العقل السياسي 2

أمير بابكر عبدالله
في الجزء الأول تناولت رؤية الكاتب التونسي لما أسماه العقل السياسي الجبان، وحدد خصائصه في المرونة الخنوعة والواقعية السلبية والأنا التي تكون فوق كل اعتبار "الأنانية" والتنظير وإدعاء الاستقلالية خوفاً من تداعيات العمل المنظم، واخيراً يصل إلى هناك علاقة جدلية بين كل أصناف الجبن والانهيار المريع للعقل السياسي الذي يحكم اليوم بلادنا. وهذا الصنف الأول من أصناف العقل السياسي الذي يطالب بالتخلص منه للخروج مما هو سائد.
أما الصنف الثاني المقابل النقيض للعقل السياسي الجبان هو العقل السياسي المتوحش الذي يعرفه بإنه جملة الآليات الفكرية التي تنتج  مواقف وسلوكيات  تصرّف التمرّد ضدّ الاستبداد بغية  احتلال مكانه. يقول الكاتب إن الطاقة التي تحرك هذا العقل هي التعصب وليست الانتهازية التي يتصف بها (الجبان)، كما إنه يتسم بالصلابة ويفضل العنف والحركة على الخنوع والاستسلام، ويعلي من شأن الجماعة على حساب الأنا التي يبغضها ويحقرها.
يرى الكاتب إن هذا العقل المتوحش تسبب في إسالة كثير من الدماء والدموع عبر التاريخ، وأن العقل السياسي الجبان هو اخف الضررين بالمقارنة به.
من الخصائص الظاهرة "لهذا العقل الثقة المطلقة في منطلقات  الايدولوجيا وعدم تعريضها للمساءلة والنقد والمراجعة والاعتقاد بشموليتها وكمالها، ومحاولة قراءة كل ظواهر الحياة على ضوءها حشرا وتعسّفا وتجاوزا  مع شديد الرفض لتاريخيتها،  ناهيك عن الاعتراف بأنّ لها حدود وسلبيات".
ومن خصائصه أيضاً ما أسماه الوثنية اللفظية. فالكلمات والشعارات التي توضع تكون بمثابة مقدسات، وهي كلمات وشعارات إذا ما تم تحليلها لا تجد لها معنى، رغم ذلك تكون في موضع العبادة لدى أصحاب العقل السياسي المتوحش. وهذا يقود في النهاية إلى الإرهاب اللفظي، أو كما يقول الكاتب " فمن طبيعة  العقل المتوحش  صبّ  اللعنات بكثير من السخاء على أعدائه  لأن المستحوذ على الكلمة يعتبر نفسه  قيما على الفكرة". ثم إنه عقل يبسط الأشياء ويلغي التعدد ويلغي سائر التجارب التي لا تدخل ضمن إطاره التفسيري، وهو في النهاية عقل يتعسّف على الواقع ولا ينتظر إلا أوّل فرصة ليتعسّف على البشر.
يصل الكاتب إلى أن هذا العقل هو الذي تجده عند الأصولي الإسلامي بنفس الكيفية التي تجدها عند ألدّ خصومه تبعا لقانون يمكن أن يسنّ كالآتي: إن مواقف وتصرفات متطرف  لائيكي أو قومي أو ديني  في صراعه مع متطرف ينتمي إلى الاتجاه المعاكس، ناجمة دوما عن تناقض مطلق في الأفكار وتشابه مطلق في التفكير.
يخلص الكاتب إلى أن العقل الديمقراطي هو المخرج من هذا المأزق، ويرى أن لا مجال لمعارضة في ظل النظام الديكتاتوري إذ لا ينفع في مواجهة الاستبداد إلا المقاومة وهو يفضل المقاومة السلمية. ويضع مبادئ ومنهج للعقل المقاوم ترتكز على:
 القبول بالتعددية: إن الديمقراطية عقلية لا تستقيم إلا داخل فكر يقبل بتباين الرؤى وبالتعقيد والنسبية والتعددية في الظواهر الطبيعية والإنسانية.
الواقعية الإيجابية، تستند على تحليل متعدد الأبعاد و معمّق للواقع ينطلق من ثراه وتعقيده وازدواجيته وديناميكيته المتواصلة. هي  ترصد بدقة كل القوى المضادة للمشروع التحرّري في الوقت الذي ترصد بمنتهى الدقة كل القوى الدافعة له. هي التي لا تستهين لا بالعدوّ لا بالعراقيل، لكنها تراهن، حتى في أصعب الظروف، على قوى الخلق والتجدّد، التي لا تقلّ أهمية في فهم الواقع والتحكم فيه عن قوى العرقلة والتدمير.
الصلابة الاستراتيجية: أن الصلابة لا تتعلق فقط بالمضمون وإنما أيضا بطرق تحقيق هذا المضمون، حيث لا أخطر على مبادئنا وأهدافنا من الفكرة الحقيرة  التي تجدها في أفواه كل الانتهازيين أي''الغاية تبرّر الوسيلة''.
المرونة التكتيكية: وضع الكاتب للمرونة قواعد أجملها في تقييم النتائج وإعادة الكرة في حالة الفشل، كما وضع للمرونة مظاهر أجملها في: اترك للصلح بابا ولعدوك منفذا، وإذا هزمت لا تستسلم وإذا انتصرت لا تنتقم، ولا تكن مقلداً او سجيناً لفكر أو هيكل وإنما مبتكر لهذا وذاك.
يختم الكاتب "بهذه العقلية يمكننا اليوم  أن نتصور مؤسساتنا وبها يمكننا أن نبنيها يوم نكسر القيد".
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق