مرتزقة يحكمون السودان

أمير بابكر عبدالله
للسوفيت (نسبة للاتحاد السوفيتي) اهتمام بالغ بالدرسات والبحوث، وهذا بالطبع شأن الدول المتقدمة التي تحسب خطواتها بعلمية لتضع سياساتها وبرامجها وفقاً لنتائج تلك البحوث والدراسات، وقد تخطئ مخرجاتها ولكن عادة ما توضع حسابات لمعدلات الانحراف فيها حسب القياسات الإحصائية.
من جملة اهتمامات تلك الدراسات كان السودان، سواء ضمن المنظومة الإفريقية أو العربية الإسلامية، فكثيراً ما يتخذ مثالاً أو نموذجاً أو عينة بلغة أهل مناهج البحث. ومن شدة اهتمامهم بالسودان نجد – وقتها – بعضهم تخصص في لغاته وثقافاته لدرجة أن أحد الطلبة من أصدقائي (زنقه) الأستاذ أثناء إمتحان نهاية السنة، والامتحان وجهاً لوجه بين الطالب والآستاذ وباللغة الروسية بالطبع، فلم يجد صديقي وهو في وضع (الزنقة) ذاك إلا أن يستل من قاموس البذاءة السوداني الخاص مفردة ليسب بها الأستاذ ومادته، فما كان من الأستاذ إلا أن ضحك ملء شدقيه وقال للطالب –الذي أسقط في يده بعدها- بلغة سودانية موغلة في المحلية "بطل قلة أدب".
ليس غريباً إذاً أن يفرد الباحث (السوفيتي) بونداريفسكي، في كتابه المنشور عام 1985 عن دار التقدم والموسوم "الغرب ضد العالم الإسلامي – من الحملات الصليبية حتى أيامنا"، حيزاً مهماً للسودان باعتباره ضمن منظومة العالم الإسلامي التي استهدفها العالم الغربي. ويستهل عنوانه الفرعي (إخضاع السودان) ب"استغل المستعمرون البريطانيون الاستيلاء على مصر لا لإغناء أصحاب المصارف وأرباب المشاريع البريطانيين بلا رادع وبنحو لا سابق له وحسب، ولا لفرض الرقابة على قناة السويس وشبه جزيرة سيناء والساحل الغربي من البحر الأحمر وحسب، بل أيضاً (لاتخاذها كرأس جسر من أجل استعباد بلد كبير جداً في أفريقيا، هو السودان الذي تربو مساحته على نصف مساحة أوربا).
ما لفت انتباهي فيما يخص السودان وصف بونداريفسكي للذين حكموا أقاليم السودان بإسم الخديوي ب(المغامرين) العالميين الوقحين الجشعين الذين يسيطرون على مختلف أقاليم السودان، فتحت ضغط أصحاب المصارف في لندن أجبر المستعمرون البريطانيون حاكم مصر على تعيين غردون حاكماً لعموم السودانن والذي عين بدوره أعوانه من المغامرين العالميين أو (المرتزقة) حكاماً لأقاليم السودان. وغردون (الانجليزي) الذي خلف صمويل بيكر  في حكم الاقليم الاستوائي كما هو معلوم، كان قد اشتهر بإبادة عشرات الآلاف من الصينيين في زمن حروب الأفيون، أي كان يعلم السودان وأحواله قبل أن يعين حاكماً عاماً.
بالنظر إلى الأسماء التي استعان بها غردون لتوطيد أركان حكمه ينطبق عليهم فعلاً وصف (مرتزقة) أو مغامرين عالميين كما أسماهم الكاتب. فقد عين غردون أحد المغامرين ليكون حاكماً على الإقليم الاستوائي وهو الألماني الجنسية شنيتسر والذي كان يطلق عليه اسم أمين باشا، كما عين مغامراً آخر ولكن هذه المرة من إيطاليا ليكون حاكماً على إقليم كردفان وهو جيسي باشا، فيما عين على رأس حكومة إقليم دارفور النمساوي الشهير رودولف انتون كارل (سلاطين باشا). إضافة لتعيينه إبن جلدته الانجليزي لبتون حاكماً لإقليم بحر الغزال.
ويتطرق الكتاب (الصادر في 1985) إلى مسألة فصل الجنوب عن الشمال كخطة انجليزية منذ عودة غردون الثانية إلى الخرطوم في يناير 1884، إي قبل حوالي قرن وربع من تحقق ذلك. يقول الكاتب " وحسب المشروع كان من المرتأى أن يصبح شمال السودان سلطنة دارفور – كردفان، وأن يتحول الجنوب النيلي إلى كيان خاص تحت رقابة الانجليز. وهكذا حسب المستعمرون البريطانيون، بمعارضة الشمال والجنوب أحدهما بالآخر، أن يكبحوا عملية تكوين شعب سوداني واحد وأن يؤزموا التناقضات السودانية المصرية ويحتفظوا بالتالي بسيادتهم على السودان".
رغم نظرة الكاتب للتاريخ الذي تناوله في إطار الصراع بين الإسلام والإمبريالية لتعزيز موقفه الماركسي من العالم، مرتكزاً في كتابه على دراسات ووثائق أرشيفية، إلا أن بين ثناياه وجهات نظر تستحق الوقوف عندها باعتبارها قراءة بمفردات مغايرة. على الاقل انتبهت –أنا- إلى أن السودان حكم بواسطة مرتزقة وهو ما لم توح به قراءاتي السابقة للتاريخ في كتابات عديدة، وأن فكرة فصل الجنوب عن الشمال كان لها تاريخ أبعد مما هو متعارف.

هناك تعليق واحد:

  1. متابع ومهتم بشكل دائم لما تكتب يا استاذ. موفق

    ردحذف