في سيمياء الخطاب الإعلاني

كلما أفكر في تجاوز اللافتة الإعلانية الضخمة القائمة على مدخل كبري بحري، أجدها تطاردني في طريقي اليومي وأمام ناظري، وبهذا يشكل الموقع واحدة من خصائص الإعلان الناجح في الطرقات العامة. وربما لأنني آثرت الانشغال عنها بغيرها من قضايا، إلا أن الكتابة عنها تراودني بشكل فظيع. فما أن تعبر بك العربة تجاه مدينة بحري حتى تقف أمامك تلك اللافتة –وهي متواجدة في موقعها منذ أشهر- تحمل إعلاناً للمؤتمر التنشيطي الأخير لحزب المؤتمر الوطني.

يحمل الإعلان داخل إطاره نصاً وصورة، مما يجعل القراءة للخطاب المرسل تشمل النص منفرداً وكذلك الصورة، وفي مستوى ثالث الاثنين معاً، للخروج بالرسالة المراد بها التأثير على المستقبِل. النص داخل الإطار يعلن عن المؤتمر المشار إليه أعلاه ليحدد الجهة صاحبة الإعلان ويعلن عن رسالة بالخط العريض أسفل الصورة وهي جاءت كما يلي "نستطيع أن نفعل...... أكثر". وما بين النص الحامل للتعريف بالجهة والنص الرسالة توجد صورة لرئيس حزب المؤتمر الوطني عمر البشير باسماً وتؤشر يده ناحية الغرب إلى أعلى قليلاً (الإشارة إلى الاتجاه ليست بذات معنى فهي يفرضها الموقع، فبوضعها في اتجاه آخر يمكن ان تشير يده إلى الشرق أو الجنوب او الشمال).

مصمم الإعلان لم يتجاوز قيد أنملة العقلية التجارية في تصميم الإعلانات عن السلع الاستهلاكية التي تملأ شوارع الخرطوم العاصمة. وبعيداً عن الحساسية الفنية، لم يكلف نفسه بما قد توحي به بالدلالات التي يمكن قراءتها من خلال الصورة أو النص (الرسالة)، بحيث يمكن خلق التوازن اللازم بين النص والصورة (مجتمعين) والسياق الذي يشكل الإطار العام للرسالة الكلية المراد توصيلها للمتلقي.

اختار المصمم النص (الرسالة) "نستطيع أن نفعل ... أكثر"، وهو نص يحاكي الإعلانات التجارية لا السياسية، ويمكن أن يحتمل أكثر من رسالة سلبية مقروءة مع الواقع السياسي وتجربة حزب المؤتمر الوطني في الحكم. فمكان النقاط التي تخللت النص "..." يمكن إضافة (بكم)، لتقرأ كما يلي "نستطيع أن نفعل (بكم) أكثر". معقول!! أكثر من ما فعلتوه، هكذا يمكن أن يتبادر إلى ذهن المتلقي، وتترى في خياله كل ما هو مرتبط بسياسات الحزب الحاكم التي قادت البلاد إلى الوضع الحالي الذي بدأت قطاعات من حزبهم في التذمر منه ناهيك عن الشعب الفضل.

ولأن الصورة مكون أساسي للإعلان، يجب اختيارها بدقة بحيث تكمل الإطار العام للرسالة الإعلانية، فصورة رئيس الحزب في ذلك الإعلان يبدو فيها واقفاً ويؤشر ناحية الغرب، هذا من ناحية موقع اللافتة في مدخل كبري بحري. والإشارة غرباً مقروءة مع النص (الرسالة) بعد إضافة (بكم) يمكن أن تفسر بأن المؤتمر الوطني ينوي أن يفعل بدارفور في ناحية الغرب ما هو اكثر، وهو ما يدخل في باب التهديد، او يمكن أن تكون الإشارة إلى الغرب البعيد وفي هذه الحالة يقرأ النص (الرسالة) "نستطيع أن نفعل لكم أكثر" رغبة في إبداء حسن النية وطمعاً في حلاوة الجزرة بعد ان ذاقوا مرارة العصا. ويمكن لكل الاتجاهات أن تفسر وفقاً لقراءات متعددة للنص الرسالة.

الرسالة الإعلانية دائماً ما تتضمن، إلى جانب ما هو مباشر أو تقريري، كثيراً من الإيحاءات الدالة على عكس المراد بها أو المبطنة، وهذا ينطبق على الرسالة التجارية والسياسية. لكن في التعامل مع الرسالة الإعلانية السياسية يفترض المباشرة في المادة المرسلة والفكرة المراد تسويقها، بحيث تقل المسافة – إذا لم تنعدم- بين المباشر والإيحائي. لكن عقلية السوق المتغلبة على الحساسية السياسية لا تهتم كثيراً بذلك الفرق وإن اتسع بقدر مساحة السودان، طالما سيقبض المصمم ثمناً مغرياً لأي مادة ينتجها ولا يكلف صاحب الشان نفسه في قراءتها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق