أسمريت .. فتاة في المزاد السري - الأخيرة

من وحي قصص تهريب واختطاف البشر في شرق السودان
هذه السلسلة هي تحقيق كتب في العام 2013 ونشر في جريدة الخرطوم، وهو مبني على قصة حقيقية عشت جزءاً كبيراً من تفاصيلها بين مدينتي كسلا والخرطوم، مع تغيير أسماء الشخوص.

 (26)
بدا تسفاي الآخر متوتراً طوال النهار في انتظار مغيب الشمس، الموعد الذي ضربته له الشبكة لاستلام المخطوفين الخمسة، هو السابعة من مساء الاثنين، والاتصالات تجري بين أطراف عديدة لضمان سلامتهم وعدم تعرضهم لأية مخاطر. كانت التعليمات واضحة له:
- عليك أن تأتي وحدك، سنحدد لك المكان لاحقاً.
الصورة: موقع سويس إنفو
رتب تسفاي المقر المقترح لاستضافة المخطوفين بعد استلامهم بالتنسيق مع المنظمة، وظل في حالة توتره التي حاول التخفيف عنها بطرق شتى، لكنه فشل. فمصير خمسة أشخاص معلق في رقبته هذا اليوم. قبل السابعة مساءاً بقليل جاءه الاتصال الذي انتظره. أكد له المتصل باستغلال عربة أجرة من طراز (أتوس) من الشارع والآن، ثم أمر بإعطاء الهاتف لسائق العربة ليحدد له المكان على مشارف قرية في أطراف مدينة كسلا.
جرت الأمور كما هو مرتب لها، والأجهزة الأمنية تتابع الموقف وتراقب من بعيد. وصلت العربة الأتوس إلى المنطقة المحددة ثم جاءت التعليمات إلى السائق بأن يترجل تسفاي الآخر عنه والمغادرة فوراً وسيجد أجرته في تلفونه عبارة عن (رصيد). التزم السائق بالتوجيهات، وترجل تسفاي الآخر ليجد بجواره عربة (بوكس)، وقبل ان يستدرك الأمر تماماً وجد نفسه داخلها. الناظر إلى العربة يجدها بلا هوية محددة، لوحاتها ملطخة بالطين أو ربما بدون لوحات، جانبها الأيسر يوحي بأنها موديل 2012، لكن جانبها الأيسر يقول إنها من موديلات التسعينيات، لا أحد يعرف.
(27)
انطلقت العربة بسرعة فائقة مخترقة هدوء القرية الطرفية وهي تدور داخل أزقتها بذات السرعة، ثم انطلقت إلى داخل المدينة قبل أن يسأل السائق تسفاي عن المكان الذي سينزل فيه بصحبة المختطفين. وعندما حدد له المكان واصلت العربة مسيرتها بذات السرعة دون هدف محدد فيما يبدو، لكن سائقها يتابع على المرآة إن كان مراقباً من الخلف أم لا، وكانت العربة التي تراقبها فقدت أثرها. وعندما اطمأن، وجد تسفاي نفسه في المكان الذي حدده دون أن يدرك أي الطرق سلكته العربة.
الخطة لا تسير إلى نهايتها المرجوة وهي الاحتفاظ بالمخطوفين في المقر المقترح لحين تسليمهم لمفوضية اللاجئين ومن ثم إلحاقهم بمعسكرات اللاجئين. فبمجرد أن وجد تسفاي نفسه في قارعة الطريق مع الخمسة سار بحذر وفي ذهنه تدور كل الأحداث، ولم يكتشف ان هناك دورية شرطة ترابط بالمكان. إرتاب أفراد الدورية في هؤلاء الأشخاص ليسألوهم عن هويتهم ومكان سكنهم. وفي ظل الاضطراب الذي سيطر على تسفاي أقتيدوا جميعهم إلى مركز الشرطة ليطلق سراح تسفاي الآخر بعد ان ابرز هويته التي تثبت مكان عمله وسكنه، ويظل الخمسة الباقون في حراسات الشرطة لحين التحقيق معهم. وبعد التحقيق مع اللاجئين الاثنين في اليوم التالي سلموا إلى مفوضية اللاجئين لإعادتهم إلى معسكر شقراب الذي خرجا منه ومعهم الوثائق التي تثبت ذلك، فيما بقيت أسمريت ورفيقيها رهن الحجز باعتبارهم متسللين بطريقة غير شرعية عبر الحدود.
أسقط في يد شبكة التهريب والخطف، وهي تتلقى معلومة بالكمين الذي نصب لعضوها في الخرطوم وفقدانها أثر المختطفين وتسفاي الآخر.
(28)
بعد أن جرت الأمور على هذا النحو وفتحت في حق الثلاثة بلاغات تحت المادة (30) وفقاً لقانون الجوازات والهجرة والجنسية، والتي تنص على: "كل من يتسلل إلى السودان أو يدخل خفية أو يبقى بطريقة غير مشروعة، يعاقب بالسجن لمدة لا تقل عن سنة ولا تتجاوز سنتين أو بالغرامة أو بالعقوبتين معاً، ويجب على المحكمة أن تأمر بإبعاده."
هكذا وجدت أسمريت نفسها في مواجهة القاضي، وهي مواجهة بالإبعاد إلى أرتريا، الأمر الذي لم يخطر على بالها قط، بعد أن قضت في سجن النساء أكثر من اسبوعين. وجاء دور المنظمة المعنية بالعون القانوني لتوكيل محامي من بين أعضائها للدفاع عنها، وهو النشاط الذي ظلت تقوم به لسنوات، ونجحت في كثير من الأحيان في إقناع المحكمة بوضع المتهمين وتحويلهم من خانة المتسللين إلى طالبي لجوء.
المحامون دائماً مواجهون بصراحة نص المادة (30)، وسكوت قانون اللجوء عن كيفية دخول طالب اللجوء للبلد الآخر، الأمر في ظاهرة يبدو متعارضاً، ففي الدول المتقدمة أي شخص طلب اللجوء سواء دخل بطريقة شرعية او غير شرعية يحال للجهة المختصة بقضايا اللجوء. لكن لا بد من بناء خطوط دفاع رغم التناقض والصعوبات،  لحين استصدار القانون الجديد المقترح للتعامل مع هذه النوعية من القضايا.
تقوم خطوط الدفاع على عدة محاور أهمها، إن هناك ثغرات وعيوب في البنية القانوينة يستغلها مهربو البشر وإرهاب المتسللين بتسليمهم للسلطات لإبعادهم وإعادتهم من حيث أتوا، وهذا وضع جيد للابتزاز. ولأن المتهم أساساً طالب لجوء فإعادته إلى بلده يعرض حياته للخطر، خاصة ان السودان موقع على اتفاقية جنيف للاحئين لسنة 1951، التي تمنح الحق لطالب اللجوء بالفحص القانوني لمعرفة وضعه وضبطه وفقاً لقانون اللجوء.
وعلى المستوى النظري لا يمكن تصور أن طالب اللجوء سيتقدم للجهات المختصة في بلاده، للحصول على تأشيرة خروج ثم الحصول على تأشيرة دخول من البلد المضيف، فالشخص بطبيعة الحال هارب وهو في وضع وفي ظل ظروف لا تمكنه من الحصول على تأشيرة دخول.
واستفاد المحامي من شرح حالة أسمريت بكامل تفاصيلها في محاولة منه لاستمالة القاضي إلى جانب دفوعاته.
(29)
حكمت المحكمة بشطب التهمة الموجهة إلى أسمريت وإحالتها إلى مفوضية اللاجئين للنظر في أمرها. هكذا تنفست أسمريت الصعداء وعبأت صدرها بالهواء بعد ان ترجم لها تسفاي حكم القاضي. وها هي تتجواز بوابة المحكمة إلى الخارج، وبعض النور الذي انطفأ يطل من بين عينيها.
أيام قليلة ووجدت نفسها في معسكر أم قرقور ناحية القضارف، بتوصية خاصة من مفوض مكتب اللاجئين التابعة للأمم المتحدة بالنظر في قضيتها والإسراع في فحصها والبت في أمرها. وعادت تراودها الآمال بعد أن اتصلت بشقيقها محاري.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق