على الحكم. فالسودان، بجغرافيته الحالية، فيه من التصدعات والشروخ على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي ما لا يمكن إحصاؤها في جلسة واحدة، بسبب سياسات ومنهج حزب السلطة وتراكماتها على مدى اكثر من عقدين.
إستمرار حالة الحرب وتداعياتها على المستويات أعلاه، عدم القدرة على بسط الأمن والسيطرة عليه في نواحي عديدة من البلاد، اتساع فتق النسيج الاجتماعي على قدرات الراتق وفقاً للسياسات المتبعة التي تزيد الأزمة استفحالاً يوماً بعد يوم، تخلي الدولة عن مسؤوليات الرعاية لمواطنيها خاصة في مجالي الصحة والتعليم، عدم القدرة في السيطرة على الانهيار الاقتصادي والسيطرة على دولة الفساد الموازية التي نشأت في كنف سياساته وإدارته للدولة، زد على ذلك التدخل الأجنبي السياسي والعسكري المباشر وغير المباشر بسبب الإضطرار أو الرغبة في البحث عن حلول لقضايانا في العواصم الإقليمية والعالمية وبسبب سياسة حزب السلطة الخارجية، كلها مؤشرات تزيد من ألسنة لهب نار تفكك الدولة.
على مستوى الحزب، فالمؤتمر الوطني هو حزب سلطة لا يستطيع الحياة والتنفس إلا في ظل قدرات الدولة بالتحكم في مفاصلها كما أسلفت، وهو بالتالي المتأثر الأول بالتصدعات التي تحدث على جدارها. في حركته الجماهيرية يعتمد على بسط نفوذه باستخدام قدرات الدولة وإمكانياتها، متى ما قل أو نضب معين تلك القدرات والإمكانيات انعكس ذلك على حركته، وهنا تتجلى أزمته ومظاهر تفككه. الأزمات التي عصفت بالمؤتمر الوطني طوال مسيرته وحالة التفكك التي اعترت جسده وازدياد بعد الشقة بينه وبين عضويته التي انفضت أرقام مؤثرة منه وبينه والجماهير، لا يزال يحاول مداراتها بما تبقى من بريق السلطة وما تبقى من إمكانيات الدولة المادية والحسية. وكما يقال "بيدي لا بيد عمرو" فذلك من فعل سياساته التي ظل ينتهجها، ولم يلتفت أو يهتم بنار تفكك الدولة إلى أن لامس "اللحم الحي" فبقاؤه واستمراره من بقائها، ليقفز إلى المنطقة الحرام (الحوار، مكره أخاك لا بطل)، أو صراط دانتي في كوميديته الإلهية، بين النار والرمضاء كخيار وحيد، حيث لا جنة هنا.
قبل التوغل في رمضاء التفكيك يدرك حزب السلطة جيداً إنه مصير محتوم، ولكنه ربما لا يعلم إن محاولاته ارتداء أحذية واقية لن يجدي نفعاً. قبوله – مضطراً أو رغبة – بآلية الحوار كمدخل لطريق إعادة التماسك للوطن يدخل في باب "أن تأتي متأخراً خير من أن لا تأتي أبداً"، وأول نتائجه هو التفكيك. متطلبات المرحلة الانتقالية وأهداف ومهام الحكومة الانتقالية واضحة ومحددة، لا تحتمل التسويف، واول ملامح التغيير الإيجابي فيها لصالح دولة التعدد هو عودة المؤتمر الوطني إلى ثكناته حزباً ضمن منظومة أحزاب سياسية تشكل وتسهم في المشهد الوطني إيجاباً لصالح الجميع.
يتحسس قادة المؤتمر الوطني – حزب السلطة – من تفكيك النظام، لذلك يصرون أن غاية الحوار ليس تفكيك النظام وإنما إشاعة الحريات والديمقراطية والتعددية. ذلك قول يناقض نفسه فطبيعة النظام السياسي القائم الآن، والمطلوب تفكيكه، لا تحتمل حريات ولا ديمقارطية ولا تعددية فهو مؤسس لسلطة الحزب الواحد بغض النظر عن أي الأحزاب هو. وإن جيئ بأعرق الأحزاب الديمقراطية في العالم المؤمنة بالآخر والملتزمة بحقوق الإنسان ليحكم السودان تحت مظلة هذا النظام السياسي القائم الآن، الذي يصر المؤتمر الوطني على عدم تفكيكه، لن يستطيع مبارحة محطة حزب السلطة وإدارة الدولة بمنهج الحزب الواحد.
التفكيك هو إبعاد شبح الحزبية عن مؤسسات الدولة، فمؤسسات الخدمة المدنية قومية رأينا رأي العين كيف أفسدها التدخل الحزبي وسياسة "التمكين"، وكيف يستغلها حزب السلطة في "تكبير كومه" مما يفتح الباب مشرعاً أمام تشكيل دولة الفساد الموازية "وكلو في سبيل التمكين". نكذب على أنفسنا إن قلنا بعدم تأثير دولة الحزب الواحد وسياسات حزب السلطة المتحكم فيها على مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية، وذلك من طبيعة الأشياء المرتبطة بها، فالإدعاء بقوميتها وعدم محاولة تجييرها لصالح الحزب الواحد وسياساته يظل مجرد إدعاء. لكن ما يغيب عن أو يتجاهله حزب السلطة إن مكون هذه المؤسسات الرئيسي هو بشر من هذا الشعب يكتوون بنتائج ذات سياساته مباشرة أو يرونها تمشي بين ذويهم، فالسودان لا يزال رهين الأسرة الممتدة، وبالتالي ورغم الامتيازات التي يرى حزب السلطة أنه يبذلها لهم من أجل حماية سلطته سيقفون إلى جانب التغيير طال الزمن أم قصر.
التفكيك يأتي لصالح إعادة بناء الدولة التي يجب أن تسع الجميع والقادرة على إشباع احتياجات الجميع، وأن يجد في أي فرد من مواطنيها نفسه آمناً في معاشه وحريته وقادراً وراغباً في الإسهام في بنائها مهما لازم ذلك من صعوبات وتحديات. وتلك غاية لا يزال النضال من أجلها مستمر، وازدادت ضراوته في عهد حكم المؤتمر الوطني لأن سياساته تمثل قمة مشروع دولة الحزب الواحد وتداعيات ذلك على الوطن تفككاً والمواطن تشريداً وفقراً ومرضا.
ليس سهلاً على المؤتمر الوطني – حزب السلطة – أن يبارح مربع السلطة، لكنه الآن بات مدركاً أن تمسكه بها في ظل النظام السياسي الذي بناه بيديه سيعصف بالوطن وبه، فهو يبدو كمن يراوح مكانه بين نار التفكك ورمضاء التفكيك. عليه أن يختار البقاء ضمن دولة التعددية وبشروط النظام الديمقراطي، أي المضي في طريق رمضاء التفكيك "ومافيش حاجة بتجي بالساهل".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق